المقولة الشائعة عن الشعر بأنه ذو طبيعة ريفية ومنشأ ريفي ليست خاطئة تماما، باعتبار أن الشعراء الذين يولدون في الريف يترعرعون في كنف عالم شاسع من الألوان والأصوات والتضاريس والمرئيات. فهنا العلاقة بين الأرض والسماء مفتوحة على مصراعيها، حيث يتسقط البشر بأعينهم الأشعة الأولى للشمس ويرون إلى غروبها بأم العين، ويراقبون هطول المطر وجريان الينابيع وحركة النجوم في الأفلاك وتدرجات الألوان والظلال واخضرار الحياة وذبولها. وفي كنف هذا المسرح الواسع تتفتح الحواس مجتمعة وتتسع المخيلة إلى أبعد حدودها ويجد الشعر، كما الفن بوجه عام، منهله الأكثر ثراء وخبزه الدائم الذي يقتات به في مستقبل الأيام. ولن يكون الرسم بدوره بعيدا عن هذا الكنز البصري الهائل الذي أسس الانطباعيون من خلال وليمته اللونية المتحولة إحدى أكثر مدارس التشكيل شاعرية واحتفاء بالطبيعة. لا يعني ذلك بالطبع دعوة مضمرة لهجر المدن والحواضر والعودة إلى الريف من أجل استعادة شاعرية الأماكن الضائعة، ولا إلى الاقتصاص من المدينة بغية «ترييف» الحياة والحفاظ على قيم البداوة النقية، كما فعلت القبائل الهلالية بمدينة القيروان، بقدر ما يعني إبعاد المدن المعاصرة عن التخثر الروحي وصنمية المادة، وتلطيفها ما أمكن بذلك النسيم العليل الذي يهب من جهة الروح الطفولية للكائنات. وربما كانت نيويورك من هذه الزاوية المدينة النموذجية للتخثر والقسوة وتحنيط القيم، حيث كل شيء قابل للبيع والشراء في بورصة الجشع الدنيوي وتكديس الثروات. ولأنها بابل الجديدة، فقد رأى فيها الشعراء النقيض الفظ لروح الشعر وصورته ومعناه، وكتبوا في هجائها قصائد ناضحة بالمرارة والرفض، منذ قصيدة غارسيا لوركا «شاعر في نيويورك»، وحتى قصيدة أدونيس «قبر من أجل نيويورك» التي ميز فيها بين الورقة/ العشب، والورقة/ الدولار. وإذا كانت نيويورك هي النموذج الصارخ لمدن الملح والأسمنت وأهراءات العرق الإنساني والربح الفاحش، فإن ثمة مدنا أخرى تنبض بالشاعرية وتومئ إلى منبتها الريفي وتحدب على ساكنيها كما تفعل الأمهات. وإذا كان الشعر، كما الفن، يستل من الطبيعة والريف مادته الخام وعناصره الفطرية، فإن هذه المادة وتلك العناصر لا بد أن يتم صقلهما في ضوء التطور المعرفي والتفاعل الثقافي الخلاق الذي يجد في المدن المعاصرة مختبره وفضاءه الأرحب. وكل فن خلاق لا بد أن «يمدن» شطره الريفي من جهة، وأن «يريف» شطره المديني من جهة أخرى.