القصاص والروائي والشاعر... والكاتب المسرحي البحريني أمين صالح، واحد ممن أعطوا الكتابة الأدبية في الخليج العربي خصوصاً، وفي الوطن العربي أيضاً، نكهة ولوناً متميزين، سواء من خلال الغوص في أعماق المكان وتفاصيله، والإفادة من البيئة المحلية، أو عبر التجريب الواعي والمنطوي على رغبة عارمة في التجديد، من جانب، وعلى رغبة جارحة في تعرية الكثير من هزائم الواقع وآلامه وأوهامه، من جانب آخر. نص مسرحية "حيدر" خير دليل على هذا التجريب، فهو ينطوي على تلك الرغبة في التجديد، لكنه التجديد الذي لا يكتفي بالشكل، بل هو التجديد الذي لا يتورع عن الهدم من أجل البناء، على صعيد الشكل/ البنية، كما على صعيد المضمون. فهو تجديد في الكتابة، يسعى إلى تغيير عميق في الإنسان وفي المجتمع، وبعيداً عما ألفت الكتابة الواقعية الملتزمة من شعارات التغيير، التي تكشفت عن هياكل مفرغة من أي مضمون معمق. ويبدو ذلك في طرح الأسئلة الكبرى من خلال هموم الإنسان الصغيرة. نحن هنا، في هذه الوقفة، أمام عملين: الأول نص مسرحي، هو عبارة عن مشهد متصل في حلقات ومشاهد يتفرع بعضها عن بعضها الآخر، والثاني عرض مسرحي، ينطلق من النص حاملاً رغبة التمرد عليه، وهو عرض من مشهد واحد موزع على هيئة "لوحات" تمثيلية، تتوالد من رحم بعضها، وتتكئ اللوحة على سابقتها، لكن اللاحق يأتي مفاجئاً للمتلقي. وعلى ما بين العملين من فروق، فهما يصبان - في النهاية - في نهر العمل ذي البعدين، الفني والموضوعي الفكري. المخرج فراس زقطان أجرى تحويلاً أساسياً في بنية النص، بدءاً من تغيير عبارات الفاتحة والخاتمة، مروراً بتقديم رؤى لم تكن حاضرة في النص الأصلي، وانتهاء بتحويل بعض الرؤى التي جاء النص لينطق بها، وإعطائه مضامين ورؤى جديدة، من دون أن يتعارض مع مقولاته الأساسية أو يتناقض معها... فكل اختلاف مع النص، أو انحراف عنه، جرى في إطار بنيته الكلية وما تسمح به، وليس ثمة تغيير جذري في العرض. فالبنية التجريبية في النص تفرض قدراً من الالتزام بعناصرها الأساسية، لكنها تسمح بإعادة تشكيل هذه العناصر، واقتراح حلول إخراجية ملائمة لها. نص "حيدر" ذو بنية مركبة، تعكس البنية النفسية المعقدة للشخصية الأساسية التي يجسدها، أعني شخصية "حيدر" المفعمة بالغربة الناجمة عن الرعب من العالم" من الموت، من التعذيب، من الوحدة القاسية. فشخصية "حيدر" في مراحلها المتعددة والمتداخلة، تنم على شخص مرعوب ومهزوم، أكثر مما ترسم ملامح شخص مجنون، ذلك أن الجنون يلغي العقل والمنطق، بينما "حيدر" شخص يتحدث بمنطقية وعقلانية عاليتين. كما أن حيدر لم يفقد الرغبة في التمرد والتغيير، وإن فقد القدرة على ذلك. وهنا نجد المفارقة في سؤاله، وهو في مشفى الأمراض العقلية "لماذا أنا هنا؟"، فلا نعرف على وجه التوكيد إن كان هذا المكان مشفى أم سجناً؟! وقد كان خليقاً بالنص وبالعرض عدم الكشف عن ماهية المكان وحقيقته، ليظل ملتبساً بين كونه مشفى وسجناً في الآن نفسه. لكن المؤلف اختار وتبعه المخرج طرح فكرته بوضوح، عبر صرخته الهائلة "هذا ليس مصحاً بل زريبة... سجن. كيف يمكن للمريض أن يشفى في السجن؟ هذا مكان لا أحتاج إليه أبداً". لكن اللعبة تظل تحمل أبعاداً متشابكة بين المكانين، مثلما يظل ممتعاً التنقل بين الأزمنة التي تجسد حياة "حيدر". فالتنقل الزمني في النص، ليس مجرد لعبة فنية، بل هو مبني على فلسفة حياتية، فلسفة تقوم على اعتبار زمن الطفولة زمناً أولَ تكوينياً، وترى إلى ما يليها من أزمنة بوصفه ولادات من رحم ذلك الزمن الأول. القصة في الأساس هي قصة النكبات التي شكلت شخصية "حيدر"، الكاتب الذي يعاني الانفصام. وقد صاغها المؤلف ليضيء من خلالها مجموعة من إشكاليات الإنسان وخصوصاً المبدع العربي وهمومه وأسئلته، سواء على مستوى سؤال الإنسان الفرد، أم على مستوى الأسئلة الاجتماعية الكبرى، لكن ذلك كله يتوالد من أسئلة الفرد نفسه، بوصفه مزيجاً من الفردي والاجتماعي معاً. وبهذا التركيب، ربما كان نص أمين صالح من النصوص الصعبة التحقيق على الخشبة، وهنا تكمن مغامرة مخرج شاب، وفريق مسرحي من الشباب في التصدي لتجربة كهذه. النجاح الذي حققه المخرج وفريقه، وبصرف النظر عن حجم الالتزام بالنص أو الخروج عليه - بل ربما بسبب هذا الخروج - كان نجاحاً متميزاً، ليس فقط قياساً إلى ما يجري على خشبة المسرح الأردني، بل لعلني لا أبالغ إذا قلت إنه نجح في إضافة تجربة مميزة إلى ما نشاهد من عروض المسرح العربي، وذلك على غير صعيد، منذ اختيار النص الصعب هذا، وبما انطوى عليه العرض من حلول بصرية ومؤثرات صوتية - على قلتها، وانتهاء بالأداء الذي جاء في غالبيته العظمى معبراً عما يسعى العمل إلى قوله. تنطوي رسالة العمل، والحديث هنا على صعيد العرض والنص معاً، على أبعاد كثيرة متداخلة، وعلى عناصر دلالية عدة، فهي رسالة حافلة موجهة إلى عناوين متعددة، منها ما هو اجتماعي - إنساني، وهو المحور الأساس فيها، حيث ثنائية حضور الأم/ غيابها تشكل محوراً مركزياً في النص والعرض. ومنها ما يتوجه بأسئلته إلى السياسي والفكري، وهذا جانب يبرزه العرض ويركز عليه بأكثر مما يبرز في النص، لكنه يبقى في الحالين جانباً مستبطناً، ويجري التعبير عنه بلغة رمزية شفافة. وفيما يخص السؤال الاجتماعي ذا البعد الإنساني، يتكثف الطرح حول معاني الحرية وإشكالياتها. ففي غياب الحرية، يغيب المعنى العميق للإنسان، ويتحول البشر إلى عبيد مؤسسات وقوانين عمياء تفرض إرادتها، فتسحق الروح الإنسانية، لتحل محلها روح القطيع. في هذا المعنى نشير إلى علاقة الأب/ الابن، ف"حيدر" يكاد يكون نسخة عن والده. إذ يشعر الأب - في حواره مع ابنه - أنه لا يمتلك الوقت لرعايته، بعد وفاة والدة "حيدر"، بسبب ضغط العمل أولاً، ولكن بسبب ضغوط الحياة وجفاف العاطفة أساساً، هذا الجفاف الناجم عن الحرمان والسحق الذي يتعرض له الأب منذ طفولته أيضاً، والذي سيتعرض له الابن حيدر بدوره. ويعترف الأب، بعد فوات الأوان، بأنه كان قاسياً مع زوجته، فيبرر ذلك بقسوة الحياة نفسها، ليغدو جلاداً لزوجته وضحية للمجتمع في آن. وليس الطبيب أفضل حالاً، فهو مريض/ منفصم آخر يقوم بدور معالجة شخص متهم بالجنون، ومدير المؤسسة العلاجية دكتاتور ومتوحش، أما الجدة والعمة فهما تمارسان دور الجلاد مع "حيدر"، فيما هما ضحيتان من ضحايا المجتمع. نحن -إذاً- أمام منظومة من البشر المنقسمين على أنفسهم، الضحايا الذين يقومون - رغماً عنهم - بدور الجلاد. وهنا نتوقف عند مشهد في النص الأصلي، لم يقدمه المخرج كما هو، بل اختصره من دون مبرر واضح. ففي لقاء "حيدر" مع حبيبته الوحيدة، تظهر ساديته حين يغرز أظافره في لحم خدها، ويكشط قطعة من جلدها وقطرات من دمها...الخ. في هذه اللقطة كان ينبغي أن يظهر مدى رعب "حيدر" من العالم، من خلال رعبه من أن تكون صديقته ترتدي قناعاً، فهو يريد أن ينزع القناع عن وجهها ليتأكد من حبها له، وليراها على حقيقتها. هذا تفسير واحد للقطة من أهم لقطات النص التي أسقطها الإخراج. وهي لقطة تشير إلى ما وصل إليه الشخص من غربة عن العالم، وما يمكن أن يصدر عنه من "جنون" الانفصام! لن نستطيع أن نوفي هذا العمل حقه، لذا نسارع إلى العرض، وما جرى فيه، فهو كما قلنا لم يلتزم حدود النص، وقدم رؤيته الخاصة للانفصام مجسدة في الحل البصري على غير صعيد، خصوصاً على صعيد الملابس المتميزة" الأبيض والأسود في حال تداخل كلي، في ملابس "حيدر" حيث الثوب الأبيض تتخلله ثقوب كبيرة تبرز اللون الأسود الذي تحته، أو ملابس الطبيب/ الأب، والممرضة، مع اختلاف في توزيع العلاقة بين الأبيض والأسود بوصفهما لونين متناقضين متصارعين. وكان تحريك المخرج للممثلين الثلاثة موفقاً إلى حد كبير. وقد نجح الممثل علي عليان في إظهار التعبير عن الصراع الداخلي معظم الوقت، ولم يكن نجاحه كاملاً طول الوقت؟ فقد كان في حاجة، إضافة إلى الحركة الدائبة فوق الخشبة، إلى التعبير، بوجهه وصوته وسكناته وحركاته، عن مراحل العمر المختلفة، لكنه لم يمنحنا - مثلاً - الشعور بذلك الطفل المعذب إلا عبر الكلمات. وفي المركز الثاني جاء الممثل عايد علقم الذي أدى أدوار الأب والطبيب ومدير المشفى. فقد خلق مسافة بين الشخصيات المذكورة. أما الممثلة جاسيا فقد كان أداؤها أقل حرارة مما يفترض بامرأة تقوم بأدوار أساسية في حياة الشخصية الرئيسة، الجدة والعمة والممرضة والصديقة/ الحبيبة. من بين العناصر التي تستحق الإشادة في العرض، كانت الإضاءة أولاً ذات حضور مدهش، يتناغم مع الجو واللحظة، خصوصاً في تشكيلها وجوه الممثلين وتغييرها في لحظات التحول، إذ لم يكن مستوى تعبير الوجوه كما ينبغي، فلعبت الإضاءة دوراً تعبيرياً بديلاً. أما الموسيقى فقد كانت، على ضيق المساحة المتاحة لها، ذات تأثير قوي أيضاً، لما تضمنته من لعب على المشاعر والأحاسيس من دون صراخ أو ثرثرة موسيقية. ويمكن الإشارة أخيراً إلى الوحدات الديكورية الموفقة التي عبرت عن ضيق المساحة المتاحة للحركة أمام الممثل/ الشخص، وفي هذا تعبير عما يشعر به شخوص العمل جميعاً تقريباً، كما لو كانوا في سجن، مجازي حيناً، وحقيقي حيناً آخر.