تراجع أسعار الذهب في تعاملات اليوم    آسيا والمحيط الهادئ على الخط الأمامي لأزمة المناخ    معالي أمين منطقة عسير يزور معرض صنع في عسير    أمسك.. حرامية المساجد!    خريجو «خالد العسكرية»: جاهزون للتضحية بأرواحنا دفاعاً عن الوطن    التعادل الإيجابي يحسم لقاء الأخدود مع الوحدة في دوري روشن    القرار الصعب    ارتفعت 31.5 % في الربع الأول    متى القلق من آلام البطن عند الطفل ؟    قد لا تصدق.. هذا ما تفعله 6 دقائق من التمارين يومياً لعقلك !    5 أطعمة تعيق خسارة الوزن    «رحلة الحج» قصص وحكايات.. «عكاظ» ترصد: كيف حقق هؤلاء «حلم العمر»؟    السلاحف البحرية معرضة للانقراض    الفتح يتغلب على الحزم بهدفين في دوري روشن    الاتحاد يتغلب على ضمك برباعية في دوري روشن    مصدر هلالي ل "الرياض": إصابة مالكوم غير مقلقة    هزة أرضية بقوة 3.9 درجات تضرب نيو ساوث ويلز الأسترالية    توقف الخدمات الصحية في أكبر مستشفيات جنوب غزة    لندن: تقديم رجل مسن للمحاكمة بتهمة مساعدة روسيا    مواجهة الهلال والوحدة بين الطائف والرياض    البليهي: تبقى لنا مباراة لإنهاء الدوري بلا هزيمة    الدكتوراه لفيصل آل مثاعي    القمر يقترن ب «قلب العقرب» العملاق في سماء رفحاء    «الثقافة» و«التعليم» تحتفيان بالإدارات التعليمية بمختلف المناطق    سفارة المملكة في إيرلندا تحتفي بتخرج الطلبة المبتعثين لعام 2024    الاستثمار الثقافي والأندية الأدبية    نمو الجولات السياحية ودعم الاقتصاد الوطني    «الحونشي»    حظي عجاجه والحبايب (قراطيس) !    هل بقيت جدوى لشركات العلاقات العامة؟    د. رائد الحارثي: الذكاء الاصطناعي هو الحل للجدولة    جدول ترتيب الدوري السعودي بعد نهاية الجولة 33    تنوع أحيائي    مجدٌ يعانق النجوم    ثانوية السروات تحتفي بتخريج الدفعة الأولى من نظام المسارات    نزاهة: حادثة التسمم الغذائي بأحد مطاعم الرياض لن تمضي دون محاسبة    فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة الشرقية يكرم موظف سوداني    إثراء يختتم قمة الاتزان الرقمي "سينك" بنسختها الثانية    فيلم "نورة"يعرض رسميا في مهرجان كان السينمائي 2024    فيصل بن خالد يرأس اجتماع الجهات الأمنية والخدمية المشاركة في منفذ جديدة عرعر    مستشفى أبها للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للربو"    مستشفى الحرجة يُنظّم فعالية "التوعية عن ارتفاع ضغط الدم"    القبض على وافد بتأشيرة زيارة لترويجه حملات حج وهمية ومضللة    دفعة جديدة من العسكريين إلى ميادين الشرف    السعودية تدعم عمليات الإنزال الجوي الأردني لإغاثة الفلسطينيين في غزة عبر مركز الملك سلمان للإغاثة    أمير حائل يشكر جامعة الأمير محمد بن فهد    السعودية تفوز بعضوية مجلس منتدى النقل الدولي ITF    رفع كسوة الكعبة المشرَّفة للحفاظ على نظافتها وسلامتها.. وفق خطة موسم الحج    أدبي الطائف يقيم الأمسية السودانية ضمن لياليه العربية    تمكين المرأة.. وهِمة طويق    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 142 مجندة من الدورة التأهيلية    الاستعداد النفسي أولى الخطوات.. روحانية رحلة الحج تبعد هموم الحياة    توريد 300 طن زمزم يومياً للمسجد النبوي    الكاتب العقيلي يحتفل بتخرج إبنه محمد    معرض «لا حج بلا تصريح» بالمدينة المنورة    آل مجرشي وآل البركاتي يزفون فيصل لعش الزوجية    الخريجي يقدم العزاء بمقر سفارة إيران    دشن هوية «سلامة» المطورة وخدمات إلكترونية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يتفقد سير العمل في الدفاع المدني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في التنظيمات التقليدية . "المؤسسة الدينية" الاسلامية بين الدولة والمجتمع الأهلي في العصر العثماني
نشر في الحياة يوم 19 - 08 - 2001

إن الموقف الفقهي الذي يعتبر السلطنة العثمانية احدى السلطنات التي جاءت امتداداً طبيعياً لسلطنة السلاجقة، الذي يجد جذوره في ما أرساه الماوردي من نظريات حول "السلطنة"، يجد تطبيقه العملي في الموقع والوظيفة اللذين احتلهما العلماء في الدولة العثمانية.
ولما كانت لغة القرآن والشريعة وعلوم الدين هي اللغة العربية، كان العلماء الأتراك يدرسون بالعربية على يد علماء دمشق وحلب والقاهرة ويصنفون مؤلفاتهم بها، فاحتل العلماء العرب لهذا السبب موقعاً متميزاً.
1- العلماء والمؤسسة الدينية
ونقابة الأشراف
في هذا السياق شكل العلماء - عرباً وتركاً - ما كان يمكن ان نسميه "المؤسسة الدينية" في جهاز السلطنة العثمانية، ذلك ان السلطنة قامت، وبسبب ما يمكن ان يضيفه ممثلو الشريعة على "شرعيتها"، بتنظيم العلماء على شكل سلسلة من المراتب بدرجات معينة معلومة ووظائف رسمية مع مرتبات تجرى عليهم بانتظام. وكان رؤساء هذه المراتب الدينية، وهم شيوخ الإسلام وكبار شيوخ القضاة والإفتاء، يستشارون في شؤون الدولة العليا، وكان القضاة في الأقاليم السبيل الأكبر الذي كان يجري عن طريقه الاتصال والترابط بين الحكومة المركزية والرأي العام لمساعي المدن الكبرى، وأولت الحكومة رعايتها وحمايتها المدارس الإسلامية في المدن العربية، وقامت هي من قبلها تأسيس مدارس جديدة في اسطنبول لتخريج رجال الدين وملء المراكز العليا في الإدارات والمصالح الدينية.
هذه "المؤسسة الدينية" التي اعتبرها المؤرخون جزءاً من جهاز السلطنة العثمانية، شكلت في الواقع نافذة "المؤسسة الحاكمة" على المجتمع عبر وظيفتها القانونية والتعليمية في الولايات والمقاطعات. بيد ان هذه النافذة لم تكن تستوعب كل العلماء الذين يتخرجون من المدارس الدينية الكبيرة المنتشرة في مدن العالم الإسلامي والتي تفتح ابوابها لكل طالب علم، لذلك بقيت حركة التعليم الديني وعلى رغم تدابير الدولة لإدخالها في إطار المؤسسة، مستقلة نسبياً عن الوصاية الرسمية وبقي المجال مفتوحاً لاستقلال قسم من العلماء عن المؤسسة الحاكمة، وتكتسب هذه الإشارة معنى اكيداً بالنسبة الى المسلمين الشيعة حيث استقلت مراكز التعليم الديني عندهم استقلالاً كاملاً عن المؤسسة العثمانية الحاكمة وحيث شكل "المرجع المجتهد" مصدراً للحكم الفقهي والفتوى.
ومهما يكن من امر، فإن العرب المسلمين وجدوا في الولايات العربية في العهد العثماني مجالاً لهم في قطاع الوظائف الدينية، فهذا القطاع شكل عبر مراتب الإفتاء والقضاء وأمانة المساجد وغيرها من الوظائف الدينية، احد مجالات التعبير عن السلطة المحلية العربية، إذ كان المفتون والقضاة في غالبيتهم وفي اكثر الأحيان من السكان المحليين.
ولعل هذا ما سمح بقيام تنظيم للمدينة الإسلامية يوازن ما بين "المؤسسة العسكرية" للحكم العثماني الوالي والحاميات العسكرية والمجتمع وذلك عبر التنظيم الديني الذي يأتي في مقدمته المفتي ونقيب الأشراف والقاضي الذي هو "الحاكم الشرعي" للمدينة. وقام "الحاكم الشرعي" وقبل استحداث التنظيمات العثمانية بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر بمهمات سلطوية عدة ومتنوعة. فثمة قراءة منهجية لسجلات محكمة طرابلس الشرعية في القرن السابع عشر ومطلع القرن الثامن عشر، تتيح لصاحبها ان يستنتج "أن المهمات المتعددة الملقاة على عاتق الحاكم الشرعي كانت واسعة جداً، وقام بمهمات قاضي الأحوال الشخصية، والقضايا المستعجلة"، وحكمة التجارة والاستئناف والجزاء والجنايات، إضافة الى أن محكمته كانت ديواناً للمظالم، اي المحكمة التي تنظر في الدعاوى على الحكام. ولعب ايضاً وظيفة قاضي العسكر. وواقع الأمر ان وظيفة الحاكم الشرعي كانت اوسع من ذلك، فهو الذي يوجه الوظائف الدينية وهو الذي يثبت مشايخ الحرف في مشيخاتهم ويفض منازعاتهم. كما يشرف على الأوقاف ويعين المتولين عليها. ويظهر لنا ان الحاكم الشرعي كان صلة الوصل بين الوالي والأهالي في ما يختص بشؤونهم وإنفاذ اوامر حكام السياسة" راجع خالد زيادة.
صحيح ان هذه المهمات السلطوية تتمحور حول القاضي، بيد ان هذا التمحور يشكل نقطة التوازن بين الوالي بصفته استمراراً لنظام السباهية العثماني الإقطاع العسكري، وبين شبكة من الحلقات المتداخلة في التنظيم الديني الذي يحتضن نشاطات وفاعليات المجتمع في المدينة من علماء رجال دين وأشراف وحرفيين وتجار. فشبكة العلماء ومريديهم تتكون من مجموعة واسعة من الأفراد ابتداء من خطباء المساجد وأئمتها الى المؤذنين والقوام والخدمة والقراء والوعاظ الى المؤدبين والترابدارية" الى خدمة الأضرحة والمزارات والمقابر..."، وهؤلاء وإن كانوا يعينون من قبل القاضي، ويتقاضون مداخيلهم من خلال الأوقاف التي هي تحت سلطته، ألا أنهم لم يشكلوا "جهازاً حكومياً" ملحقاً بالإدارة المركزية، فقد كانوا يمارسون الى جانب وظائفهم التي يختارون لها "أعمالاً وحرفاً مختلفة"، وسبب ذلك ان المداخيل المخصصة لم تكن كافية، وأن الإسلام نفسه لا يدعو الى قيام مثل هذا الجهاز المستقل عن المجتمع، بل على العكس فإن مفهوم العلم والعلماء في الإسلام يستتبع انفتاحاً كلياً على الجماعة وبالتالي على المجتمع، حيث ينتظم "العالم - الفقيه" في الجماعة كجزء عضوي فيها وحيث يقدم العلم للآخر كواجب من واجبات المسلم.
أما فئة الأشراف في التنظيم الأهلي الديني فكانت تتشكل من العائلات ذات الأنساب الشريفة، التي تعود في نسبها الى أهل البيت. هذه العائلات انتظمت منذ القديم في أطر من علاقات القربى عملاً بالحديث الشريف "اعرفوا انسابكم تصلوا أرحامكم فإنه لأقرب بالترميم اذا قطعت وإن كانت قريبة ولا بعد بها إذا وصلت وإن كانت بعيدة"، وكان ان ثبتت هذه الأطر في "الدولة السلطانية" على أساس مبدأ "الولاية" فيحدثنا الماوردي في الأحكام السلطانية والولايات الدينية من "ولاية النقابة على ذوي الأنساب" فيقول: "وهذه النقابة موضوعة على صيانة ذوي الأنساب الشريف عن ولاية من لا يكافئهم في النسب ولا يساويهم في الشرف ليكون عليهم احبى وأمرهم امضى... وولاية هذه النقابة تصح من احدى ثلاث جهات: اما من جهة الخلفية المستولي على كل الأمور وأما ممن فوض الخليفة إليه تدبير الأمر كوزير التفويض وأمير الإقليم وإما من نقيب عام الولاية... فإذا أراد المولى ان يولي على الطالبين نقيباً أو على العباسيين نقيباً يخبر منهم اجلهم بيتاً وأكثرهم فضلاً وأجزلهم رأياً فيولي عليهم لتجتمع فيه شروط الرياسة والسياسة فيسرعوا الى طاعته برياسته وتستقيم امورهم بسياسته".
وأما حقوق الولاية السلطة التي يتمتع بها النقيب فيعددها الماوردي باثني عشر حقاً إذا كانت "خاصة" وتشمل مجالات حفظ النسب ومتابعة الولادات والوفيات بآداب النسب وأخلاق الأفراد ومتابعة الولادات والوفيات والاهتمام بآداب النسب وأخلاق الأفراد ومكانتهم الاجتماعية. وهي في هذه الحدود تقتصر على "مجرد النقابة من غير تجاوز لها الى حكم وإقامة حد" وإلا فإن حقوق النقابة تصبح عامة وهنا يكون العلم معتبراً في شروطها، لأنها تتداخل مع مهمات القاضي. وإذا كان الماوردي قد فند صلاحيات "النقابة العامة" بإضافة "خمسة اشياء على حقوق النظر" اهمها الحكم في النزاع بين الأفراد وإقامة الحدود، فإنه من جهة اخرى حاول ان يوضح اشكالات الازدواج بين مهمات القاضي وبين نقيب الأشراف وحالات الاعتماد في كل حال كما استقرت في عصره. والمرجح ان الحال التي اعتمدت في الدولة العثمانية هي حال "النقابة الخاصة" المعينة من قبل نقيب الأشراف المقيم في عاصمة السلطنة، في كل مدينة او حيال كل نسب شريف". يصف الحصني وضعية "نقابة الأشراف" كما استقرت في العهد العثماني كالآتي: "نصبت النقباء وتقررت وظائف النقابة منذ القديم والحديث في ممالك الإسلام بقصد البحث عن حقائق الأنساب وتمييز السادة الأشراف من آل البيت ابناء الإمام علي وفاطمة رضي الله عنهما صيانة لذلك النسب الطاهر عن حصول الاختلاط المفضي الى تعلق بعض الأحكام الشرعية بغير اهلها مما لا يخفى من اندفاع الكثير في حصول المجد ورفعة الجاه بدعوى الشرف الحسني أو الحسيني خصوصاً في زماننا هذا. فالنقباء هم الذين ينبغي لهم التدقيق عن هذه الدعوى وفي نسب كل ما يمكن الاشتباه في نسبه من عامة الناس لئلا تضيع الحقوق الواجبة الرعاية لآل بيت النبوة وتسقط التكاليف الواجبة على من سواهم. ونقابة الأشراف وظيفة عالية لها شأنها في نظر العالم الإسلامي ولها تأثير عظيم في إصلاح احوال البيوتات النبوية وتدبر امورها مما اوجب الأمر الى محبة هذه الذرية الشريفة وتوقيرها وطاعة الناس لها لنفوذ كلمتها فيهم وكانوا يأتمرون بأوامرهم ويذعنون لرغباتهم الى غير ذلك مما يعود بعظيم الفائدة على هذا المجتمع وهي قديمة العهد في زمن الدول العربية وفي ايام الدولة العثمانية التركية، بدأ توظيف نقباء الأشراف السلطان بايزيد سنة 900 ه 1494- 1495م وعين لها سيد علي نطاع عاشق شلبي".
هذا الوصف لأحد أفراد عائلة الحصني التي شكلت إحدى عائلات الأشراف الدمشقية والتي تسلم افراد منها منصب نقابة الأشراف والإفتاء في دمشق، يسمح بالاستنتاج ان وظيفة النقيب انحصرت في حقوق "النقابة الخاصة" التي يعددها الماوردي. وأنها من زاوية "امتيازها" الديني في المجتمع الإسلامي، تملك موقعاً ممهداً أو موصلاً الى "حصول المجد ورفعة الجاه" في المجتمع على حد تعبير الحصني.
وإذا استعرضنا اسماء البيوت الدمشقية ذات النسب "الشريف" التي يعددها الحصني خلال الفترة العثمانية وحتى عصره مطلع القرن العشرين لاحظنا ان مناصب النقابة والإفتاء قد توزعت على الكثير منها، فأسرة بني العجلان ولي ثمانية منهم نقابة دمشق وثلاثة قلدوا منصب الفتوى وآل حمزة كان اكثر رجالها نقباء وعلماء، فضلاً عن خدمة المحافظة الترابدارية التي استمرت في ذريتهم وعائلة الأيجي وعائلة الحصني التي تسلم بعض رجالها منصب الإفتاء والنقابة في فترات عدة...
2- التنظيم الحرفي وطرق الصوفية: بين الدولة والمجتمع
اللافت للنظر في طبيعة السلطة الأهلية التي كانت للأشراف "هو في ارتكازها محلياً الى هياكل اجتماعية واقتصادية تؤطر المجموعات السكنية في المدينة. وسمحت علاقة الأشراف بأصحاب الحرف، وبنشاطات السوق "نظراً لوجودهم بين الحرفيين"، ونظراً لاحتلال بعض افراد هذه العائلات منصب "مشيخة" بعض الطوائف الحرفية، أو ممارستها للتجارة المحلية في اسواق المدينة، سمحت بإيجاد نوع من الهياكل التنظيمية والقواعد الاجتماعية السياسية التي كانت في اساس ممارسة السلطة، التي قامت بدورها على علاقات الحماية والمناصرة والتساعد في إطار طوائف الحرف أو شبكة علاقات القرابة في الحي.
صحيح ان "شيخ مشايخ الحرف" و"شيوخ الحرف" كانوا يعينون من قبل القاضي، لكن ثمة إرادة ذاتية محلية كان يعبر عنها التنظيم الاجتماعي - الاقتصادي المحلي عبر اختيار شيخهم المناسب. فمن دراسة "لطوائف الحرف والصناعات في حماه في القرن السادس عشر" اعتماداً على سجلات المحكمة الشرعية، نستنتج "أن شيخ سوق حماه وهو شيخ مشايخ الحرف كلها... كان يعين بإجماع التجار في سوق التجار... ويشترط فيه: ان يكون صاحب دين وأخلاق اهلاً للمشيخة لائقاً بها، أن يختاره ويرضى به كامل التجار، وأن يوافق القاضي والسلطان على تعيينه".
وكانت مهمة هذا الشيخ تشمل "الاشراف على كل طوائف الحرف ومشايخها" ويقوم بصلة الوصل ما بين الوالي والقاضي من جهة وهذه الطوائف من جهة اخرى ولا يتم اي تغيير فيها إلا بعلمه ورأيه. و"كان مشايخ الحرف كلهم ينتخبون بحضوره ويزكون بتزكيته". وشملت سلطة شيخ الطائفة إدارة شؤون أبناء الطائفة والاهتمام بمشكلاتهم والإشراف على تنفيذ اتفاقاتهم والطلب من القاضي تسجيل هذه الاتفاقات وكان يرفع شكاوى الطائفة على طائفة اخرى الى القاضي بنفسه. وكان الوالي يتصل بالطائفة عن طريقه.
هذه المهمات "الوسيطة" كانت لا تخلو من سلطة يمارسها الشيخ اعتماداً على العلاقات التنظيمية والأخوية الصارمة التي تربطه بأبناء الطائفة. وهي علاقات تتداخل في مستويات عدة تقنية ودينية وعائلية.... فعلى المستوى التقني والتنظيمي يخضع التعليم الحرفي لترتيبات دقيقة بدءاً من المبتدئين الى الصانع وإلى المعلم. وعلى قاعدة هذه الترتيبات، لشيخ الحرفة "الحق ان يشد بالكار المبتدئين الماهرين فيصيرون صناعاً أو معلمين. وحفلة الشد التي هي حفلة "ترفيع" المبتدئ الى صانع او الصانع الى معلم تلخص عبر سلطات المشرفين عليها وهم شيخ الحرفة والنقيب والشاويش. وعبر المشاركين فيها وهم اهل الحي والأقارب وأهل الحرفة "مشهد" سلطة اهلية تلمح فيه رموز حركات دقيقة لها دلالاتها في التوزيع الوظائفي للسلطة في المجتمع الحرفي، وفي الالتزام بعهود مواثيق دينية لها فعل الضوابط لأصول الحرفة واتقانها وعدم الغش فيها وسلوك مخافة الله في المعاملة. فالطابع الديني الذي يرتسم في حفلة الشد والذي يبدو في التشديد على قراءة "الفاتحة" والأدعية والأناشيد النبوية التي تتخلل الحفلة وإسباغ جو من الورع والتقوى على "المشدود" والحاضرين، كلها امور تشدد على "العهد" و"الميثاق" و"الأخوة" امام الله وأمام الجماعة. والعهد الذي يقطعه "المشدود" على نفسه امام معلمه، وبينما النقيب يقرأ الفاتحة فوق رأسيهما في مشهد تعبدي، يتم وفقاً للأعراف السائدة في المجموعة الحرفية دستوراً... هو نوع من المبايعة للمشدود في ان يلتزم بقواعد منها: الاتقان، عدم الغش، التسعيرة العادلة، التضامن مع رفاق المهنة. ولعل هذا الأمر هو ما يلفت انتباه لويس ماسنيون فيقول ان تعبير "الدستور" فإنما كانوا يستحضرون معنى الميثاق القائم على قسم ايماني".
ومهما يكن امر اصول هذا التنظيم الحرفي الذي استمر في المدينة الإسلامية حتى مطلع القرن العشرين، فإن ما يهمنا من التشديد عليه في الجانب الاجتماعي السياسي هو ما يقدمه هذا التنظيم من معطيات في الفكر والممارسة في مجال السلطة الأهلية. ففي هذا المجال تبرز طرق الصوفية والحركات الباطنية في الإسلام كصيغ تنظيمية وفكرية تتماثل مع الكثير من التقاليد الحرفية، فسرية المهنة وأخوية العلاقة بين رفاق المهنة تذكر بتنظيم حركات العامة والموالي في المدن والحركات الباطنية السرية وأخلاقيات الفتوة. وإعطاء مجالس الترفيع الشد طابعاً رمزياً من خلال الحركات والرموز والإشارات وحلقات الذكر، لا يذكر فحسب بطرق الصوفية وإنما يستدعيها ويستحضرها في الانتماء والممارسة الطقسية. فتتقاطع الحرف معها من حيث تراتبية مراحل المعرفة عند المريد، وتتوزعها من حيث تعدديتها الاجتماعية وأشكال التعبير فيها.
ومن هذه الفرق التي عرفتها بلاد الشام: الرشيدية والرفاعية والقادرية والشاذلية والدندراوية والبدوية والمولوية والنقشيدية والبكتاشية. وكان لهذه الطرق زوايا وتكايا يديرها ويشرف عليها شيخ الطريقة. ومن خلال تعداد محمد كرد علي لهذه الزوايا والتكايا في كل من دمشق وحلب والقدس والمدن وبعض المدن الصغرى الأخرى في بلاد الشام نستنتج ان بعض معالم هذه الزوايا والتكايا استمر حتى مطلع القرن العشرين، وأن توزعها الجغرافي في الأسواق والحارات انما يعكس الصورة الاجتماعية للعلاقات السياسية القائمة داخل المجموعات الاجتماعية والمتمحورة حول تلك المراكز التي تقاطع فيها طرق الصوفية وطوائف الحرف ومواقف سكان الحارة وأهل السوق. يقول جب وبوون في الدور السياسي الذي يلعبه هذا التقاطع بين الطائفة الحرفية والطريقة الصوفية في التعبير عن الموقع الاجتماعي للسكان الآتي: "وكانت الطائفة تخدم عدة أغراض، فقد كانت توفر الوسيلة التي تمكن اقل المواطنين شأناً من التعبير عن غرائزه الاجتماعية والاطمئنان الى مكانته في النظام الاجتماعي، وكانت الحال الذي يمارس حق المواطنة: فهو وإن لم يكن يستدعي إلا نادراً لكي يلعب أي دور في الحياة السياسية الخارجية، إلا انه من الناحية المقابلة كان في مأمن من ان يتدخل حكامه السياسيون في شؤونه إلا بشكل طفيف، إذ كانوا بوجه عام يحترمون استقلال الطوائف وطرائقها التقليدية. ومهما كان ينمي الوظيفة الاجتماعية للطوائف ليس كلها بل معظمها وخصوصاً طوائف الحرف، ما لها من ارتباطات مع احدى الطرق الدينية الكبرى".
ولعل هذا الارتباط بين الموقع المحلي الخاص المتمثل بالعائلة والمحلة والحرفة وبين الامتداد الديني لطريقة من الطرق التي تنتشر في انحاء العالم الإسلامي هو ما يسوغ الكلام عن انتماءات وسيطة توصل الى الانتماء الأشمل المتمثل "بالأمة" على مستوى الجماعة، و"بدار الإسلام" على مستوى المناطق. وأما العلاقة بالدولة فهي عبارة عن "رعوية" لسلطات تتمثل سلطته بسلم من صلاحيات "الولاية" التي تتركز محلياً حول جباية الضرائب وضبط الأمن من دون ان تتدخل في الانتماءات الوسيطة لكسرها أو إلغائها. ولعب مشايخ طرق الصوفية دوراً مهماً في تحديد السلوك الاجتماعي والسياسي للتابعين في الحارة أو الطائفة. يقول احد ابناء الحرفيين في وصف علاقة الدمشقيين بمشايخ الطرق: "ولما لم يكن من الوسائط بالنسبة إليهم ما يأخذ بأيديهم الى جادة الحق والصراط المستقيمين، إلا ملازمة طبقة العلماء وبعض الزهاد ممن اشتهروا بفضلهم وزهدهم ونسكهم اخذوا يلتفون حولهم منذ زمن بعيد، يرجعون إليهم بكل ما يحتاجونه من امور الدنيا والآخرة. سألت احدهم الى من انت ترجع في استيضاح امور دينك ودنياك قال لك: الى شيخي فلان، وفعلاً كانت بالنسبة الى وضعهم البعيد من كل ثقافة ودراسة بل وتعليم بدائي، خير وسيلة لتنظيم شؤونهم والمحافظة على أوامر دينهم، وكانت هذه الجماعات تلتف حول شيخها عقب صلاة العشاء أو المغرب او ايام الجمعة عقب صلاة الجماعة ليصغوا الى ما يلقيه عليهم من النصائح والإرشادات التي تزكيهم وتنظم حياتهم".
هذا وإذا كانت شهادة العلاف هذه تعكس استمرار حال سلطة مشايخ الطرق حتى مطلع القرن العشرين في دمشق، "كخير وسيلة لتنظيم شؤون الناس" فإنها ومن جهة اخرى تعكس تحولاً ما في مجرى الثقافة السائدة نحو اعتماد معيار "آخر" في تعيين علاقة ما يمكن ان نسميه "رأياً عاماً" بالمؤسسات السلطوية التي بدأت بالتشكل في اجهزة دولة حديثة. وهو معيار يرى في أقنية "التعليم" و"الصحافة" و"الأحزاب" بديلاً للوضع الذي يصفه العلاف في مطلع القرن العشرين - اي في الفترة التي بدأت هذه الأجهزة بالتكون والعمل - "بالبعيد من كل ثقافة ودراسة بل وتعليم بدائي".
والواقع ان ثمة نوعاً من ثقافة ودراسة وتعليم "صدر من الزوايا والتكايا والمساجد في المدن الإسلامية كان قد أمن للاتجاهات السياسية على مستوى الطريقة والمذهب والنهج وأسلوب النظر الكلامي، القوى الاجتماعية الفاعلة والمتحركة في مجتمع اهلي تحكمه دولة سلطانية بواسطة مؤسسات هذا المجتمع.
* مؤرخ لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.