الأمم المتحدة: إعادة إعمار غزة ستكون مهمّة لم يسبق أن تعامل معها المجتمع الدولي منذ الحرب العالمية الثانية    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    القبض على فلسطيني ومواطن في جدة لترويجهما مادة الحشيش المخدر    مركز «911» يتلقى (2.635.361) اتصالاً خلال شهر أبريل من عام 2024    الإصابة تنهي موسم المصري طارق حامد مع ضمك    فيصل بن بندر يرعى حفل أهالي محافظة شقراء    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ    الإصابة تهدد مشاركة لوكاس هيرنانديز مع فرنسا في (يورو 2024)    وزير الطاقة يشارك في جلسة حوارية في منتدى طشقند الدولي الثالث للاستثمار    النفط ينتعش وسط احتمالات تجديد الاحتياطي الاستراتيجي الأمريكي    ضبط عمالة مخالفة تمارس الغش بتزوير تواريخ الصلاحية لمنتجات غذائية    محافظ بلقرن يرعى اختتام فعاليات مبادرة أجاويد2    "إنفاذ" يباشر المساهمات العقارية محل "تصفية"    "جواهر" الثالثة عالمياً بمسابقة "آبل"    قتل مواطنين خانا الوطن وتبنيّا الإرهاب    "شرح الوصية الصغرى لابن تيمية".. دورة علمية تنفذها إسلامية جازان في المسارحة والحُرّث وجزر فرسان    مباحثات سعودية فرنسية لتوطين التقنيات الدفاعية    فيصل بن فهد بن مقرن يستقبل مدير فرع "الموارد البشرية"    تعليم عسير يحتفي باليوم العالمي للتوحد 2024    مبادرة «يوم لهيئة حقوق الإنسان» في فرع الاعلام بالشرقية    هاكاثون "هندس" يطرح حلولاً للمشي اثناء النوم وجهاز مساعد يفصل الإشارات القلبية    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 34596    مستشفى خميس مشيط للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "التحصينات"    الشرطة الأمريكية تقتحم جامعة كاليفورنيا لفض الاعتصامات المؤيدة لغزة    السعودية تدعو لتوحيد الجهود العربية لمواجهة التحديات البيئية التي تمر بها المنطقة والعالم    العدل تُعلن عن إقامة المؤتمر الدولي للتدريب القضائي بالرياض    انعقاد أعمال المنتدى العالمي السادس للحوار بين الثقافات والمؤتمر البرلماني المصاحب في أذربيجان    المنتخب السعودي للرياضيات يحصد 6 جوائز عالمية في أولمبياد البلقان للرياضيات 2024    الوسط الثقافي ينعي د.الصمعان    سماء غائمة بالجوف والحدود الشمالية وأمطار غزيرة على معظم المناطق    مبادرة لرعاية المواهب الشابة وتعزيز صناعة السينما المحلية    برئاسة وزير الدفاع.. "الجيومكانية" تستعرض خططها    تيليس: ينتظرنا نهائي صعب أمام الهلال    «إيكونوميكس»: اقتصاد السعودية يحقق أداء أقوى من التوقعات    اَلسِّيَاسَاتُ اَلتَّعْلِيمِيَّةُ.. إِعَادَةُ اَلنَّظَرِ وَأَهَمِّيَّةُ اَلتَّطْوِيرِ    هذا هو شكل القرش قبل 93 مليون سنة !    الهلال يواجه النصر.. والاتحاد يلاقي أحد    سعود عبدالحميد «تخصص جديد» في شباك العميد    جميل ولكن..    أمي السبعينية في ذكرى ميلادها    الدراما السعودية.. من التجريب إلى التألق    حظر استخدام الحيوانات المهددة بالانقراض في التجارب    هكذا تكون التربية    ما أصبر هؤلاء    «العيسى»: بيان «كبار العلماء» يعالج سلوكيات فردية مؤسفة    يجيب عن التساؤلات والملاحظات.. وزير التعليم تحت قبة «الشورى»    زيادة لياقة القلب.. تقلل خطر الوفاة    «المظهر.. التزامات العمل.. مستقبل الأسرة والوزن» أكثر مجالات القلق    «عندي أَرَق» يا دكتور !    النصر يتغلب على الخليج بثلاثية ويطير لمقابلة الهلال في نهائي كأس الملك    إنستغرام تشعل المنافسة ب «الورقة الصغيرة»    العثور على قطة في طرد ل«أمازون»    أشاد بدعم القيادة للتكافل والسلام.. أمير نجران يلتقي وفد الهلال الأحمر و"عطايا الخير"    في الجولة ال 30 من دوري روشن.. الهلال والنصر يواجهان التعاون والوحدة    أغلفة الكتب الخضراء الأثرية.. قاتلة    مناقشة بدائل العقوبات السالبة للحرية    نائب أمير مكة يقف على غرفة المتابعة الأمنية لمحافظات المنطقة والمشاعر    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة "37 بحرية"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقاربة إنمائية لحال الوطن العربي راهناً وصلاته بالعالم الخارجي : الواقع وتحديات المستقبل
نشر في الحياة يوم 06 - 07 - 2001

لا ريب في ان أحوال الوطن العربي تدعو الى قلق شديد وتنذر بعواقب غير حميدة في المستقبل، ما لم تطرأ عوامل ومتغيرات جديدة، من شأنها ان تحدث انعطافاً جدياً، ومختلفاً نوعياً، في مجرى التطور العام في المنطقة وعلاقاتها بالعالم الخارجي.
ولعل السمة الأبرز والأشمل للحال الراهنة في الوطن العربي تتمثل في مأزق التنمية بمفهومها العلمي الحديث والشامل. وينعكس هذا في مؤشرات اقتصادية واجتماعية وثقافية عدة، وكذلك في الإخفاق المريع في بناء دولة ديموقراطية عصرية ومحكومة بمؤسسات وآليات شرعية ومعبّرة عن الإرادة الحرة للمواطنين.
منذ منتصف القرن المنصرم، شهدت البلاد العربية احداثاً ضخمة وخطرة، سواء في ميدان النضال من اجل الاستقلال الوطني وإنهاء الهيمنة الأجنبية المباشرة، أو في السعي الى إصلاحات اقتصادية - اجتماعية تقدمية. وعلى رغم تراكم خبرات غنية ومهمة في هذه الميادين، إلا أن الحصيلة العامة لمسيرة التطور تنطوي على مظاهر ونتائج مخيبة للآمال، وتشكّل صدمة عنيفة للمطامح والأحلام الوطنية المشروعة. وهنا يجدر القيام بمراجعة نقدية وتحليل شامل للتجربة العربية السابقة واستخلاص خبرات واستنتاجات حقيقية وموضوعية، من شأنها ان تساعد على تجاوز المأزق الراهن وبلوغ الأهداف المنشودة.
العرب والعالم الخارجي
وفي هذا السياق، تبرز مجالات وقنوات اساسية، تتداخل وتتفاعل فيها العوامل الخارجية والداخلية المؤثرة في سير الأحداث وعملية التطور في الوطن العربي، التي تمثل مفاصل حاسمة حتى الآن في صلاته بالعالم الخارجي. وهذا ما يشكل احد اهتمامات هذا اللقاء وموضوعات المناقشة فيه. ويتلخص اهم هذه المجالات والقنوات بما يأتي:
أولاً: قطاع النفط والغاز وأهميته الحاسمة بالنسبة الى الاقتصادات العربية والتجارة والاقتصاد في العالم. فمنذ نشأته، منذ عقود عدة، اصبح هذا القطاع بؤرة المصالح الأجنبية في المنطقة العربية والمحرك الأساس لخطط القوى العظمى ونشاطاتها الاستراتيجية والسياسية والعسكرية. كما انه، من ناحية ثانية، يمثل اهم مورد اقتصادي ومالي تعتمد عليه اقتصادات البلدان العربية المنتجة للنفط، وتستفيد منه بأسلوب غير مباشر البلدان العربية الأخرى في ميادين التجارة والعمالة والاستثمار والنقل وتأمين حاجاتها المحلية من الطاقة. وتشير احصاءات حديثة الى أن الخزين النفطي من المنطقة العربية يبلغ 62 في المئة من الاحتياطي النفطي العالمي. كما ان حجم الإنتاج من النفط العربي يبلغ الآن 27 في المئة من الحجم الكلي للإنتاج النفطي العالمي. اما التقديرات المتعلقة بالغاز فتبين ان المنطقة العربية تملك 22 في المئة من الاحتياطي العالمي من الغاز، وتنتج الآن 13 في المئة من الإنتاج العالمي. ولعل هذه الأرقام تعبّر عن دلالات خطيرة، اقتصادية وسياسية، لواقع ومستقبل الصلات التي تجمع الوطن العربي بالعالم الخارجي، وتؤكد، بوضوح، الأهمية الاستراتيجية لقطاع الطاقة وتأثيره الحاسم في اقتصادات الأقطار العربية ومصالح شعوبها، وتطلعاتها المشروعة نحو الرفاه المادي والتقدم الاجتماعي.
ثانياً: الصراع العربي - الإسرائيلي وتنفيذ المشروع الصهيوني بإقامة إسرائيل على الأرض الفلسطينية، وما ترتب عليه من تداعيات خطرة، من حروب واعتداءات واحتلال وتشريد وقمع وتصفيات جماعية بحق الشعب الفلسطيني الآمن، والاندفاع في سياسات توسعية وعدوانية ضد البلدان العربية، واحتلال اجزاء كبيرة من أراضيها، وذلك خلال السنوات الخمسين الأخيرة. وما زالت هذه التداعيات مستمرة ومتصاعدة، وتولد اخطاراً جدية على أمن المنطقة وسلامها واستقرارها، ومصالح شعوبها. كما تشكّل هذه القضية الخطيرة، ولا تزال، مجالاً حساساً ومهماً للغاية لصلات الوطن العربي بالعالم الخارجي بوجهيها السلبي والإيجابي. فمن ناحية، أسهمت، وما زالت تسهم، دول كبرى كالولايات المتحدة الأميركية ومنظمات ومؤسسات اجنبية، في دعم المشروع الصهيوني والسياسات الإسرائيلية، وتوفير جميع اشكال المعونة المادية والسياسية والعسكرية لها. ومن ناحية اخرى، تقوم أطراف دولية كثيرة ومؤسسات وأحزاب وحركات انسانية وتقدمية بمساندة الشعب الفلسطيني وحقوقه الثابتة، وبالتضامن مع البلدان العربية لتصفية الاحتلال والعدوان.
وهكذا بات من الضرورة بمكان، الاهتمام بالعلاقات العربية - الأجنبية على جميع الصعد، والسعي لكسب المجتمع الدولي الى جانب الحق الفلسطيني والعربي. وستبقى هذه المهمة من أولويات العمل الشعبي والرسمي الحكومي العربي، طالما بقي الاحتلال الإسرائيلي، وتعذّر الوصول الى حل عادل وشامل للمعضلة.
ثالثاً: التجارة الخارجية الاستيراد والتصدير بين الأقطار العربية والبلدان الأجنبية، تمثّل مجالاً بالغ الأهمية والخطورة لكلا الطرفين، تتوقف عليه مصالحهما في قطاعات اساسية، منها: تصدير النفط والغاز من بعض البلدان العربية، واستيراد سلع وخدمات كثيرة في ميادين التكنولوجيا والسلاح والمواد الغذائية والاستهلاكية والخبرات الفنية المتقدمة وذلك كله من الدول الصناعية المتقدمة وبمقاييس غير عادية. وبهذا امست فاعليات التجارة الخارجية من الأولويات الأساسية في التوجهات السياسية والاقتصادية للبلدان العربية، المطلوب صوغها وتطويرها على نحو يحقق المصالح المتبادلة للأطراف المعنية وعلى أسس متكافئة وعادلة. وإلى جانب هذه المجالات الأساسية الثلاثة لصلات العرب مع العالم الخارجي، تبرز اليوم قضية حساسة في مجال الأمن المائي، وتطرح، بإلحاح، الحاجة الى معالجة الندرة في المياه، ودرء الأخطار المحتملة بشأنها في الإطار الإقليمي، ولا سيما مع تركيا، ومن جرّاء الأطماع الإسرائيلية.
مؤشرات جوهرية
والواقع ان هذه الصلات وما اتخذته من مجالات مهمة، قد تركت، وتترك آثاراً عميقة في الحال السائدة في الوطن العربي. وهي بمعنى معين تمثل وجهي صراع وتعاون بين الطرفين، وفق حاجات كل منهما ومصالحه وغاياته. غير ان مأزق التنمية وما شهده العالم العربي من إخفاقات، لا يعزى فقط الى العامل الخارجي، على خطورته احياناً، بل ينبع بالدرجة الأولى من مواطن خلل داخلية، وقصور كبير في تلمّس المنهج السليم ورسم السياسات الصحيحة، وما تتطلبه من ضمانات وآليات مؤسسية. والسؤال المشروع هنا هو: أين تكمن مظاهر الإخفاق في المسيرة الإنمائية؟ وبأية مؤشرات يمكن التدليل على حصيلتها السلبية وآثارها العميقة في حياة الناس ومستقبلهم؟ وهنا يجدر ان نتأمل عدداً من المعطيات والقضايا الأساسية، ومنها:
1- خلافاً للغايات والأماني الوطنية التي ميّزت برنامج النضال الشعبي قبل الاستقلال، وإعلان الدولة الوطنية، تعذّر إيفاء المطالب الأساسية الهادفة الى إقامة انظمة حكم ديموقراطية حقاً، قاعدتها المؤسسات والآليات المنتخبة، ومحورها حكم القانون والمشاركة الشعبية الفاعلة والواسعة. وترتب على ذلك، غياب الضمانات والأدوات السليمة لرسم سياسة انمائية صائبة، وتوفير رقابة حقيقية على تنفيذ البرامج والسياسات والأداء الحكومي، على أساس من المُساءلة والشفافية الكاملة. بل الأسوأ من ذلك، ان هذه الظاهرة اقترنت بالكثير من الممارسات غير الديموقراطية والمنافية لحقوق الإنسان، والارتكاز على أساليب حكم ذات طابع شمولي، وقمعي في احيان كثيرة، وفتحت المجال لتصديع الوحدة الوطنية، وأدت الى صراعات دموية واحتراب داخلي لدوافع دينية وطائفية وقومية ضيقة، كما جرى في لبنان ويجري في الجزائر والعراق والسودان والصومال وغيرها.
2- غياب التنوع في البنية الاقتصادية ومعاناتها اختلالاً بين القطاعات الأساسية، نتيجة للاتكال الكامل على عائدات تصدير النفط الخام والغاز ومعادن اخرى، لتمويل الفاعليات الاقتصادية الأساسية، ولا سيما موازنة الدولة والاستيراد التجاري، والحصول على العملة النادرة. لذا يعتبر الاقتصاد العربي، اقتصاداً مشوّهاً وخاضعاً لحاجات السوق العالمية واتجاهاتها، ومصالح القوى المهيمنة عليها. وكان من عواقب هذا الوضع، اندفاع المنطقة العربية في استهلاك مفرط لطاقاتها ومواردها الطبيعية، ولا سيما استنزاف حاد في الاحتياطي الاستراتيجي لسلع مهمة للغاية، بالنسبة الى حاجات التنمية العربية والاقتصاد العالمي.
ان الاعتماد المسرف على بيع المواد الخام يعتبر مؤشراً سلبياً على التوجه العام للسياسة الاقتصادية، ومن شأنه اعاقة بناء قاعدة إنتاجية متنوعة، وتطوير الموارد البشرية، وتوفير مصادر مأمونة ومتعددة للدخل.
ومن مظاهر الاختلال في الهيكل الاقتصادي، بروز مخاطر جدية على الأمن الغذائي العربي، نتيجة لتخلف القطاع الزراعي عن تلبية حاجات السوق والسكان، واللجوء الى الاعتماد على استيراد السلع والمواد الغذائية من الخارج، حيث بلغت الفجوة الغذائية عام 1998 نحو 13 مليار دولار، أي بزيادة مقدارها 2،3 في المئة بالمقارنة مع العام الماضي، شملت الحبوب والبقول والزيوت والشحوم والفواكه واللحوم والبيض.
3- تضخم الاستدانة الخارجية للدول العربية، وتحوّل بعض الدول العربية المنتجة للنفط الى دول مدينة بعد ان كانت تملك فوائض مالية كبيرة في فترات سابقة، ويقدّر الدين العام الخارجي للدول العربية الآن بحوالى 160 مليار دولار، كما تبلغ خدمة هذا الدين اكثر من 12 مليار دولار سنوياً.
4- مع ان العالم يشهد قيام تكتلات اقتصادية ومالية عدة، وتطوير قدراتها التنافسية، إلا ان المنطقة العربية، وخلافاً لمصالحها المادية المشتركة ودواعي الانتماء القومي الواحد والتطلعات الشعبية، لم تشهد بناء أي من التكتلات الاقتصادية القادرة على المنافسة الفاعلة والملبية لحاجات التنمية القومية المشتركة والسعي الى التكامل الاقتصادي بين الدول العربية. أما إنشاء منطقة التجارة العربية الحرة في بداية 1998، فهو أقل كثيراً من مستوى هذه الأهداف الإنمائية الكبيرة، إضافة الى أن الالتزام بتنفيذ هذا الاتفاق بصورة جدية امر مشكوك فيه كما توحي تجربة السنوات الأخيرة المحفوفة بالتغيرات والمعوقات.
5- ومن المعالم المثيرة للقلق والرفض الشديدين، تفشي ظاهرة الهدر المالي والاقتصادي واتخاذه اشكالاً وصوراً كثيرة، منها المبالغة في الإنفاق على مشاريع وفاعليات غير مجدية اقتصادياً، والاندفاع المحموم نحو شراء السلاح والمعدات العسكرية التسلح، والتورط في حروب طاحنة وبالغة الكلفة، فضلاً عن انتشار الفساد بجميع انواعه، من رشاوى وسرقات وعمولات ومضاربات. وهنا نشير بوجه خاص الى الكوارث التي سببتها حربا الخليج الأولى والثانية، والتي التهمت مئات المليارات من الدولارات الأميركية وأنعشت بذلك تجارة السلاح وشركاته الدولية والمدعومة من حكومات البلدان الغربية الكبيرة. ولعل الأرقام التالية تكشف جسامة العبء الذي يشكله الإنفاق العسكري على عملية التنمية العربية. فقد بلغت الموازنة العسكرية لعام 1997 في بعض الدول العربية حوالى 30 مليار دولار في مقابل 4،7 مليار دولار فقط لموازنة إسرائيل العسكرية في العام نفسه. وبالمقارنة مع التخصيصات المعتمدة في الموازنات العربية للصحة والتعليم والزراعة والخدمات، يتفوّق الإنفاق العسكري عليها جميعاً بمقاييس كبيرة. وترتب على ذلك، وضع خطط التنمية في حال تبعية تامة لخطط الأمن السياسي والعسكري لأنظمة الحكم، من غير مراعاة جدية للمفهوم الحديث للأمن القائم بالدرجة الأولى على حماية امن الناس من أية أخطار، سواء كانت داخلية او خارجية، وفي جميع مجالات الحياة: الاقتصادية والسياسية والبيئية، وغيرها.
6- كما ينعكس تدهور الحال في الوطن العربي في الأوضاع الاجتماعية القاسية، واتساع دائرة الفقر والبطالة، وتدنّي مستوى المعيشة للسكان. وتشير تقارير "البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة" الى أرقام مذهلة في هذا الصدد. فهناك حوالى 73 مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر، كما يقاسي حوالى 10 ملايين نسمة من سوء التغذية. ويورد المصدر نفسه مقارنة مهمة جداً بين هذه الأرقام، وبين ما ينفق من اموال على الأغراض العسكرية، فيؤكد ان العرب قد أنفقوا خلال العقود الثلاثة الماضية ما يقرب من 1800 مليار دولار على شراء الأسلحة بذريعة حماية الأمن الوطني والقومي. فضلاً عن ذلك، تزايدت الضغوط الناجمة عن الانفجار السكاني واتساع فجوة الفقر، والتفاوت المريع في التوزيع السيئ للدخل، وتقلّص فرص العمل. فالتقرير الاقتصادي العربي المشترك يذكر في عدده الأخير ان نسبة القوى العاملة لمجموعة السكان تبلغ 36 في المئة. وهو اقل معدل بين المناطق الرئيسة في العالم.
وبالارتباط مع الأحوال الاجتماعية، يمثل وضع المرأة مظهراً سلبياً آخر، بالقياس لمتطلبات التحديث وحاجات التنمية. فالمرأة العربية تعاني قيوداً ثقيلة، سواء كانت ناجمة عن سيادة التقاليد والقيم البالية، أو نتيجة لوجود قوانين رجعية زاخرة بالأحكام التي تخل بتكافؤ الفرص والمساواة مع الرجل، وتحدّ من مشاركة المرأة في الحياة العامة، وفي مشاريع التنمية في جميع المجالات.
7- ويبرز القصور كذلك في ميدان الإنفاق على "البحوث والتطوير" وخطط تنمية الموارد البشرية ونقل التكنولوجيا. فيذكر التقرير الصادر عن اليونسكو الموسوم ب"تقرير اليونيسكو عن العلوم في العالم" Unesco World Sciences Report لعام 1998 أن حجم الإنفاق العالمي على مشاريع البحث والتطوير Research and Development بلغ 470 مليار دولار موزعة على النحو الآتي:
اميركا الشمالية 9،37 في المئة
أوروبا الغربية 28 في المئة
الدول العربية 4،0 في المئة
اما تقرير "الإسكوا" لعام 1999- 2000، فيقدر ان الإنفاق على البحث والتطوير في دول هذه المنطقة بلغ 2،0 في المئة من حجم الناتج القومي الإجمالي، وهبط الى 5،0 في البعض منها.
والواقع ان هنالك نقصاً آخر في مستوى الاهتمام ببرامج التعليم في مراحله المختلفة، على رغم اهميته الحاسمة، بالنسبة الى خطط التنمية والتحديث، فضلاً عن كونه شرطاً لتوطين التكنولوجيا. ففي وثائق مجلس اتحاد الجامعات العربية، يبدو ان الدول العربية لم تنفق على قطاع التعليم في مختلف مراحله اكثر من 7 في المئة من الموازنة العامة في احسن الحالات، وتتدنى هذه النسبة الى اقل من 5،0 في المئة في البلدان العربية الفقيرة. هذا في الوقت الذي تبلغ نسبة الأمية في الوطن العربي حوالى 46 في المئة من السكان. كما ان هنالك معضلة حادة اخرى تتعلق بهجرة الأدمغة العربية، وهي آخذة في الاتساع باستمرار وتلحق خسارة جسيمة بالمصالح العربية. وتقدر نسبة المهاجرين من اصحاب الكفايات والاختصاصات المهمة الى الخارج بملايين عدة من الفنيين وحملة الشهادات العليا، وهم القوى الأساسية الضرورية لأية نهضة حقيقية.
8- اما مجال الاستثمارات في البلدان العربية فهو الآخر شهد انتكاسات عدة، ولم تتحقق الغايات المنشودة في هذا المجال الإنمائي المهم. ولعل أبرز خلل في هذا السياق هو تراكم فوائض الأموال العربية الناجمة عن عوائد النفط بالدرجة الأولى، واستثمارها في الغرب الصناعي، وحرمان الوطن العربي منها. وقد قدرت هذه الفوائض المالية بما يقرب من 800 مليار دولار، وهي موظفة في البنوك والمؤسسات المالية والاقتصادية في اميركا وأوروبا بالدرجة الأولى.
وهنا تتضح جسامة الخسارة التي يعانيها الوطن العربي في هذا الميدان، بسبب حاجته الماسة والمتزايدة الى رؤوس الأموال لتمويل خططه الإنمائية في جميع الحقول والقطاعات.
قضايا وتحديات
على خلفية اللوحة القاتمة للأحوال الراهنة للوطن العربي، وإزاء الحصيلة البائسة للخطط والجهود الإنمائية الماضية، التي تجسّدت بوضوح في مأزق التنمية، الذي شرحنا ملامحه وأبعاده، تبرز الحاجة الى معالجة الواقع السقيم الماثل، بنظرة جديدة ومنهج نقدي فاعل وبنّاء. وتدخل في إطار هذه المعالجة الجوهرية والشاملة، مواجهة التحديات الجديدة والموروثة، بعقل مفتوح وإرادة صلبة، من شأنها ان تعيد الحيوية ومقومات النمو والازدهار الى حركة التحرر العربية، وتوفر لها اسباب الظفر والتقدم في وجه جميع المعوقات الداخلية، ولا سيما عوامل التخلف الشامل والأخطار والأطماع الأجنبية، وفي مقدمها المشروع الصهيوني والاحتلال الإسرائيلي الغاشم لفلسطين وغيرها من الأراضي العربية.
ولا ريب في ان حزمة ضخمة من التحديات والمهمات والقضايا تنتصب على أرض الواقع، وفي أفق المستقبل بما فيها تلك المتعلقة بتجديد الفكر وصوغ نظرة مستقبلية نفاذة ومدروسة ومحررة من اغلال الجمود والدوغمائية والمسلّمات البالية. إنها رسالة خطرة تستلزم دراسة الواقع ومعضلاته بأسلوب علمي موضوعي، وتتطلب اعتماد مقاربات مرنة ومفتوحة بطلاقة، ومن غير عقد، وتستوجب احكاماً مسبقة على روح العصر وإنجازاته المذهلة، والتكيف مع معطيات أو متغيرات الثورة الكونية الجبارة: ثورة العلم والتكنولوجيا والمعرفة في جميع مجالاتها وأبعادها ودلالاتها.
وفي ضوء ذلك، كيف نتلمّس الطريق القويم؟ وماذا يمثل امام الوطن العربي من قضايا وتحديات؟ لا شك في ان السلسلة هنا يمكن ان تمتد وتطول، إلا أن المطلوب حقاً هو تحديد وإبراز، ما هو رئيس وجوهري من تحديات وقضايا نابعة من الحاجات الحقيقية لمشروع التنمية الشاملة، واستكمال مشوار التحرير وتصفية الاحتلال الإسرائيلي، والقضاء على الفقر والتخلف بجميع مظاهره، وإقامة مجتمعات ديموقراطية حرة تنشد التحديث وتتناغم مع اتجاهات العصر ومبتكراته العلمية والمعرفية. هنا تبرز امامنا قضية مواصلة النضال لتصفية الاحتلال الإسرائيلي بجميع اوجهه وممارساته، واستعادة الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني وتحرير الجولان ومزارع شبعا وتأمين الحقوق العربية كاملة، والسعي الى تحقيق سلام شامل وعادل في المنطقة، وإتمام عملية السلام على أساس القرارات الدولية والاتفاقات المبرمة. وإلى جانب ذلك، هناك مهمة كبيرة اخرى، هي إنهاء الحصار والعقوبات الدولية على العراق، سنتناولها بشيء من التفصيل بعد قليل.
اما على الصعيد الإنمائي الشامل فيمكن ايراد هذه الحزمة من المهمات على النحو الآتي:
1 الإفادة الجادة من عوائد قطاع الطاقة النفط والغاز باتجاه إقامة قاعدة انتاجية توفر مصادر دخل جديدة، وتضمن التنوع في الهيكل الاقتصادي، وتزيل حال الاختلال بين قطاعاته، وتسهم بالدرجة الأولى في تحقيق تنمية ذاتية متوازنة.
2 مواجهة تحدي العلم والتكنولوجيا والمعرفة عبر مشاريع توطينها والاستيعاب الكامل لآثارها ومتطلباتها، وتطوير الموارد البشرية بما يضمن النهوض بهذه المهمة، أي الالتزام فعلياً بغايات أو متطلبات التنمية البشرية المستدامة، ولا سيما العناية بإصلاح التعليم في جميع مراحله، ومكافحة الأمية، وزيادة الإنفاق على البحث والتطوير.
3 اجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية تؤمن الكفاية والفاعلية للأداء الاقتصادي، وتحقق معدلات نمو مرتفعة. وهنا ينبغي الأخذ بنموذج انمائي سليم ومتوازن يسعى لتعزيز القدرات التنافسية للاقتصادات العربية، والإيفاء بحاجات السكان والأسواق العربية، ويهدف الى تطوير مشاريع التكامل الاقتصادي العربي.
4 تقليص الإنفاق العسكري، وتوجيه الموارد المحررة نحو مشاريع التنمية وزيادة الإنتاج.
5 الحد من أخطار الضغوط الديموغرافية، ومعالجة سوء توزيع الدخل، ومكافحة الفقر، وتوفير فرص عمل كافية.
6 إيجاد مناخ ملائم لجذب الاستثمارات الخارجية بهدف كسب منافع انمائية، تشمل تشجيع مشاريع ذات نوعية راقية وحاملة لتكنولوجيات حديثة وقادرة على زيادة التصدير، وتعزيز القدرات التنافسية للاقتصادات العربية.
7 مواجهة الأخطار الناجمة عن ندرة المياه وآثارها السلبية في حياة الناس والاقتصاد والإنتاج الزراعي، وجعل حماية الأمن المائي والغذائي مهمة أساسية في السياسات الإنمائية العربية.
وفي خضم العمل والكفاح الجادين لبلوغ هذه الأهداف الكبيرة، تحتل مسألة الديموقراطية والمشاركة الشعبية الموقع الأول في المساعي والخطط لإنهاض المجتمع العربي من كبوته وإنقاذه من عذاباته... وهنا يتعين ان تتركز الجهود على إقامة حكم ديموقراطي معبر عن الإرادة الحرة للشعب، وملتزم دستور الدولة، ويحرص على سلطة القانون وتوفير الحريات للمواطنين، ويحترم حقوق الإنسان، ومؤسسات المجتمع المدني، ويتفاعل معه كشريك حقيقي في إدارة شؤون البلاد وتنفيذ برامج التنمية.
المسألة العراقية:
العراق تحت الحصار والعقوبات
عقب الغزو العراقي للكويت في آب اغسطس 1990، تقرر فرض الحصار الدولي على العراق، كما جاء في سلسلة طويلة من قرارات الأمم المتحدة ولا سيما القرار الرقم 687 الصادر عن مجلس الأمن، بعد انتهاء حرب الخليج الثانية في 1991... ويحمل هذا القرار الشهير كل ما يمكن ان توصف به أو تتطلبه انظمة الوصاية والهيمنة الأجنبية على مقدرات البلدان الأخرى ومصائرها. وقد وافقت الحكومة العراقية على هذا القرار الخطير والتزمت تنفيذه وفق آليات معينة، كما هو معروف. وخلال السنوات العشر الأخيرة، من عمر الحصار الدولي على العراق، كابد الشعب العراقي ولا يزال يكابد عذابات وويلات لا حد لها، نتيجة العقوبات الكثيرة المفروضة، التي أدت الى نقص مريع في الحاجات والمستلزمات الحياتية الأساسية، من غذاء ودواء ومعالجات طبية، فضلاً عن الآثار العميقة التي أدت الى تدهور مستوى المعيشة وانتشار الفاقة والجوع والأمراض بين الناس، على نحو لم يشهده تاريخ العراق الحديث. لقد كتب الكثير عن الحال المؤلمة والمزرية التي يعيشها الناس في العراق، وتولت تقارير ذات صدقية حقيقية، إظهار حجم الوفيات والإصابات التي تعرض، ويتعرض لها المواطنون، والتي بلغت أرقاماً مذهلة، بمئات الألوف.
وبسبب الحصار الدولي، والحروب المدمرة التي اندفع، أو تورط فيها الحكم العراقي في حربي الخليج الأولى والثانية منذ عقدين من الزمن، اصيب الاقتصاد العراقي وهياكله الارتكازية وموارده الطبيعية والبشرية بكارثة حقيقية ذات ابعاد خطرة بالنسبة الى حياة الناس ومستقبل البلاد. كما اقترنت هذه الكارثة الوطنية، بكوارث جسيمة موازية، لحقت بالمنطقة برمّتها، ولا سيما ايران والكويت، وترتبت عليها عواقب وخسائر اقتصادية ومالية فادحة فضلاً عن انعكاساتها السياسية المباشرة التي أضعفت الجبهة العربية وشرّعت الأبواب أمام الهيمنة الأميركية وامتداداتها العسكرية، وأخلّت بموازين القوى لمصلحة إسرائيل والمشروع الصهيوني.
لا شك في ان استمرار الحصار الدولي على العراق جريمة بحق الشعب العراقي، وهو لا يرتكز على أية أسانيد قانونية أو دولية مشروعة ويتعارض مع مواثيق وبروتوكولات معروفة، لا تبيح اخذ الناس والشعوب بجريرة غيرهم، وتستلزم توفير الأمن والحماية للشعوب المقهورة والمسلوبة الحرية والإرادة. كما ان الحصار، من ناحية اخرى، أفضى الى "تدويل" المسألة العراقية وأمسى مظهراً أساسياً من مظاهر التحكم بمستقبل البلاد ومقدراتها، بمعزل عن الرأي العام العراقي وممثليه الحقيقيين. بل جرى، ويجري، استخدام العقوبات الدولية كورقة في المساومات الدولية والإقليمية لما هو أبعد من "الحال العراقية" ويشمل مستقبل المنطقة والصراع العربي - الإسرائيلي. لذا، فإن إلغاء الحصار الدولي على العراق هو من الأولويات الأساسية في البرامج الوطنية والقومية والدولية، الهادفة الى وضع حد لمأساة الشعب العراقي، والتقدم على طريق حل "المسألة العراقية" بأبعادها السياسية الداخلية والإقليمية. فالكوارث التي حلت بالعراق والمنطقة كانت، وما زالت، محصلة عوامل داخلية وخارجية، ونتاج سياسات ومغامرات يتحمل الحكم العراقي قسطاً أساسياً من مسؤوليتها، وهي تمثل وجهاً جوهرياً للمسألة العراقية، التي تتجسد في مشكلة الحكم وأسسه وأساليب عمله، وتطرح بإلحاح ضرورة التغيير الديموقراطي الشامل في العراق.
* موجز محاضرة القاها الكاتب في اللقاء الثقافي العربي - العالمي الثاني الذي عقد اخيراً في صيدا لبنان بدعوة من المجلس الثقافي للبنان الجنوبي "من اجل عالم متضامن ومسؤول".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.