مع بداية الدورة الثالثة لمجلس الشورى السعودي يبرز سؤال ظل وسيظل يفرض نفسه باستمرار: هل يمكن لهذا المجلس أن يتحول من هيئة إستشارية إلى هيئة تشريعية؟ بهذه الصيغة يتضمن السؤال أن مجلس الشورى لا علاقة له بعملية التشريع في الدولة السعودية. والحقيقة أن سؤالاً مثل هذا هو سؤال مشروع، لكنه يبدو سؤالاً بسيطاً ومباشراً، وبالتالي يتطلب إجابة بسيطة ومباشرة أيضاً. لكن واقع الأمر ليس بهذه البساطة والمباشرة. فإذا أخذنا عملية التشريع على أنها تمر بمراحل عدة أمكن القول بأن دور المجلس ليس واحداً في كل هذه المراحل. فهو لا يكاد يتجاوز في أحد تلك المراحل دور الهيئة الإستشارية، باعتبار أن ما يتوصل إليه غير مُلزم. وفي مرحلة أخرى، وهي مرحلة درس مشاريع الأنظمة والقوانين المحالة إليه، نجد أن المجلس يمارس العملية التشريعية بكل خطواتها المعروفة. فمشروع النظام أو القانون يحال أولاً إلى اللجنة المتخصصة وذات العلاقة في المجلس لدرسه، وإتخاذ توصية معينة حياله. بعد ذلك يحال ما توصلت إليه هذه اللجنة إلى لجنة أخرى، هي الهيئة العامة لإعداده للعرض والمناقشة في جلسات للمجلس تخصص لذلك. بعد عرض الموضوع على المجلس ككل، ومناقشته يتم التصويت عليه بنداً بعد آخر، ليصدر بذلك مشروع النظام وفقاً لغالبية التصويت. ومن هذا يتضح أن ما يقوم به مجلس الشورى السعودي من الناحية العملية هو إصدار القوانين والأنظمة المتعلقة بمختلف شؤون حياة الناس. وهذه عملية تشريع لا لبس فيها. وقد أصدر المجلس وفقاً لذلك الكثير من الأنظمة، من أهمها اخيراً نظام الإتصالات، ونظام المرافعات، ونظام الإجراءات الجزائية، ونظام المحاماة، ونظام التأمين الصحي، ونظام التأمين الإجتماعي...الخ. المرحلة الثالثة من عملية صدور النظام تكشف أن مجلس الشورى هو في الحقيقة شريك في عملية التشريع مع مجلس الوزراء، كما تنص على ذلك المادة 27 من النظام الأساسي للحكم الدستور، والمادة 17 من نظام مجلس الشورى. ففي هذه المرحلة، وحسب هاتين المادتين، لا بد أن يتفق المجلسان، وإلا فإن للملك إقرار ما يراه. إذاً ما الذي يجعل مجلس الشورى يبدو كأنه مجرد هيئة إستشارية لا علاقة لها بعملية التشريع؟ ما يجعله كذلك هو أن مجلس الوزراء لا يزال الجهة التي عنها تصدر الأنظمة والقوانين في الدولة السعودية. لكن هل يعني هذا أن المجلس هو الجهة المخولة دستورياً بتولي السلطة التشريعية؟ والإجابة لا بد أن تكون بالنفي، لأن ليس هناك نص لا في النظام الأساسي للحكم، ولا في نظام مجلس الوزراء، ما يشير إلى ذلك تحديداً. وحيث أنه ليس هناك نص أيضاً يعطي هذه السلطة لمجلس الشورى، فإن هذا المجلس هو حلقة من حلقات عملية التشريع، وليس مجرد هيئة إستشارية فقط. وهذا يعني أن السلطات في الدولة متداخلة وليست منفصلة. وبالتالي فالسؤال الذي بدأنا به هذه المقال يجب أن يكون عن إمكانية أن يتحول مجلس الشورى إلى الجهة التي تتولى السلطة التشريعية، كما تقضي بذلك طبيعة الدولة الحديثة، والتي من أهم ركائزها الفصل بين السلطات. وما يفرض مثل هذا السؤال إعتبارات عدة ذات علاقة مباشرة بالموضوع. أول هذه الإعتبارات وأهمها بالنسبة الى دولة مثل الدولة السعودية هو الإعتبار الشرعي. ويتردد في هذا الصدد أن عملية التشريع قد إكتملت وإنتهت في الإسلام منذ أكثر من 1400 سنة. ومن ثم لم يتبقَ لنا الآن إلا التنفيذ، وضبط الإجراءات التنفيذية. وعليه ليست هناك حاجة لسلطة تشريعية. وفي مثل هذا القول الكثير من مجافاة الحقيقة، حقيقة ما تم قبل أكثر من 1400 سنة، وحقيقة ما حصل بعد ذلك وحتى الآن، وفي كل الدول الإسلامية. عملية التشريع لم تكتمل قبل أكثر من 1400 سنة، وما كان لها أن تكتمل. ما اكتمل هو وضع الأطر العامة، والضوابط الشرعية التي يجب أن تلتزمها أية عملية تشريعية. يقول الإمام محمد أبو زهرة في كتابه "تاريخ المذاهب": "الينبوع الصافي لهذه الشريعة هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإن النصوص تتناهى، ولكن الحوادث لا تتناهى، فكان لا بد من إستنباط حكم شرعي لكل حادثة من الحوادث". وإستنباط الحكم هنا ما هو إلا عملية تشريع ضمن ضوابط شرعية معروفة من أهمها أن التشريع لا يجوز في ما ورد فيه نص قطعي الدلالة. كما أنه لا يجوز أن تنتهي عملية التشريع إلى نتيجة تخالف بشكل واضح وصريح نص في القرآن أو السنة. وضمن هذا الإطار فإن فتاوى أفراد العلماء، أو هيئات الإفتاء هو عملية تشريعية. وتأليف متون الفقه والأحكام عملية تشريعية كذلك. ثم هناك ما تصدره الدول الإسلامية من حيث أنه أيضاً ممارسة أكثر مؤسساتية لعملية التشريع ذاتها. فما المانع من أن يجتمع كل ذلك في هيئة رسمية واحدة تناط بها عملية التشريع من دون سواها؟ ثم هناك الإعتبار التاريخي لتجربة الشورى السعودية. وهي تجربة بدأت قبل أكثر من 75 سنة، توقفت خلالها لأكثر من 40 سنة. ثم عادت مرة أخرى قبل حوالي عشر سنوات. في هذه التجربة ما يمكن إعتباره سابقة تاريخية ودستورية في الوقت نفسه. اذ يذكر فؤاد حمزة، أحد رجالات الملك عبدالعزيز الذين دونوا تجربتهم، أن أول مجلس حمل إسم الشورى كان في عام 1346ه / 1927م البلاد العربية السعودية /1388ه 1968م. ثم يورد نظام هذا المجلس. ونجد بين إختصاصات المجلس ،كما وردت في هذا النظام، الآتي: 1 موازنات دوائر الحكومة والبلدية، 2 الإمتيازات والمشاريع المالية والإقتصادية، 3 الرخص للشروع في عمل مشاريع إقتصادية وعمرانية، 4 سن القوانين والأنظمة، إلى غير ذلك... هذه البنود وغيرها تشير إلى أن إختصاصات مجلس الشورى آنذاك كانت أوسع مما هي عليه الآن. واللافت في كل ذلك هو البند الذي ينص على أن من أعمال المجلس "سن القوانين والأنظمة"، ما يدخل ضمن العملية التشريعية. وقد إستمرت عملية زيادة صلاحيات مجلس الشورى من جانب الملك عبدالعزيز، اذ أصدر عام 1351ه / 1932م أمره بأن تشمل تلك الصلاحيات "تمييز الصكوك التجارية". والجدير بالملاحظة في هذا السياق أن "سن القوانين والأنظمة" ظل بنداً ثابتاً في إختصاصات كل المجالس التي شكلت حتى عام 1355ه / 1936م، كما يذكر فؤاد حمزة. وهذه سابقة دستورية يمكن أن تكون أحدى المرجعيات التي يستهدى بها في تطوير الدور المنوط بمجلس الشورى الحالي في اتجاه توليه عملية التشريع في الدولة، وذلك ضمن الضوابط الشرعية. والتطوير في هذا الإتجاه خطوة ينتظر تحققها حتى تكتمل عملية التغيير الدستوري التي بدأت بصدور النظام الأساسي للحكم الدستور قبل حوالي عشر سنوات الآن. ومن بين أهم ما يفرض السؤال عن إمكان تحول تجربة الشورى في السعودية إلى تجربة تشريعية واضحة هو الإعتبارات الدستورية كما وردت في النظام الأساسي للحكم الدستور، وفي نظام مجلس الشورى، مما له صلة بدور هذا المجلس، وبالجهة التي ينبغي لها أن تتولى السلطة التشريعية في الدولة. وأكثر ما يلفت هنا أنه ليس هناك نص واضح ومباشر يحدد الجهة التي لها السلطة التشريعية أو التنظيمية في الدولة. هناك نص يعطي مجلس الوزراء السلطة التنفيذية المادتين 19 و 24 من نظام مجلس الوزراء. وهناك نص يعطي السلطة القضائية المستقلة للمحاكم المادة 46 من النظام الأساسي للحكم. أما موضوع الجهة التي لها السلطة التشريعية، أو التنظيمية فقد ترك غامضاً ومن دون تحديد. ولا أظن أن ذلك تُرك سهواً أو خطأ. بل تُرك هكذا بشكل متعمد لتوفير مجال دستوري أمام أي تغير في هذا الإتجاه أو ذاك. أين يقع دور مجلس الشورى بالتحديد في مثل هذا الإطار الدستوري؟ هنا يلاحظ أن الغموض الدستوري المحيط بالجهة التي لها السلطة التشريعية يلقي بظلاله أيضاً على الدور الدستوري لمجلس الشورى. فالمادة 15 من نظام هذا المجلس تكاد لا تعطي مجلس الشورى إلا حق مناقشة أو دراسة ما يحال إليه من رئيس مجلس الوزراء. وأن دوره لا يتجاوز إبداء الرأي، أو إقتراح ما يراه حيال أي من الموضوعات التي حددت هذه المادة أنها من ضمن إختصتصات المجلس. بل إن نص هذه المادة لا يترك مجالاً للشك في أن مناقشة الميزانية العامة للدولة ليست من ضمن إختصاصات مجلس الشورى. وهذا يؤكد مرة أخرى أن مجلس الشورى ليس أكثر من هيئة إستشارية تبدي الرأي بعد الدراسة. لكن المادة 17 من نظام المجلس نفسه تنص على أن "ترفع قرارات مجلس الشورى إلى رئيس مجلس الوزراء، ويحيلها إلى مجلس الوزراء للنظر فيها. فإن إتفقت وجهات نظر المجلسين صدرت بعد موافقة الملك عليها، وإن تباينت وجهات النظر فللملك إقرار ما يراه". هذه المادة، مع سكوت النظام الأساس للحكم عن تحديد الجهة التي لها حق تولي السلطة التشريعية، لا يترك مجالاً إلا أن السلطة التشريعية هي عملية مشتركة بين مجلسي الوزراء والشورى، وأن الملك هو الحكم الفصل في ما يختلفان فيه من هذه الناحية. لكن مع ملاحظة أن الوزن الدستوري لمجلس الوزراء أكبر من مجلس الشورى، وذلك لسببين. الأول أن الملك هو رئيس مجلس الوزراء. والثاني أن المادة 44 من النظام الأساسي للحكم تنص على أن الملك هو مرجع سلطات الدولة الثلاث. ومن هنا يمكن القول بأن المجال الدستوري مفتوح أمام إمكان أن يتحول مجلس الشورى إلى الجهة التي تتولى العملية التشريعية. وهذا في الأغلب هو السبب وراء الغموض في ما يتعلق بالجهة التي لها السلطة التشريعية في الدولة السعودية. ومن ثم فهو غموض في صالح مستقبل مجلس الشورى. في الإتجاه نفسه، يلاحظ الزيادة المستمرة لعدد أعضاء مجلس الشورى. وقد زاد هذا العدد في الإسبوع قبل الماضي، وللمرة الثانية إلى 120 عضواً. قد لا تكون هذه الزيادة أكثر من زيادة في مجال تدوير النخبة في المجتمع السعودي. ومن الممكن أنها زيادة غرضها زيادة توسيع التمثيل داخل المجلس. لكن الأكيد أن هيئة لا يتجاوز دورها الدراسة وإبداء الرأي ليست في حاجة إلى زيادة عدد أعضائها بهذا القدر. ومن ثم قد تكون الزيادة خطوة في إتجاه الإستعداد لإعطاء مجلس الشورى دور أكبر وأكثر وضوحاً في عملية التشريع. * كاتب سعودي.