مع استكمال الاحتياطات، صعد عبدالمجيد الجعايكة الى منصة الشهود. كان باستطاعته ان يشاهد المقرحي وفحيمة للمرة الاولى منذ إخراجه خلسة من مالطا قبل ذلك بعقد من السنين تقريباً. وباشر باستجوابه نائب المدعي كامبل الذي سأله في البداية عن عمره ومكان ولادته وتعليمه. كان الجعايكة 40 عاماً من طرابلس ولم يكمل تعليمه الجامعي. قال الجعايكة انه ابتدأ العمل في جهاز الاستخبارات الليبي في كانون الثاني يناير 1984، في كاراج السيارات. وادعى انه عيّن في كانون الاول ديسمبر 1985 مساعداً لمدير مكتب الخطوط الجوية العربية الليبية في مالطا، وكان مقر عمله في مطار لوقا وفاليتا. واضاف ان وظيفته كانت غطاء لعمله لمصلحة جهاز الاستخبارات الليبي. وتناولت مجموعة طويلة من الاسئلة التي وجّهت اليه بنية الجهاز واقسامه المختلفة، وهي خطوة كانت تهدف بوضوح الى تأكيد مدى اطلاعه على عمل اجهزة أمن الدولة في ليبيا. ثم سُئل الجعايكة عن المقرحي الذي كان يرأس، حسب ادعائه، قسم "أمن الخطوط الجوية" في جهاز الاستخبارات الليبية في 1985 قبل ان يُنقل الى "مركز الدراسات الاستراتيجية" في طرابلس في 1987. وروى الجعايكة انه عندما ذهب الى مالطا في 1985 قدم تقريراً بوجوده الى المقرحي وان فحيمة كان مدير المكتب في لوقا. وادعى ان المقرحي طلب منه ان يهتم بصديقه فحيمة. كان اول معلومة مهمة فعلاً كشف عنها الجعايكة في شهادته تتعلق بتاريخ اول اتصال له ب "سي آي أي": س: هل حدث في وقت ما في 1988 انك اجريت اتصالاً بالسفارة الاميركية في مالطا؟ ج: نعم. س: متى حدث ذلك؟ ج: في آب اغسطس 1988. س: هل كانت هناك حادثة معينة دفعت بك الى القيام بذلك؟ ج: نعم. س: قدّم وصفاً لهذه الحادثة، رجاء. ج: في وقت ما في آب اغسطس، وصلت برقية من طرابلس وتضمنت تعليمات لي وللسيد فحيمة بمغادرة المكتب والعودة الى طرابلس في اليوم نفسه. طُلب منا ان نسافر على اول طائرة متوجهة الى طرابلس ذلك اليوم. علمت بذلك في وقت مبكر صباحاً، وعلمت به عبر احد موظفي "الخطوط العربية الليبية"، عليب شاد". واكتشف الجعايكة في وقت لاحق ان احدى الراكبات كانت شكت في شأن حادث في المطار، وان مسؤوليه في طرابلس اُحيطوا علماً بذلك. ورغم ان المسألة بدت تافهة تماماً، فانها كانت، حسب ما يبدو، ذات تأثير كبير على الجعايكة: س: ماذا كان رد فعلك على استدعائك الى طرابلس بالارتباط مع هذه المسألة؟ ج: شعرت بعدم الارتياح من العمل في جهاز الاستخبارات الليبي بسبب تورطه في الارهاب والطريقة التي كان يعامل بها المعارضين. وكانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير، إذا صح التعبير. شعرت بأننا، كعاملين في جهاز الاستخبارات، لا نملك أي ثقل في الواقع بالمقارنة، على سبيل المثال، مع شكوى من امرأة مصرية جميلة - لم يكن لدينا أي نفوذ". هكذا، كانت شكوى قدمتها "مصرية جميلة" هي التي دفعت بالجعايكة الى ان يتحول مخبراً. واتضح في وقت لاحق ان شعوره بالقلق لاستدعائه الى ليبيا ربما كان يتعلق بدرجة اكبر بكثير بتورطه في التهريب والمقامرة. لكن اياً كانت الاسباب وراء ارتداده، فإن الحقيقة البسيطة ولكن المذهلة هي ان الجعايكة كان يمد "سي آي أي" بالتقارير قبل لوكربي بوقت طويل. ابلغ الجعايكة المحكمة انه كان يشعر باستياء بشأن الارهاب، لكنه نفى تورطه اطلاقاً فيه. وقال ان "هدفه كان ان يترك وظيفته ويذهب الى الولاياتالمتحدة". واوضح انه توجه الى السفارة الاميركية برفقة امرأة اسمها دوريس كانت تتولى الترجمة له. وابلغ المسؤولين هناك انه يريد ان يذهب الى الولاياتالمتحدة، لكنهم طلبوا منه ان يبقى في موقعه لجمع معلومات. وسأل كامبل الجعايكة اذا كان اثار قضايا طبية مع الاميركيين: س: هل طلبت من السلطات الاميركية بعدما اقمت علاقة معها ان تساعدك في الحصول على نوع معين من العلاج الطبي؟ ج: نعم. س: هل كنت بحاجة الى علاج طبي؟ ج: كنت اعاني اصابة قديمة في ذراعي. فكّرت بترك جهاز الاستخبارات، لكن عمري كان يسمح آنذاك باستدعائي الى الخدمة العسكرية. لذا كنت احاول ابتعد اكثر ما يمكن عن الجهاز. كنت اريد ان اعيش حياة طبيعية واكون مواطناً عادياً. لذا طلبت من الاميركيين مساعدتي لمفاقمة هذه الاصابة في ذراعي قليلاً كي تكون سبباً لاعفائي من الخدمة العسكرية. س: وهل كان هذا يعني طلب اجراء عملية جراحية من شأنها ان تعطي الانطباع بانك غير مؤهل لمثل هذه الخدمة؟ ج: نعم. س: وهل حصلت على جراحة مثل هذه لاحقاً بمساعدة السلطات الاميركية؟ ج: نعم. س: كم عملية جراحية اُجريت لك؟ ج: اُجريت لذراعي عمليتان جراحيتان. س: هل حصلت على اي علاج لظهرك؟ ج: كلا، لم احصل على علاج لظهري، لكن تلقيت بالفعل فحصاً طبياً اجرته الوكالة. س: وماذا كان الغرض من ذلك؟ ج: كان الغرض من هذا الفحص هو ايجاد عذر او شيء ما يمكن ان يستخدم كعذر. كنا نحاول ان نجد شيئاً يمكن ان يثبت انه كانت لدي مشكلة في الظهر. س: وماذا كان في نيتك ان تفعل اذا جاءت مرحلة يمكن ان تترك فيها جهاز الاستخبارات الليبي ولا تُستدعى الى الخدمة العسكرية؟ ماذا كنت تنوي ان تفعل؟ ج: كنت اريد ان ادخل مجال الاعمال. س: اين؟ ج: في ليبيا. هنا ضُبط الجعايكة وهو يكذب. فاذا كان، كما ادعى، يعمل في جهاز الاستخبارات الليبي فإنه سيكون معفياً بالفعل من الخدمة العسكرية. ليس هذا فحسب، بل ان هدفه تغيّر خلال بضع دقائق من الذهاب الى الولاياتالمتحدة الى ادارة مشروع تجاري في ليبيا. سعى كامبل بعدئذ الى ان يراجع مع الجعايكة جدولاً زمنياً مكثفاً لاتصالاته مع "سي آي أي". هل كان يعرف ان الاشخاص الذين يتعامل معهم كانوا من "سي آي اي"؟ كلا، ليس في البداية ولكنه اكتشف ذلك لاحقاً. وتذكر الجعايكة ان الشخص المسؤول عن الصلة به "اعتاد ان يدوّن المعلومات"، لكنه اضاف "لا اعرف كيف كان يعمل". كان الجعايكة، كما بدا، هو الشخص الوحيد في كامب زايست الذي يجهل اي شيء عن برقيات "سي آي أي" التي شغلت اهتمام القضاة والمحامين على امتداد اسابيع. وانتقل كامبل الى احد العناصر الاكثر اثارة للجدل في شهادة الجعايكة، وهي قضية "المتفجرات في الدُرج". فقد ادعى ان فحيمة ابلغه انه تم ايصال عشرة كيلوغرامات "تي إن تي" من قبل المقرحي وانه عندما فتح فحيمه دُرج طاولته وجد صندوقين كبيرين يحتويان "مادة ضاربة الى الصّفرة". وقال انه بالاضافة الى المتفجرات، كان فحيمة يحتفظ بشيكات سياحية قيمتها 10 آلاف دولار في المكتب. وادعى ان المتفجرات كانت في شكل آجر. وعندما طُلب منه ان يصف حجم الآجر، قال بصورة مشوشة نوعاً ما انها كانت اكبر قليلاً من الصندوقين. وحسب الجعايكة فإن المتفجرات بقيت في الدُرج الى ان نقلها القنصل الليبي في مالطا. ورداً على سؤال عن زيارة المقرحي الى مالطا في 7 كانون الاول ديسمبر 1988، قال الجعايكة انه سافر ذلك اليوم تحت اسم عبدالباسط علي. وجرى التدقيق مع الشاهد في تفاصيل مساء احد الايام في كانون الاول ديسمبر عندما ادعى انه شاهد المتهمين يصلان الى مالطا على متن طائرة من طرابلس. ووصف ما قال انه "كان يشبه حقيبة سامسونايت"، مضيفاً انه "كان لها الشكل نفسه وكانت ضاربة الى السّمرة. كانت ضاربة الى سمرة لامعة". ثم وصف كيف شاهد فحيمة يأخذ الحقيبة من حزام نقل الحقائب ثم ينقلها هو والمقرحي عبر الجمارك من دون ان تفتح. وسُئل الجعايكة بعدئذ عما اذا كان شخص ليبي اسمه سعيد رشيد سأل عن امكان وضع حقيبة لا تعود الى راكب على متن رحلة بريطانية في مطار لوقا. فقال انه تشاور مع زميل له في جهاز الاستخبارات الليبي يدعى صلاح وقدما معاً تقريراً يقول ان ذلك كان ممكناً. وادعى الجعايكة انه عندما اثار موضوع التقرير مع المقرحي كان رده "لا تستعجل الامور". وانهى نائب المدعي استجوابه بالطلب من الجعايكة ان يتذكر محادثة جرت بينه وبين فحيمة. س: هل اُثير موضوع تدمير طائرة ال "بان آم 103" في أي من هذه الاحاديث؟ ج: طلبت ذات مرة من الأمين فحيمة ان يرافقني في السفر الى مالطا لأنه لم يكن مسموحاً لي كعضو في جهاز الاستخبارات الليبي بالسفر من دون تفويض، لذا فاذا جاء فحيمة معي... في المرة الثانية التي زرته فيها كان قد غيّر رأيه. قال ان عبدالباسط وانا غير مسموح لنا او لا يمكن ان نغادر ليبيا لأن السلطات الاميركية تفتش عنا". س: وماذا قال لك غير ذلك عن هذا الموضوع؟ ج: قال ان عبدالباسط سيتصل بعبدالله السنوسي ليتحدث اليه حول هذا الامر. وفي الزيارة الثانية الى الأمين فحيمة ابلغني ان هناك اوامر اليه والى عبدالباسط وكذلك اليّ من السيد السنوسي، وان هذه كانت تعليمات بعدم مغادرة ليبيا، بسبب التحقيقات في تدمير ال "بان آم 103". وبدا منزعجاً خلال المحادثة. وقال شيئاً لا ازال اتذكره. قال: "الاميركيون يفتشون عنا، والاميركيون قصفوا طرابلس". وبدا لي ان هذا يعني انهم كانوا لا ينتظرون رداً انتقامياً. س: عندما تقول "بدا لي ان هذا يعني انهم كانوا لا ينتظرون رداً انتقامياً"، هل يمكن ان توضح لي ماذا تعني بذلك؟ ج: قال، في لحظة عندما كان منزعجاً، وكان منزعجاً جداً خلال المحادثة: "انهم قصفوا ليبيا، ولم يجر التحقيق في الأمر، وهم الآن ينتظرون او يتوقعون رداً انتقامياً". س: وهل قال أي شيء بشأن المال؟ ج: كان لديه مبلغ من المال تم تجميده، حسب قوله، في سويسرا. لا اعرف في الحقيقة اي شيء عن ذلك. كان حوالي 200 الف دولار، شيئاً يشبه ذلك. كان ذلك رداً غريباً لان الجعايكة بدا متمتعاً بذاكرة تكاد تبلغ حد الكمال. وسأله القاضي اللورد ساذرلاند عن تاريخ المحادثة. فأجاب: "نيسان ابريل او ايار مايو او آذار مارس 1991. خلال هذه الاشهر الثلاثة". انتهت شهادة الجعايكة بعد بضع ساعات فقط. وكان محامي الدفاع بيل تايلور اول من استجوبه وبادر الى الهجوم فوراً، موجهاً اليه اسئلة حول عمله في كاراج السيارات التابع لجهاز الاستخبارات الليبي: س: يحتاج فنيو السيارات الى بعض التدريب ولكن لا يحتاجون الاّ بالكاد الى تدريب ذهني كبير. ألا تتفق مع هذا الرأي؟ ج: هل يمكن ان تعيد سؤالك، رجاء؟ س: لا تحتاج لأن تكون حاد الذكاء كي تصلح سيارة؟ ج: لم افهم سؤالك. لكن المقاطع المحجوبة سابقاً من برقيات "سي آي أي" هي التي اعطت هيئة الدفاع ذخيرتها الاكثر فتكاً. وقرأ تايلور احدى البرقيات التي كتبت بعد حوالي سنة من اول اتصال اجراه الجعايكة مع "سي آي أي". وكانت محتوياتها ذات تأثير مدمر: "طلب الجعايكة تعويضاً قيمته الف جنيه او ليرة مالطية عن عملية جراحية ثانية اُجريت لذراعه. كما طلب تعويضاً قيمته 500 ليرة مالطية عن 20 يوماً اقامة في فندق واستئجار سيارة ونفقات يومية تحملها خلال هذه الرحلة الى مالطا. وينوي ضابط الارتباط تسليم المبلغ اعلاه الى الجعايكة في لقاء في 4 ايلول سبتمبر، بالاضافة الى 5000 دولار عن الراتب المستحق الدفع له للفترة الى آب اغسطس 1989. وسيُبلغ الجعايكة بصورة قاطعة، في 4 ايلول سبتمبر، باننا لن نقدم اي مساعدة مالية اضافية لعشر عمليات جراحية اُجريت لذراعه. كما سيُبلّغ بأننا سنواصل فقط دفع راتبه الشهري الذي يبلغ 1000 دولار الى نهاية 1989. واذا لم يستطع الجعايكة ان يثبت قدرة دائمة وواضحة على الوصول الى معلومات ذات قيمة استخبارية بحلول كانون الثاني يناير 1990، فان "سي. آي. أي." ستوقف كل دفعات الراتب والدعم المالي الى ان يمكن اثبات مثل هذه القدرة مرة اخرى." هكذا تكشفت الحقيقة بوضوح. بعد انفجار لوكربي بأشهر كثيرة كانت نوعية المعلومات الاستخبارية التي يقدمها الجعايكة ذات نوعية سيئة لدرجة ان "سي آي أي" هددت بوقف دفع المال له. وواصل تايلور، مستخدماً البرقيات، مهاجمة كل جانب من دوافع الجعايكة وشخصيته. وخلال قيامه بذلك لاحظ ان الجعايكة كان ينظر مبتسماً الى المحاميين برايان مورتاف ودانا بايل من وزارة العدل الاميركية اللذين جلسا في المحكمة، بينما كان يتحاشى النظر الى تايلور عند الرد على اسئلة لم يكن مهيئاً لها. وسأل تايلور الجعايكة هل يعرف المحاميين فأجاب مؤكداً ذلك. وفي احدى المرات شعرت هيئة الدفاع بان محاميي وزارة العدل الاميركية يعطيان ايماءات بالوجه، ما دفعها الى التفكير باثارة الأمر مع القضاة، الاّ انها اكتفت باشعار هيئة الادعاء بقلقها. واظهرت البرقيات ان الجعايكة حضر اللقاءات القليلة الاولى مع "سي آي أي" برفقة شخص اُشير اليه ب "ت 1"، وهي صديقة مالطية تدعى دوريس غريتش عملت كمترجمة. وبدا ان المال هو الدافع الأساسي للجعايكة، وكان واضحاً انه مستعد لتغيير الاحداث كي تناسب الظروف. انتهى يومه الاول في منصة الشهود باستجواب قاس حول الطلب الذي قدمه الى "سي آي أي" للحصول على مال لاجراء جراحة كاذبة على ذراعه. وادعى الجعايكة انها اصابة قديمة وقد تفاقمت. ودفعت "سي آي أي" في النهاية كلفة الجراحة، من دون ان تعلم بأن الجعايكة تمكن ايضاً من اقناع الخطوط الجوية العربية الليبية بدفعها. وفي اليوم التالي استأنف تايلور هجومه، وسأل الجعايكة عن قول المقرحي له "لا تستعجل الامور". وقال للجعايكة انه قبل ان يقدم شهادته في المحاكمة اُجريت معه ما لا يقل عن 14 مقابلة من قبل "إف بي آي" و"سي آي أي"، واعطى شهادة امام هيئة محلفين كبرى في الولايات الممتحدة ادت الى اصدار لائحة الاتهام ضد الليبيين، ثم اجرت الشرطة الاسكتلندية مقابلة معه، ولم يرد ادعاؤه هذا اطلاقاً خلال هذه التحقيقات. ولفت تايلور الى ان احدى برقيات "سي آي أي"، بتاريخ 6 ايلول سبتمبر 1989، تضمنت معلومات عن لقاءات مع الجعايكة في المساء في اليومين السابقين، وسُئل خلالها على وجه التحديد هل ادلى أي من المسؤولين الليبيين بأي تعليقات في ما يتعلق بطائرة ال "بان آم 103". وجاء في البرقية ما يأتي: "لم يستطع الجعايكة ان يعطي اي تعليقات محددة بشأن ما قاله او تكهن به مسؤولون ليبيون آخرون في شأن "بان آم 103". ويبدو من تعقيبات الجعايكة ان ال "بان آم 103" قد لا يكون موضوع حديث لدى زملائه. ولم يستطع ان يقدم أي معلومات اضافية". واجاب الجعايكة، بشكل يدعو للسخرية الى حد ما، بانه لم يبلغ "سي آي أي" لاسباب امنية. وقبل ان ينهي تايلور استجوابه، انتزع بمهارة من الجعايكة إقراره بأنه على رغم صعوبة تذكره بعض الحوادث فإن المعلومات التي تضمنتها برقيات "سي آي أي" كانت صحيحة. وقال اذا كانت هناك برقية بتاريخ 21 كانون الاول ديسمبر 1988 حول لقاء معه بعد ظهر اليوم السابق - قبل يوم فقط من انفجار لوكربي - فإن هذا اللقاء جرى فعلاً. وكانت الظهيرة ذاتها التي ادعى الجعايكة بأنه شاهد خلالها المتهمين في مطار لوقا وبحيازتهما حقيبة سامسونايت "ضاربة الى السّمرة"، ومع ذلك فإن البرقية في اليوم التالي لم تتضمن أي اشارة الى ذلك. وعندما بدأ محامي الدفاع ريتشارد كين باستجواب الجعايكة بدا واضحاً انه مصمم على تمزيقه. ورداً على سؤال لماذا اختار ان يقدم شهادته باللغة العربية بدلاً من الانكليزية، قال الجعايكة ان انكليزيته ليست جيدة بدرجة كافية للميدان القانوني. فتساءل كين انه اذا كان الامر هكذا فلماذا قدم الجزء الاكبر من شهادته في 1991 امام هيئة المحلفين الكبرى في الولاياتالمتحدة باللغة الانكليزية؟ ونفى الجعايكة ان يكون أي شخص اقترح ان يقدم شهادته الحالية بالعربية. وكان الجعايكة، حسب برقيات "سي آي أي"، ابلغ عملاء الوكالة الذين كانوا على اتصال به بأن العقيد القذافي كان ماسونياً. واستخدم كين هذه المعلومات لجعل الشاهد يبدو أضحوكة: س: كيف اكتشفت ان العقيد القذافي ماسوني؟ ج: حسناً، هل وجّه هذا السؤال اليّ امام هيئة المحلفين الكبرى؟ س: كيف اكتشفت ان العقيد القذافي ماسوني؟ ج: هل كان هذا السؤال بين الاسئلة التي وجّهت امام هيئة المحلفين الكبرى؟ س: كيف اكتشفت ان العقيد القذافي ماسوني؟ ج: سألتني سؤالاً، واريد ان اعرف اين وجدت هذا السؤال، من فضلك. س: كيف اكتشفت ان العقيد القذافي ماسوني؟ ج: انا اسأل عن الوثيقة التي تشير اليها. هل هذا السؤال موثّق؟ اتذكر الجواب على هذا السؤال، لكن لا اريد الخوض في مواضيع بعيدة عن الموضوع الذي نتحدث عنه. انت تتحدث عن هيئة المحلفين الكبرى. هل كان هذا السؤال احد الاسئلة التي وجّهت امام هيئة المحلفين الكبرى؟ س: كيف اكتشفت ان العقيد القذافي ماسوني؟ ج: ما ازال اصر على ان تكشف مصدر هذا السؤال، وعندذاك سأجيبك. س: كيف اكتشفت ان العقيد القذافي ماسوني؟ ج: انا اطلب من قاضي المحكمة ان يتدخل لدى الدفاع لتوضيح الوثيقة التي يتحدث عنها، وبعدئذ سأجيب على السؤال. ليس لدي اعتراض على ان اُجيب عن السؤال بعد ذلك. اللورد ساذرلاند: السيد مجيد، نحن لسنا معنيين بأين، إن وجد، حصل الدفاع على هذه المعلومات. لكنه سؤال يحق لهم ان يوجّهوه ويجب ان اطلب منك ان تجيب عليه. ج: عرفت ذلك من شخص، لكن لا استطيع ان اكشف اسم هذا الشخص. الشخص موجود في ليبيا، ولاسباب امنية لا يمكن ان اذكر اسم هذا الشخص. السيد كين: حسناً، في هذه الحالة بامكانك ان تكتبه على ورقة وتوصل الاسم الى اللورد القاضي، ويمكن عندئذ ان يقرر هل يعطيه لمحامي الدفاع كي يتمكنوا من التأكد من صدق ما تقوله. هل تود ان تفعل ذلك، من فضلك، ايها السيد الجعايكة؟ وبعد مناقشة قانونية وجيزة، عاد كين الى الموضوع ذاته، وسأل الجعايكة كيف يمكن لرئيس مالطا السابق، غيدو دي ماركو، ووزير الخارجية الليبي السابق ان يكونا جزءاً من مؤامرة ماسونية. وقال الجعايكة انه لا يذكر. وتساءل كين ما اذا كان هذا هو نوع المعلومات التي كان يغذي بها سادته الاميركيين، فرد الجعايكة مرتبكاً: "لا تقل سادتي. انا مواطن اميركي". وتابعت وسائل الاعلام العالمية حينها باهتمام شهادة الجعايكة التي تحولت الى مهزلة. ولم ينته الامر عند هذا الحد. فقد ادعى الجعايكة بحسب برقيات "سي آي أي" انه كان من اقرباء حاكم ليبيا السابق، الملك ادريس. نفى الجعايكة ذلك، وانحى باللائمة على رداءة الترجمة. ورد كين بقوة: "انت كاذب، اليس كذلك؟ يا سيد جعايكة، انت تدلي باكاذيب كبيرة وتدلي باكاذيب صغيرة، لكنك تكذب، اليس كذلك؟". وحاول الجعايكة، بعدما كشف كذبه مرات اخرى عديدة، ان يبرر ما نُقل عنه في البرقيات بأنه نتيجة رداءة الترجمة والتدوين من جانب "سي آي أي". ووصف احد المطلعين المزاج في كامب زايست خلال استجوابه بأنه كان "اكثر كآبة من احدى امسيات تشرين الثاني نوفمبر في ادنبرة؟". واثار استخدام كين بشكل متواصل تعبير "السادة الاميركيين" غضب الجعايكة لدرجة انه اشتكى الى القضاة. كان واضحاً من الاستجواب ان الجعايكة لم يكن صادقاً كما ينبغي مع "سي آي أي" في ما يتعلق بسجل عمله السابق عندما اجرى اول اتصال بهم. فقد زعم في البداية انه كان يعمل في قسم الملفات السرية في جهاز الاستخبارات الليبي، بينما لم يمض هناك سوى بضعة ايام في هذا القسم، وعمل قبل ذلك كمستخدم في قسم طلاء السيارات لمدة 18 شهراً. واستقال من قسم الملفات عندما اُكتشف بأن 400 ملف اختفت، خشية ان تلقى عليه المسؤولية عن ذلك. وكانت "سي آي أي" نقلت عن الجعايكة قوله انه كان يرتبط ب "علاقة شخصية قديمة مع السنوسي"، رئيس جهاز الاستخبارات الليبي. وعندما سأله كين عن ذلك، نفى الجعايكة كعادته انه قال ذلك. ابتدأ كين استجواب الجعايكة في آخر يوم له في منصة الشهود، 28 ايلول سبتمبر، بسلسلة من الاسئلة التي نجحت في مباغتة الليبي: س: ماذا فعلت بعدما انتهيت من تقديم شهادتك امس في الساعة 00،5 مساء؟ ج: عدت الى حيث اُقيم. س: لماذا بقيت اذاً في هذا المبنى الى ما بعد السابعة مساء امس؟ ج: يمكن ان تسأل الاشخاص الذي يرافقوني او الموجودين معي عن ذلك. س: ماذا كنت تفعل في هذا المبنى الى ما بعد السابعة مساء امس؟ ج: كنت في غرفة، وكنت بانتظار اصطحابي الى المكان الذي اقيم فيه. س: هل اطلعت على النص المطبوع لشهادة يوم امس؟ ج: لم اطلع على أي شيء. س: هل تراني، يا سيد جعايكة؟ ج: نعم. كانت اسئلة كين تنطوي ضمناً على التلميح الى ان تحليلاً لاداء الجعايكة الشنيع في منصة الشهود اُجري بحضور محامي الادعاء والمحامين من وزارة العدل الاميركية. فقد جاء الجعايكة الى المحاكمة بعدما اُنفقت عليه اموال طائلة: حوالي عشر سنوات من العيش المريح في الولاياتالمتحدة، ومن دون القيام بيوم عمل منذ رحيله من مالطا في تموز يوليو 1991، وتنشئة عائلة وقيادة سيارة، وهذا كله على حساب دافعي الضرائب الاميركيين. في محادثة مع مؤلفي الكتاب خلال شهادة الجعايكة وصف فينسنت كانيسترارو، مدير التحقيق السابق في "سي آي أي"، الجعايكة بأنه "شخص بطيء". واتضح عبر الاستجواب انه كان مستخدماً في قسم طلاء السيارات وموظفاً صغيراً في جهاز الاستخبارات، وادعى انه كان يكسب ما بين 1000 و 1200 دولار شهرياً من "سي آي أي" قبل هربه من مالطا. وكان متورطاً في التهريب في مطار لوقا، وبعد حادثة تتعلق بشابة مصرية من اسرة مرموقة في المطار اُستدعي الى مقر الجهاز في طرابلس. وخوفاً من النتائج المحتملة، طلب من صديقته درويس غريتش ان ترافقه الى السفارة الاميركية في مالطا حيث عبّر عن احساسه بالخيبة ازاء جهاز الاستخبارات الليبي بسبب صلاته الارهابية. وطلب اشياء مختلفة من "سي آي أي"، من بينها الذهاب الى اميركا، والعودة الى ليبيا لادارة مشروع تجاري، والبقاء في مالطا وانشاء شركة لتأجير السيارات. وغيّر سجل عمله السابق عندما اتصل ب "سي آي أي" ولم يخبرهم بأنه خلال الاشهر ال 18 الاولى من عمله في جهاز الاستخبارات الليبي كان يعمل في قسم طلاء السيارات، وابلغهم بدلاً من ذلك بأنه عمل في البداية في "قسم الملفات السرية". ولو كان اطلع "سي آي أي" على عمله في قسم طلاء السيارات ربما كانوا سيطرودنه. وطلب الجعايكة من "سي آي أي" مدّه ب 30 الف دولار ليضيفها الى الاموال التي تمكن من ادخارها من راتبه الكلي في مالطا طوال سنتين ويفتح بها مشررعاً لتأجير السيارات. وخلال اول سنتين من عمله لمصلحة "سي آي أي" أمتع الجعايكة المسؤولين عن الاتصال به بقصص عن مؤامرات ماسونية، وعن علاقاته العائلية بالملك ادريس، وعن مساهمته منذ البداية في لجان القذافي الثورية رغم ان عمره كان لا يزيد عن ست سنوات عندما اُنشئت هذه اللجان. وبعد اكثر من سنة على اول اتصال اجراه بالسفارة الاميركية لم يذكر اي شيء يمكن ان يورّط ليبيا، ناهيك عن المقرحي وفحيمة، في تفجير "الرحلة 103". وبالفعل، بلغت خيبة مسؤولي الاتصال به في "سي آي أي" من نوعية معلوماته حداً دفعهم الى التهديد بالتوقف عن دفع مبالغ له. وحالما نُقل الى البحر الابيض المتوسط للقاء بمخبري "إف بي آي" على متن البارجة "يو إس إس بات" في تموز يوليو 1991، اصبحت ذاكرة الجعايكة اكثر دقة بشكل مدهش. وخلال الاسبوعين اللذين تليا ذلك، تحولت عبارات من قبيل "حقيبة، لا اعرف اي شيء عن حقيبة" الى "آه، تلك الحقيبة - كان ذلك في وقت ما في ايلول سبتمبر او تشرين الاول اكتوبر او تشرين الثاني نوفمبر او كانون الاول ديسمبر 1988"، واخيراً الى: "شاهدت حقيبة السامسونايت البنية يوم 20 كانون الاول ديسمبر يحملها فحيمة والمقرحي في مطار مالطا". ربما كان هواء البحر، إن لم يكن "إف بي آي"، هو الذي نشّط ذاكرة الجعايكة، او الارجح انه الخوف من انه سيُرسل ثانية الى ليبيا، ما لم يضمن ذهابه الى الولاياتالمتحدة بابلاغ محققيه ما كان يعتقد انهم يريدون ان يسمعوه.