تلويح لجنة المتابعة العربية بتفعيل "المقاطعة" سلاحاً سياسياً واقتصادياً ضد اسرائيل يبدو مهماً في الظاهر، لكنه غير مقنع في الواقع. كلنا يعرف قصة المقاطعة، وكيف أنها كانت مفيدة يوماً ما ثم تلاشت ولم تعد تهم أحداً، وكيف ان الحكومات العربية باتت أضعف من أن تقاطع أحداً أو شيئاً، وكيف أن العمل العربي المشترك المجدي ضد اسرائيل لا تعوزه الأفكار والوسائل وانما يعوزه الالتزام، الالتزام، الالتزام. أصبح معروفاً ان كل اجراء يتفق عليه، أو يعلن اتفاق بشأنه، ما هو سوى صيغة كلامية للتخلص من الحرج، يعتقد أصحابها أنها تخلصهم من ورطة تتطلب قراراً وعملاً وهم لا يقوون على اتخاذ قرار، ولا على القيام بالعمل المطلوب. وتبقى الورطة، الأزمة، فارضة نفسها، لا يحلونها ولا يحلها العدو ولا هي تحل نفسها بنفسها. وفي الحال الفلسطينية جرّب العرب التنصل من "القضية" معظم عقد التسعينات السابق، وتركوا الفلسطينيين المعنيين المباشرين بها يعالجونها وحدهم، ثم ارتدت اليهم. ظنوا ان الرأي العام لديهم انشغل بهمومه المحلية ولم يعد مهتماً ب"القضية"، فإذا بهم "يفاجأون" - ولا مفاجأة في الأمر - بأنها في وجدان الأمة ومشاعرها. إذاً، لماذا هذه المداورة الدائمة والتصرف كأن المسألة لم تعد في جدول الأعمال؟ وإذا كانت موجودة ومعترفاً بوجودها فلماذا هذا الانصراف عن تحمل المسؤولية؟ ليس مطلوباً من أحد أن يجترح المعجزات، ولا ان يتحمل فوق طاقته، ولا أن يكون وحده في فوهة المدفع. جُرّب الانفراد والاستفراد، ولم يؤد بأي متفرد إلى الغاية التي نشدها بل انقلبت عليه ونكّدت معيشته شعباً وحكومة. في حقبة الحروب عادت أميركا العرب وحاربتهم الى جانب اسرائيل، وفي حقبة "السلام" التي بدأت بمبادرة اميركية ظلت اميركا في موقع معادٍ لا يتزحزح، وليس متوقعاً ان تتغير، لكنها تتوقع ان يتغير العرب أكثر فأكثر، أي ان يصبحوا أكثر مطواعية، وكلما أطاعوا كلما تدهورت أحوالهم... هذه، إذاً، اشكالية دائمة لا بد من التعامل معها على أنها من الثوابت، أي لا بد من التعايش مع هذا العداء على النحو الذي لا يمنع أي بلد من أن يكون مع نفسه ومع محيطه العربي. اما مجرد الخضوع للضغوط ظناً بأنها ستنتهي يوماً فهو أيضاً خضوع للأوهام، ولا يمكن ادارة أي بلد بأوهام. مطلوب تصارح عربي حول هذا الشأن، وليس مطلوباً حشد القوى لمحاربة أميركا. أما تكاتف الجهود لوضع حد للاساءات الأميركية فهو ممكن. هناك قلق عربي الآن من خدعة أميركية جديدة. والأميركيون قادرون على ارتكابها ان لم يكن بفعل الغباء فبدافع الانحياز لاسرائيل. وقد وضعت واشنطن كل ثقلها وصلفها للتوصل الى وقف النار، مع علمها أن النار التي يجب أن تتوقف انما تأتي من الجانب الاسرائيلي أولاً وأخيراً. لكن المأزق الراهن بالغ الوضوح: كيف يمكن ضمان وقف النار بلا أي ضمان على الاطلاق؟ فلا يوجد مراقبون، ولا تزامن لخطوات واجراءات، ولا رفع للحصار، ولا انفراج تموينياً للفلسطينيين، ولا حرية حركة، ولا وقف للتوغلات أو لمصادرة الأراضي أو جرفها، ولا وقف للتهديدات ومحاولات الاغتيال وتفخيخ السيارات... انه وقف نار بشروط تسهّل استمرار اطلاق النار من الجهة الاسرائيلية، بل تعطيه مشروعية. أين الجانب السياسي في التحرك الأميركي؟ يقال ان وليام بيرنز سيحمل شيئاً منه الى الفلسطينيين على سبيل التخدير، ويقال ايضاً انه سيحسم خلال زيارة ارييل شارون لواشنطن، ويقال خصوصاً ان الادارة الأميركية لا تزال تشترط "تبريداً" أمنياً كاملاً قبل مباشرة المقلب السياسي من مسيرة تطبيق توصيات "لجنة ميتشل"... بكل النيات الطيبة والحسنة يمكن الأميركيين ان يخدعوا العرب من أن يكون هدفهم ان يخدعوهم. فالمهم عند واشنطن ان يستمر تطبيق خطة شارون بلا عراقيل ولا ازعاجات، أي إخماد أي صوت وأي نار ضد الاحتلال من الجانب الفلسطيني. اما توصيات ميتشل فلماذا يتوقع الجميع لها مصيراً مختلفاً عن مصير ما سبقها من توصيات وقرارات دولية؟