وصل المبعوث الأميركي وليام بيرنز الى الشرق الاوسط وجال فيه ثم عاد، من دون ان تتجاوز "وساطته" المزعومة سقف طلب وقف اطلاق النار، وهو طلب اسرائيلي خالص. المسؤول الأميركي، سواء كان بيرنز، او دنيس روس قبله، او بيل كلينتون امس، او جورج بوش غداً، لا يمكن ان يكون وسيطاً لأنه طرف في النزاع الى جانب اسرائىل، فالسلاح اميركي والمال اميركي، والفيتو الذي يحمي العدوان في الأممالمتحدة اميركي. والمبعوث الأميركي الأخير جاء ليطلب وقف اطلاق النار، وهذا خدعة مكشوفة الى درجة ان تكون اهانة للعقول، فإطلاق النار بدأ لسبب او ألف سبب، ووقفه الآن يعني إلغاء الأسباب التي كانت وراءه، والتنكّر لدم الشهداء. مرة اخرى وليام بيرنز جاء لينقذ الحكومة الاسرائيلية، لا ليدعم غرض السلام، فهناك ارض محتلة والفلسطينيون يقاومون لتحريرها وإجلاء عدوهم عنها. ولو كانت الولاياتالمتحدة وسيطاً، لا طرفاً، لطلبت وقف اطلاق النار وبدء مفاوضات ملازمة له على اساس القرارات الدولية والاتفاقات المعقودة لاكمال الانسحاب الاسرائيلي من الاراضي الفلسطينية. اما ان تطلب وقف اطلاق النار كهدف بذاته، فهذا تواطؤ مع حكومة السفاح آرييل شارون الذي اعلن وقف اطلاق النار من طرف واحد، ثم اخذ يهدد بأن صبره بدأ ينفد، لأن الفلسطينيين لم يتوقفوا عن المقاومة والاحتلال جاثم على الصدور. قبل وقف اطلاق النار كانت هناك خدعة تقرير ميتشل، فالتقرير جيد كمجموعة آراء متكاملة، إلا انه تحوّل بسرعة الى عملية شد حبل موضوعها المستوطنات، ومنع بناء جديد او توسيع الموجود منها. غير ان الانتفاضة لم تبدأ بسبب المستوطنات، ولن تتوقف بالتالي سواء بنيت مستوطنات جديدة او لم تبنَ، او لم توسع المستوطنات القائمة. الواقع ان شارون ووزير خارجيته شمعون بيريز ووزير دفاعه بنيامين بن أليعيزر اعلنوا قرار وقف بناء المستوطنات، وكأن هذا وحده يكفي لوقف الانتفاضة. والحكومة الاسرائيلية اعلنت كذلك قبولها المبادرة الأميركية الاخيرة، غير ان هذا كله لا يكفي فالمطلوب بدء مفاوضات سياسية لإنهاء السبب الحقيقي، بل الوحيد، للانتفاضة، وهو الاحتلال المستمر بالسلاح الاميركي والمال الاميركي والدعم السياسي الاميركي. القيادة الفلسطينية تستطيع لعب اللعبة نفسها، وهي اعلنت قبول تقرير ميتشل كرزمة واحدة، كما وافقت على عودة التنسيق الأمني، غير ان هذا مجرد كلام، للردّ على كلام حكومة شارون، فكما ان الحكومة الاسرائيلية لا تريد ان تحمل مسؤولية فشل مهمة لجنة ميتشل، او الجهد الديبلوماسي الاميركي، فإن الفلسطينيين لا يريدون ان يحملوا وحدهم مسؤولية الفشل. غير ان الفشل محتم طالما ان الولاياتالمتحدة تتواطأ مع اسرائىل لإطالة أمد الاحتلال، وتدعمه بكل وسائل القوة المتوافرة لها. الولاياتالمتحدة تستطيع ان تلعب هذه اللعبة القذرة الى حين، والأميركيون هم الذين علّمونا "انك لا تستطيع ان تخدع كل الناس كل الوقت"، وهي ستجد سريعاً انها لن تستطيع ان تخدع الشعوب العربية والاسلامية الى ما لا نهاية، ومصالحها في المنطقة او خارجها ستتضرر حتماً اذا استمرت في لعب دور مخلب القط لاسرائيل. وفي حين ان "الأنظمة" العربية متهمة دائماً، فإنني أعرض اليوم رأياً مختلفاً خلاصته ان القائد العربي الوطني يناسبه ضغط الشارع، لأنه يستعمله لتخويف اميركا من الاخطار على مصالحها، ويبرر به القرارات التي تعتبرها الولاياتالمتحدة "غير مساعدة" في محاولة احياء عملية السلام. والادارة الاميركية هي التي يقول عنها المثل "ناس تخاف ما تختشيش"، فإلى أن تخاف على مصالحها، فهي ستظل تمارس اوقح سياسة ممكنة في الشرق الاوسط ... سياسة تجعلها تستقبل مجرم حرب معروفاً في واشنطن، ثم تمتنع عن استقبال ضحيته، بل تحمّل الضحية مسؤولية موت نسائه وأطفاله لأنه كان يفترض ان يقبل الاحتلال، وأن يتخلى عن مطالبه الوطنية، لتنعم اسرائيل بالأمن، ولا تهدد المصالح الأميركية في المنطقة. الطريق الى الحل لا يبدأ بوقف بناء المستوطنات، او بوقف اطلاق النار، وربما كانت الخطوة الاولى ان نجد وسيطاً لنا عند الوسيط الاميركي، فالولاياتالمتحدة طرف مثل اسرائىل او اكثر في المواجهة الحالية، وهي بالتالي لا تستطيع ان تجترح حلاً، لأن الحل المطلوب معها قبل ان يكون مع اسرائيل. وسواء عقدت الاجتماعات الامنية او لم تعقد، فهي ستبوء بالفشل طالما ان هدف الديبلوماسية الاميركية إنقاذ حكومة شارون لا إنقاذ السلام.