يقع الجنوب اللبناني شمال إسرائيل ويحاذي المستعمرات والمدن الإسرائيلية الشمالية التي ظلت "بعيدة" عن المواجهات والحروب العربية - الإسرائيلية في 1948 و1956 و1967. فلبنان لم يكن دولة مواجهة على رغم اشتراكه في 1948 في معركة المالكية وبلاء الجيش اللبناني فيها البلاء الحسن. والجنوب هو محط أطماع إسرائيل تاريخياً في الأرض والمياه. ففيه الحاصباني والوزاني والليطاني وعدد كبير من الينابيع، وفيه السهول والأراضي الزراعية الخصبة، والمرتفعات والتلال ذات المزايا الاستراتيجية التي تطل على العمق الفلسطيني، وعلى العمقين السوري واللبناني مثل تلال كفرشوبا وشبعا، الى سفوح حرمونة. وكلها تقع ضمن الأهداف والأطماع التاريخية والراهنة لإسرائيل. وحتى عشية قيام إسرائيل كانت علاقات الجنوب والجنوبيين وثيقة جداً مع الداخل الفلسطيني. فأهالي مرجعيون وحاصبيا والقرى المجاورة كانوا يبيعون محاصيلهم الزراعية في "سوق الخالصة"، ويشترون ما يحتاجونه من محاصيل ومنتجات سهل الحولة الذي كانت معظم أراضيه الخصبة ملكاً لهم، ولا تزال مساحات كبيرة منه ملكاً لهم. فيعقوب الحوراني مواليد دير ميماس، 1919 يقول: كنا نذهب الى الحولة بالزيت والزيتون والتين المجفف والعنب فنبادلها بأنواع الحبوب من القمح والشعير وغيرها من المنتجات الزراعية. وكنا نذهب الى أراضينا في تلة ارياقا التي حولتها إسرائيل اليوم الى بساتين تنتج التفاح والدراق والإجاص وغيرها من أنواع الفاكهة، وهي ملك لأهالي دير ميماس، ونحن من بينهم، ونملك، نحن ورثة المرحوم تامر الحوراني، نحو أربعين دونماً في تلك التلة. وكان أهالي بنت جبيل وصور وعموم المنطقة المجاورة يذهبون للعمل في فلسطين وللتجارة فيها. وكانت كثرة من الجنوبيين تقصد فلسطين للعمل والتجارة في مرفأ حيفا الذي كان حتى قيام إسرائيل مرفأ المنطقة الأول. وبعد قيام إسرائيل فقد الجنوبيون بعض "مداهم الحيوي". ويقول الحاج عبدالمجيد بزي مواليد بنت جبيل عام 1936: حتى بعد قيام إسرائيل استمر الكثيرون من أبناء بنت جبيل والمنطقة بالعمل في تجارة التهريب مع الداخل الفلسطيني، وخصوصاً تجارة المواشي". ولم تقتصر الفاتورة التي دفعها الجنوبيون بقيام إسرائيل على خسارتهم "مداهم الحيوي"، انما خسروا قرى وبلدات ومزارع اقتطعت من الأراضي اللبنانية وضمتها إسرائيل. وسقط العشرات من أبناء المنطقة نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية على القرى اللبنانية، وكان أخطرها مجزرة حولا في 1948 التي ذهب ضحيتها زهاء تسعين شهيدا، ودفع الجنوب غالياً ثمن ثلاثة اجتياحات واحتلالاً مديداً. ويوماً بعد يوم كانت الأرض تحترق ويغزوها البوار. والأهالي كانوا ينزحون أو يهاجرون. ومن تبقى منهم لم يكن يحظى باهتمام الإدارة اللبنانية. ولم ينجح مجلس الجنوب، منذ 1970، لا في مساعدة الجنوبيين على إطفاء حرائق الاعتداءات الإسرائيلية على أراضيهم وحقولهم، في الحد من خسائرهم. وهكذا تستمر محنة الجنوبيين مع دولتهم من دون ان يشفع لهم غيابها عنهم نحو ربع قرن. كانت بنت جبيل تعج بحركة أهاليها البالغ عددهم نحو أربعين ألف نسمة، وبأهالي المنطقة التي كانت هي عاصمتهم السياسية والادارية والاقتصادية والثقافية. فإذا بها تتحول اليوم الى "قرية صغيرة" تعد 2500 نسمة. والمشكلة ان معضم أهلها ذهبوا في هجرة بعيدة، وباتوا يحملون جنسيات أخرى في مقدمها الجنسية الاميركية. جديدة مرجعيون، ويزيد عدد سكانها المسجلين في دوائر النفوس عن 15 ألف نسمة، لا يتجاوز عدد سكانها المقيمين الألف نسمة. وقد هجرها أهلها منذ زمن بعيد وعلى مراحل. وبعد الانسحاب الاسرائيلي، عاد بعضهم فاستلم منزله من محتله وأقفله وعاد من حيث أتى. عدد كبير من أهالي مرجعيون يقيمون في بيروت، وعدد أكبر ينتشرون في بلاد الاغتراب ويحملون الجنسيات الأجنبية من أميركية وكندية واسترالية، وبعضهم يعمل في السعودية ودول الخليج وغيرها من بلدان العالم الواسعة. وكان يقدر عدد سكان الخيام المقيمين بثلاثة آلاف نسمة عشية الانسحاب، زاد في اثناء السنة الماضية. وجلّ المقيمين في الخيام اليوم من المتقاعدين في الجيش وقوى الأمن الداخلي خصوصاً، ومن المعتمدين على ما يرسله ذووهم من العاملين في الخارج. ويبلغ عدد سكان الخيام، في نهاية كل اسبوع والعطل والمناسبات، نحو عشرة آلاف أو خمسة عشر ألفاً. وهم أقل من نصف عدد السكان المسجلين في دوائر النفوس. وتحولت جزين من عاصمة قضائها الى أكبر "قراه". وفقدت في أثناء الاحتلال المديد للمنطقة دورها السياحي والاصطيافي المميز على مستوى الجنوب، وعلى المستوى الوطني عموماً. وتنتظر حاصبيا أبناءها الذين غادروها الى بلاد الله الواسعة. وتنتظر شبعا وكفركلا وعديسة وحولا وميس الجبل وعيناتا وعيترون ورميش وعين ابل والقليعة وعيتا الشعب ومارون الراس ويارين وراميا ومروحين والناقورة وغيرها، عودة ابنائها، سواء الذين غادروها الى بلاد الاغتراب أو الى بيروت وضواحيها، أو أولئك الذين تركت "البصمة" الاسرائيلية السوداء بعض آثارها عليهم، ففر قسم منهم الى اسرائيل. وهذه الظاهرة لا تزال تترك ظلالاً تتهدد النسيج الاجتماعي الداخلي لقرى الشريط، والعلاقات بين قرى الشريط نفسها. فالاحتلال اقتطع "نسبة" من أبناء كل قرية تجندوا في صفوف الميليشيا التي خدمته. والمعاناة من جراء ممارسات هؤلاء وارتكاباتهم لا تزال آثارها واضحة وقائمة في الأسر والأفراد. "فمن يقتل الأسرى، أو يعذبهم وسجن الخيام بزنزاناته، ووسائل التعذيب الوحشية المستخدمة فيه، وضحاياه بالمئات نموذج حي لبعض تلك الممارسات والارتكابات، أو يطلق النار على الناس فيصيب منه مقتلاً، أو يسقط بينهم جرحى، هؤلاء لا يمكن البحث لهم عن أسباب تخفيفية ضد الناس"، على حد قول أحد ذوي الشهيد بلال السلمان الذي استشهد في معتقل الخيام. وأدت الاعتداءات الاسرائيلية، في اجتياح 1978 وما بعده الى مقتل الآلاف من أبناء الشريط، وجرح عشرات الآلاف، وتدمير قرى وبلدات منها الخيام ومارون الراس ورشاف وحانية وسحمر وغيرها. وتقدر المنازل المدمرة بما لا يقل عن اثني عشر ألف منزل. ولا تزال المنازل المدمرة في معظم قرى المنطقة وبلداتها تنتظر المساعدات لإزالة ركامها، وإقامة المنازل الجديدة على أنقاضها. ولا تزال حقول الألغم المزروعة في مختلف الأراضي الزراعية تهدد حياة المزارعين الجنوبيين الذين امتنعوا من زراعتها طوال الاحتلال. ويؤدي استمرار تهديد الألغام المزروعة الى تعطيل فرص العمل المتاحة لآلاف المزارعين. فهذه الحقول تتعدى ألف حقل. وعلى هذا فالمرارة شعور شعبي جامع في الجنوب المحرر. وتصل المرارة الى حد التندر على كلمة "تحرير". فالأهالي يصفون أوضاعهم بأنها صارت "تعتيراً" أي بؤساً في ظل هذا التحرير. أين التعويضات؟ أين المساعدات؟ أين المشاريع؟ أين فرص العمل؟ أين البناء؟ أين الحياة؟ أين المدرسة؟ أين الكهرباً والطريق والهاتف والمستوصف؟ أين مستشفى مرجعيون الذي كان يقدم الخدمات الطبية والاستشفائية لكل الناس في المنطقة؟ أين سلطة الدولة وأمنها؟ أين اهتمامات الدولة والمسؤولين من مشكلات المواطنين؟ أبو علي قمرة، من كفرشوبا، يقول: "هذه البلدة دمرت كلها، قمنا بإزالة ركامها بأيدينا، وأقمنا العمار". ويروي: "قلت لدولة الرئيس نبيه بري، وكذلك قلت للرئيس سليم الحص، ان المهجَّر اذا احتل شقة تدفعون له حتى يغادرها، أما نحن الذين صمدنا بوجه العدوان والاحتلال، ودمرت بيوتنا، وأتلفت محاصيلنا، عمّرنا بيوتنا المهدمة بعرق الجبين، ومنا من باع أرضه أو استدان وتعب وشقي، ألا نستحق التعويض؟ قالوا لنا: لكم الأولوية. ولم نحصل على شيء". وحكاية مستشفى مرجعيون الحكومي تكاد تلخص مأساة الجنوبيين مع دولتهم إبان التحرير. فإنشاء المستشفى، منذ 1985، تجربة تستحق الدراسة. وكان تشغيل مستشفى مرجعيون هدفاً اسرائيلياً يرمي الى الايحاء بدور "انساني" فجمعت المساعدات التي كانت تقدمها المنظمات والهيئات الدولية والانسانية ووزارة الصحة لتحقيق هذا الهدف. وجبت ادارة الاحتلال الاشتراكات من اهالي المنطقة المستفيدين من تقديمات المستشفى. ووضعت الادارة المدنية يدها على المستشفى، وقامت بتنظيم التعاقد مع الجهاز الطبي، ومدت المستشفى بكل ما كان ينقصه. واستحدثت فيه قسماً لغسيل الكلى. وارتفع عدد الأسرّة في المستشفى من 45 الى 80 سريراً. وكانت وزارة الصحة تدفع رواتب موظفيها، والاداة المدنية تدفع رواتب الباقين. ودام هذا الوضع الى 25 أيار مايو 2000. وبعدها بدأت مسيرة المستشفى بالتراجع. وتحول المستشفى الى مستوصف للمعاينات الخارجية. واستأنف بعض النشاطات الطبية والاستشفائية. لقد غادر الاحتلال المنطقة، وحل محله قهر وحرمان وخيبات أمل ومشكلات بالجملة. فكأن أهالي المنطقة المحررة كتب عليهم أن يعيشوا حياتهم "متروكين لمصيرهم"، يواجهونه منفردين، سواء تحت الاحتلال، أو في ظل انجاز التحرير التاريخي، فيما مشكلات المنطقة تتفاقم، وأزماتها الى ازدياد.