القيادة السعودية تعزي ملك المغرب في وفاة 37 شخصا بسبب فيضانات آسفي    تألق ثلاثي دوري روشن في نصف نهائي كأس العرب    الذهب يسجل 4338.26 دولارا للأوقية مدعوما بضعف الدولار    ارتفاع الطلب العالمي على النفط ب 860 ألف برميل يوميا خلال 2026    أمير الكويت يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد    القادسية في مفترق طرق.. غونزاليس يغادر ورودجرز قريب من الإشراف الفني    عبدالعزيز بن سعد يستقبل رئيس جامعة حائل المكلّف    الأمير محمد بن عبدالعزيز يستقبل منتخب جامعة جازان    حين تُستبدل القلوب بالعدسات    المؤتمر الصحفي الحكومي يستضيف وزير الصناعة والثروة المعدنية الأربعاء المقبل    ومن الهذيان ما قتل AI الإنسانية    فيصل بن مشعل يتسلّم التقرير الختامي لمبادرة "إرث ينطق"    "إثراء" يحتفي بيوم اللغة العربية على مدار ثلاث أيام    الجاسر يفتتح فعاليات النسخة ال 7 من مؤتمر سلاسل الإمداد    المرأة العاملة بين وظيفتها الأسرية والمهنية    "سعود الطبية" تنجح في إجراء قسطرة علاجية نادرة لطفلة بعمر خمسة أشهر    تقييم الحوادث يعلن نتائج تحقيقاته في عدد من الادعاءات المنسوبة لقوات التحالف    غداً .. "كبدك" تُطلق برنامج الطبيب الزائر «عيادة ترحال» ومعرضًا توعويًا شاملًا في عرعر    نائب أمير المنطقة الشرقية يستقبل رئيس وأعضاء مجلس إدارة جمعية مبرة دار الخير    أمير الشرقية يستقبل رئيس وأعضاء مجلس إدارة جمعية مبرة دار الخير ويطّلع على برامجها التنموية    أمانة المدينة ترفع كفاءة شبكات تصريف المياه    شفيعًا تشارك في فعاليات جمعية أصدقاء ذوي الإعاقة لليوم العالمي لذوي الإعاقة بجامعة الفيصل    أمير منطقة جازان يستقبل إمام المسجد النبوي    الكرملين يعتبر بقاء كييف خارج الناتو نقطة أساسية في المفاوضات    دور إدارة المنح في الأوقاف    لقاء تاريخي حافل لأبناء عنيزة القاطنين بمكة المكرمة    الاتحاد الأوروبي يفرض عقوبات بحق 40 سفينة من " أسطول الظل"    التضخم في المملكة يتراجع إلى 1.9% في نوفمبر مسجّلًا أدنى مستوى في 9 أشهر    وفد أعضاء مجلس الشورى يطّلع على أدوار الهيئة الملكية لمدينة مكة المكرمة    مرضى السكري أكثر عرضة للإصابة بالحزام الناري، ما الأسباب وطرق الوقاية لمن هم فوق الخمسين عاما    قبيلة الجعافرة تكرّم الدكتور سعود يحيى حمد جعفري في حفل علمي وثقافي مهيب    ثلاث جولات في مختلف مناطق المملكة ، وبمشاركة أبطال السباقات الصحراوية    طلاب ابتدائية مصعب بن عمير يواصلون رحلتهم التعليمية عن بُعد بكل جدّ    «الحياة الفطرية» تطلق مبادرة تصحيح أوضاع الكائنات    صينية تعالج قلقها بجمع بقايا طعام الأعراس    مواجهات مع مستوطنين مسلحين.. اقتحامات إسرائيلية متواصلة في الضفة الغربية    بحثا تطورات الأوضاع الإقليمية والدولية.. ولي العهد ووزير خارجية الصين يستعرضان العلاقات الثنائية    ديبورتيفو الكوستاريكي يتوّج ببطولة مهد الدولية للقارات لكرة القدم    "أمِّ القُرى" تعقد لقاءً تعريفيًّا مع التَّقويم والاعتماد الأكاديمي    الخريجي: الحوار البناء أداة تفاهم بين الشعوب    القراءة الورقية.. الحنين إلى العمق والرزانة    من القمة.. يبدأ السرد السعودي    نجوم القارة السمراء يستعدون لترك أنديتهم.. «صلاح وحكيمي وأوسيمين» تحت المجهر في كأس أمم أفريقيا    السعودية تدين الهجوم الإرهابي.. دمشق توقف 11 عنصراً للتحقيق في هجوم تدمر    رابطة العالم الإسلامي تدين الهجوم الإرهابي بمدينة سيدني الأسترالية    دعت جميع الشركاء في المنظومة لتفعيل البرنامج.. «الموارد»: 5 مجالات لتعزيز التنمية الشبابة    استضافت اجتماع اللجنة التنفيذية ل«البرنامج التعاوني».. السعودية رائد عالمي في مجال أمن الطيران    أمير نجران يُشيد بإنجازات "الصحة" في جوائز تجربة العميل    دراسة: دواء جديد يتفوق على «أوزمبيك» و«ويغوفي»    في ورشة عمل ب"كتاب جدة" خطوات لتحفيز الطفل على الكتابة    أمانة الرياض تطلق فعالية «بسطة» في حديقة الشهداء بحي غرناطة    الأحمدي يكتب.. وابتسمت الجماهير الوحداوية    الغامدي يزور جمعية عنيزة للخدمات الإنسانية    اختتام المؤتمر الدولي لخالد التخصصي للعيون ومركز الأبحاث    أمير منطقة جازان يستقبل سفير إثيوبيا لدى المملكة    الغرور العدو المتخفي    بدء المرحلة الثانية من مبادرة تصحيح أوضاع الكائنات الفطرية بالمملكة    تنظمها وزارة الشؤون الإسلامية.. دورات متخصصة لتأهيل الدعاة والأئمة ب 3 دول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحج في رحلة الضابط الروسي المسلم دولتشين 1898 - 1899 : مسيرة طويلة على الهجن وفي الحر القائظ ثم : لبيك اللهم لبيك
نشر في الحياة يوم 25 - 02 - 2001

بين عامي 1898 - 1899 قام الضابط الروسي عبدالعزيز دولتشين برحلة مع مجموعة من المسلمين الروس للحج الى بيت الله الحرام، وكتب أثناء ذلك مذكراته عن هذه الرحلة صدرت في كتاب تحت عنوان "الحج قبل مئة عام - الصراع الدولي على الجزيرة العربية والعالم الإسلامي" مع عنوان فرعي آخر: "الرحلة السرية للضابط الروسي عبدالعزيز دولتشين الى مكة، رواية وصفية بديعة للتاريخ والجغرافيا والسياسة والاجتماع والإدارة". وإذ علينا ان نتجاوز الأسباب السياسية لهذه الرحلة الشيقة آنذاك، لأن ذلك موضوع له مناسبة أخرى، لنذهب مع الضابط المسلم في رحلة الحج على ما كان فيها من مخاطر ومغامرات وطرائف، إذ لم يترك شاردة أو واردة إلا سجلها من دون ان يتخلى عن مهمته كمبعوث سري من حكومته التي كانت تراقب آنذاك تحركات البريطانيين والفرنسيين في المنطقة.
والكتاب الذي يتحدث عن هذه الرحلة كبير، لذلك سنقتطف منه مقاطع تخدم الموضوع الذي نحن بصدده. منها هذه الصورة البديعة التي رسمها جامع الوثائق ومرتبها نعيم ريزفان على لسان دولتشين إذ يقول في المقدمة: لعب الحج دوراً كبيراً جداً في انتشار الممارسة الدينية والعادات القائمة في سائر مناطق العالم الإسلامي الى هذه الأراضي. ومن الأمثلة على ذلك، وصف لقاء فريق من الحجاج في مدن آسيا الوسطى من وضع أ. فامبيري. اللقاء في غموشتبه: "انتشر نبأ وصولنا في كل مكان: النساء والأولاد وحتى الكلاب تدفقوا في حيرة غريبة من الخيام لكي يلقوا نظرة الى الحجاج المقتربين، وينالوا بلمسهم، جزءاً من الأفضال والمكافآت الناجمة عن الأمر الرباني عن الحج...! غريب! ان الشبان والشيوخ، دون تمييز في الجنس أو اللقب، الجميع رغبوا في لمس الحجاج الذين نزل عليهم غبار المدينة أو مكة المقدس". ثم جاء: "أما في بوابة خوي، فقد استقبلنا بضعة أتقياء من سكان خوي وقدموا لنا الفواكه المجففة والخبز. من زمان بعيد لم يتوافد الى خوي مثل هذه الكثرة من الحجاج، كان الجميع ينظرون الينا بدهشة، ومن جميع الجوانب كانت تصل الى مسامعنا هتافات: "أهلاً وسهلاً! آه، أنت صقري... انت أسدي!"، وقد تأثرت بالغ التأثير حين اندفع الناس يبوسون يدي وقدمي - أجل! والشراريب المتدلية من حزامي". وحين غادر الحجاج خوي "تراكض كثيرون من السكان وراءنا حوالى نصف ميل، كانت مشاعر التقوى تثير الدموع من عيونهم، وقد سمعنا هتافاتهم اليائسة "من يعرف متى تسعد خوي مرة أخرى من ايواء مثل هذا العدد من الرجال الاتقياء ضمن جدرانها".
من هو دولتشين؟
ولد عبدالعزيز دولتشين في 24 حزيران يونيو 1861 من عائلة ضباط في الجيش الروسي، وكانت هذه العائلة التترية المحترمة تتمتع بتأثير كبير بين أبناء قوميتها. وشغل والد المؤلف مناصب مهمة في ادارة مناطق الأورال الجنوبية في روسيا. ان انتماء الوالد الى فئة النبلاء ومهنته العسكرية لم يؤثرا في روح التقوى الإسلامية السائدة في العائلة. بعد التخرج من مدرسة الامبراطور بافل العسكرية المتميزة في بطرسبورغ. خدم عبدالعزيز دولتشين خمس سنوات في قلعة دينابورغ غير بعيد عن دفينسك. وتعلم في سنوات 1887 - 1890 في صفوف اللغات الشرقية لأجل الضباط لدى الدائرة الآسيوية في وزارة الخارجية. وهذه الصفوف أعطت الجيش الروسي والديبلوماسية والعلم سلسلة من المستشرقين الممارسين اللامعين، وأمام الضابط المسلم الشاب الذي امتلك في نهاية التعليم ناصية اللغات العربية والتركية والفارسية والانكليزية والفرنسية، ناهيك عن لغته القومية واللغة الروسية. وهكذا فاز هذا الضابط بترشيحه لأداء فريضة الحج كمنحة من القدر، ومهمة المأمورية كفرصة لمساعدة الآلاف من اخوانه في الإيمان، من المسلمين، من رعايا روسيا، مساعدة فعلية في أداء فريضة الحج، الأمر الرئيس، على الغالب، في الحياة الروحية لكثيرين منهم، وادائها في ظروف وشروط لائقة بالبشر، ومع ذلك ظل من رعايا الامبراطورية الأوفياء كلياً، ظل مخلصاً لقسم الضابط، وعن حق وصواب اعتبر تلبية الحقوق المشروعة لأبناء دينه في أداء فريضة الحج انعكاساً لعناية الدولة برعاياها، الذي يوطد أمر الدولة نفسها في آخر المطاف.
يشار الى ان دولتشين لم يكن يعرف حاجات المسلمين البسطاء القاطنين في أراضي روسيا وحسب، فإن مضمون يومياته يدل على انه كان يعرف أيضاً عدداً من الشخصيات الإسلامية العائشة في روسيا. ومن معارفه الشخصية المحافظة نوعاً ما، حميدالله آخون، الذي كان يتمتع بجزيل الاحترام بين المسلمين القاطنين في بطرسبورغ، وعطالله بايازيدوف، المذكور سابقاً، مؤلف جملة من المطبوعات تشكل بمجملها بياناً فريداً لمسلمي روسيا الذين يشاطرون الأفكار الإصلاحية. ويذكر دولتشين بين معارفه القريبين كبار أصحاب مصانع النسيج التتر من عائلتي اكتشورين ودبردييف، الذين تبرعوا بمبالغ كبيرة لتلبية الحاجات الدينية ولعبوا دوراً ملحوظاً في حياة روسيا السياسية، والدكتور دالغات الذي خدم سنة 1899 لدى القنصلية الروسية في جدة، والذي صار لاحقاً شخصية إسلامية مهمة تقدمية الاتجاه، واشترك في مؤتمر مسلمي روسيا الذي انعقد في بطرسبورغ في حزيران عام 1914.
الرحلة
يصف دولتشين الرحلة الى الحج بكثير من التفاصيل، على ما فيها من تعب وارهاق شديدين بين البر والبحر، ولما وصل الى جدة ومن ثم في طريقه الى مكة كان يعاني من ألم حاد في بطنه. وكان معه مرافق اسمه درويش افندي، ويقول دولتشين: ركبنا حمارين واتجهنا إثر طابور من الحجاج ظاهر في البعيد، ضاع الحاج سلطان. اعتقد انه سيلحق بنا، كان معه مسدسي والماء. لحقنا بالطابور، وهو من المغاربة، هؤلاء لا يعرفون كلمة من لغتنا. نمضي صامتين وراءهم، ندهش لكونهم جميعاً يسيرون بلا طرق، فنخشى على مصيرنا، معي حقيبة فيها كل رأسمالي، وليس معي أي سلاح. أعرف ان الطريق خطر جداً ولا مرافقون الله وحده يعلم من هم. أخذ الأفندي يبكي. بعد السير طويلاً في الجبال، نطل على طريق متساوٍ. مسطح. ولكنه طريق غير كبير، لأنه لا وجود للتلغراف. أفكر بالوصول الى أول مقهى، والمقاهي، كما يقول الحاج سلطان، تسعة، وهناك ننتظر الحاج سلطان، ولكن لم نجد أي مقهى. نصادف جماعات من البدو المسلحين من الرأس الى أخمص القدمين، فجأة يطلق المرافقون النار في الهواء. مع جميعهم تقريباً بنادق رش. نسير منذ 5 ساعات، انا ملتف بثوب الاحرام، مكشوف الرأس، أخذ عطش رهيب يعذبني، جف فمي كله. لا أستطيع تحريك لساني. أطلب من الأفندي الليمون الحامض أو أقراص النعناع، يخاف ان يتوقف لكي يسحب هذه الأشياء فيتأخر. الطريق يستمر بين صخور جرداء، أحياناً تقع العين على أدغال عالية من الشوك. أبدأ أفكر في المجازفة والتوقف في مكان ما تحت دغل. أحزر ان الطريق الكبير الى شمالنا، في عيني تتلاعب حلقات ضاربة الى الأحمر. أخيراً أقنع الأفندي بإعطائي ليمونة، وحين راح ليجلبها تنحيت جانباً قليلاً، وإذا بي أرى غير بعيد بناية الى الشمال، أسأل، يقولون: هذا مركز حراسة، أعد رفيقي بمجيدية إذا اخذوني الى هناك، الجميع يستديرون، يحمل لي الأفندي ليمونة، أبلعها في الحال وأنتعش. بعد ربع ساعة نصل الى البناية - وهي مركز يحرس طريق مكة - يسرع شيخ حاملاً بندقية، وحين يعرف فحوى الأمر، يدعوني بلطف الى الجلوس في الظل، ويضع سماور على النار ويقدم للعموم آيات الضيافة الأخوية حقاً ....
بمحاذاة الطريق الى مكة، ينطلق التلغراف المركب جيداً جداً على أعمدة حديد، الطريق مناسب تماماً للحركة على العجلات ... اقتربنا بسلامة من مكة التي تغدو الجبال في جوارها أعلى وأشد انحداراً. الوصول مفاجئ تماماً. المدينة لم تظهر إلا حين دخلناها تماماً - والانطباع الأول بيوت حجرية عالية، حركة شديدة جداً في الشوارع. بعد فترة وجيزة وصلنا الى تكية قرغيزية، ونزلنا فيها موقتاً في ضيافة الحاج سلطان. منذ اللحظات الأولى بالذات، تواجد أناس كثيرون جاءوا لزيارة الحاج سلطان، فضاق المكان كثيراً، تضخمت رجلاي، أمشي بجهد كبير. نزول الدرج عذاب. في المساء، بعد الدعاء، قمت بالطواف، ثم بالسعي، الانطباع من الطواف عميق وعجيب جداً، وهو من الانطباعات التي تندر معاناتها في الحياة. بعد العودة الى التكية، خلعت ثوب الاحرام ولبست ثياباً عربية محلية، قميصاً طويلاً جداً من الشاش، وسترة، وعباءة حريرية ....
18 نيسان ابريل: اليوم يصعد جميع الحجاج الى جبل عرفات لأجل السجود. الجبل كله مكسو بالناس. الحر اليوم شديد جداً، في الخيام ترتفع الحرارة الى 35 درجة ريومور، في الشمس الى 50 درجة. بعد الغداء، بدأ الإمام من أعلى الجبل تلاوة الخطبة وهو على ظهر جمل. الجبل كله مغطى بالحجاج. التلاوة ذاتها غير مسموعة بالطبع، وأظن ان حتى الواقفين على سفوح الجبل لا يسمعونها أيضاً. وحين يتلو الخطيب لبيك اللهم لبيك، يردّد الجمهور على الجبل بصوت مدوٍ ملوّحاً بالمناديل. وبموجب هذه العلامة يردد جميع الباقين: لبيك اللهم لبيك. وقبيل غروب الشمس. يبدأ الجميع يرتبون أمتعتهم ويستعدون للعودة لكي ينطلقوا في النهاية الى المزدلفة، تنتهي الخطبة قبل صلاة الختام. المكان واسع. ولكن تحرك مثل هذا الجمع من الناس والجمال في آن واحد يسفر بالطبع عن الهرج والمرة. من عرفات الى المزدلفة نحو 7 فرستات ربما 7 كيلومترات، الطريق تمر في مضيق عرضه نحو 200 ساحين، جانباه جبال صخرية جرداء، هذه النقطة عبارة عن صف طويل من مناضد التجار والمقاهي. وهنا ينبغي أن يقضي الحجاج الليل. والتربة هنا رملية. غداً يتعين اجتياز نحو 7 فرستات في اتجاه مكة الى منى.
19 نيسان، في الصباح الباكر وصلت الى منى. وهي مقام سكني يتألف من شارع واحد طويل جداً وبيوت حجرية متعددة الطوابق تعيش بضعة أيام فقط في السنة: عند تحرك الحجاج الى عرفات وبخاصة لدى عودتهم حين يبقون هنا أكثر من يومين، وفي بقية أوقات السنة لا يعيش أحد هنا، في كل مكان الصخور عارية، التربة من رمل ضخم، اكتشورين أجّر بيتاً منفرداً بكامله بمبلغ 20 ليرة. عادة ينزل الجميع في خيام منصوبة في الشوارع وفي أماكن مطوقة خصيصاً بأسيجة حجرية وتخص الأدلة، تعتبر منى نقطة حارة جداً، لكن الهواء أيضاً يكتم الأنفاس، في البدء قدمنا الأضاحي، وفي الحال تخاطف المغاربة الخرفان ال12 كلها. المحلة التي يذبحون فيها الأغنام تقع قرب منى بالذات.
20 نيسان - يوم الاثنين - في هذا اليوم بقي الحجاج في منى لرمي الأحجار في 3 أماكن مسيجة. الأحجار المرمية سابقاً تختفي، غالب الظن ان الأمطار تغرقها وتجرفها. الأحجار رملية هشة. رحنا الى مكان تقديم الأضاحي - كانت هناك قذارة مدهشة في أزقة منى - نصلي ونركع أمام حجر مغلوق. الوضع الصحي الرهيب في المحلة يخنق الرغبة في الصلاة، في المساء رحت مع يعقوب لمشاهدة الألعاب النارية وللاستماع الى الموسيقى، كانت الصواريخ جيدة جداً، أطلقوها في 3 أماكن - قرب مقامي القافلة الشامية والقافلة المصرية، وقرب موقف الوالي. في الصباح طفنا مرة أخرى لرمي الحجارة ثم عدنا الى مكة. ونحو المساء قمت بالطواف. بين الحجاج انفعال فرح ملحوظ. الجميع يرسلون الى أوطانهم برقيات عن العودة بأمان وسلام من عرفات. الحجاج يذهبون الى عرفات مفعمين بخوف عظيم. ولذا كان فرحهم بعد العودة مفهوماً، عدد الموتى في كل وقت الذهاب الى عرفات والعودة منه 30 فقط، في منى غالباً جداً ما ينشب وباء الكوليرا، وفي السنة المنصرمة مات كثيرون، وبخاصة عدد كبير من القرغيز الأمر الذي يجب تفسيره بالزحار، والقيظ الرهيب، والأكل غير المعتدل، والشرب الأقل اعتدالاً أيضاً، والبنية البدنية.
الحاج الذي لم يذهب الى المدينة المنورة يتحدث عن العودة رأساً الى الوطن، يتطرقون الى أخطار الطريق، الجميع يتخوفون المحجر الصحي في الطور، يروون عن الفظائع في السنة الماضية: الاقامة الرهيبة، الأحوال المناخية المرهقة، الغلاء الفاحش.
25 نيسان - يوم السبت - قضيت اليوم كله في بحث مسألة السفر الى المدينة المنورة، الطريق - كما يروون - في منتهى الخطر. رفض معظم رفاق الطريق السفر. القافلة الشامية محروسة، ولكن، أثناء السير تهتز الجمال كثيراً، والشقادف غير مريحة، قوافل مكة خطيرة جداً، بنصيحة رشيد القاضي قررنا السفر على هجائن، أنا وأحمد يرزين ركوباً، أخذ أدلة عمر ابراهيم من المدينة المنورة على أنفسهم تدبير كل أمور السفر ....
27 نيسان - انقضى اليوم كله في الاستعدادات للرحيل الى المدينة المنورة، احتجنا الى 12 جملاً وحصان واحد. وهكذا ننطلق مع نفر من أهل المدينة المنورة عائدين من الحج على جمال خفيفة تسمى بالهجائن. فالهجين حيوان لطيف جداً، وديع، جميل، محب للنظافة، خال من الرائحة المنفرة الملازمة للجمال. الخ...
28 نيسان - يوم الثلثاء، منذ هذا اليوم تبدأ حياة السفر من دون نوم تقريباً، من دون المعيشة المألوفة، في القيظ الرهيب، أثناء السير تقيد الركبان بنظام صارم على مدى ساعات طويلة. كان يسير في المقدمة فريق على الحمير والأحصنة. وفي الوراء فريق من الهجائن، وفي النهار كان الركب يستطيل، ولكن عند حلول العتمة كان يتجمع ويتراص ويسير باحتراس. وعند الانطلاق كان الجميع يصلّون بصوت واحد طالبين من الله سلامة السفر، وعند الاقتراب من الموقف كانوا يغنون بصوت واحد أغنية مشجعة ومتناسقة جداً... كانت سرعة السير متكيفة لسرعة الهجائن التي تسير عادة بخطوات واسعة، وكانوا يطعمون الجمال الأعشاب المجففة وهكذا لمدة ثمانية أيام.
ويستمر الضابط الروسي يصف وعثاء الطريق وصعوبتها الى ان يقول:
5 أيار مايو يوم الثلثاء، انطلقنا في الساعة 12 ليلاً، وكان من الصعب التحرك في الظلام، في الساعة 8 صباحاً وصلنا الى بساتين متاخمة للمدينة المنورة، بصورة أصيلة جداً، يستحصلون على الماء، ما استخرجه البدوي تسنى للحجاج القادمين ومواشيهم ان يشربوه، ظل الأعرابي يعمل من دون تذمر، حوالى 9 صباحاً توقفنا في جامع بيرعلي، في هذا اليوم لا يدخل الحجاج من أهل المدينة المنورة الى مدينتهم، يتوقفون على نحو أربع فرستات عنها، حيث يستقبلونهم بالنقل، ويقضون الليل مع أقاربهم في الخيام، ولكننا نحن تعبنا جداً في الطريق، ووصلنا الى المدينة المنورة الساعة 6 مساء ونزلنا في بيت عمر الدليل. المدينة تقع وسط سهل عريض: بساتين البلح تنطلق بشكل شعاعي. السهل تتخلله التلال. المدينة مطوقة بسور حجري متين مع بوابات محمية، في أحد أبراج الزاوية توجد بطاريات مدفعية، وفي السهل توجد هنا وهناك نقاط حراسة ترابط فيها عساكر تركية.
6 أيار - يوم الأربعاء - اليوم ركعنا أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم، الحرم الشريف هنا مبني بحسب أحدث منجزات علم الهندسة، ويحدث انطباعاً عميقاً، الأضرحة محاطة بشعيرية حديد كثيفة، والمدافن نفسها مغطاة بديباج غال، في وسط جنينة خضراء صغيرة، وبقربها بئر فاطمة.
7 أيار - زارنا اليوم كثيرون من مواطنينا، وعددهم مع طالبي العلم حوالى 100 شخص ...
8 أيار - يوم الجمعة، أثناء صلاة الجمعة تستلفت الخطبة الانتباه، الخطيب يخاطب المصلين يتصرف بكل طلاقة ويلقي موعظة، انها خطبة حقاً.
12 أيار - الثلثاء: زرنا مسجد القبلتين ومسجداً آخر بنيا حيث كانت خيام النبي والأئمة.
ويروي دولتشين مشاهداته في المدينة يوماً بعد يوم، وهي مشاهدات جميلة وطريفة وبعضها عن كرم أهل المدينة وترحيبهم بالحجاج. ثم يتحدث عن نهاية الرحلة الى المدينة الى ان يقول:
27 أيار - يوم الأربعاء: اليوم انطلقنا في الساعة الخامسة والنصف صباحاً في اتجاه ينبع، قافلتنا تتألف من قسمين برئاسة مقومين. القسم الثالث مؤلف من الحجاج الفرس، القافلتان الأوليان تتألفان بمعظمهما من المصريين والمغاربة والسوريين والأتراك ومسلمينا. الأقسام الثلاثة جميعها تتألف من 1500 جمل تقريباً يحمل ثلثاها الشقادف، للمرة الأولى تعين علي تسلق هذه الأداة البدائية لأجل الركوب. كان حداة جمالنا من البدو... على بعد نحو 6 فرستات من المدينة المنورة، تدخل الطريق في مضيق عريض ذي جانبين منحدرين تدريجياً، نمضي فيه حتى الحمرا، والطريق على طول امتداده ملائم لأجل التحرك، متساوٍ ومنبسط تماماً وذو تربة رملية صلبة. وكمية كافية من الماء والوقود، وفي هذا اليوم سرنا في أوج القيظ حتى ساعة متأخرة من المساء 8 ساعات ونصف الساعة وبالإجمال سرنا 14 ساعة، وتوقفنا لمبيت الليل عند بئر درويش. من الصعب ان يتصور المرء مبلغ صعوبة الانطلاق والسير في أوج القيظ ولكن استمرينا بالرحلة بالطريق نفسها التي أتينا منها، ولكن هذه المرة بسعادة لا توصف. أدينا الأمانة بالحج الى بيت الله الحرام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.