هو في غرناطة اليوم، اشهر القصور الأندلسية، والموقع الذي يزوره القادمون الى اسبانيا أكثر من أي موقع آخر. وهو في الوقت نفسه أشهر وأعظم ما خلفته الحضارة الاسلامية في الأندلس من آثار عمرانية: قصر الحمراء الذي يقف شامخاً في المدينة الأندلسية العريقة شاهداً على تقدم تلك الحضارة التي بنته ذات يوم، وشاهداً أيضاً على الفنان حين يختفي وراء فنه حسبه منه أن يوجد وأن يبقى بعدما يندثر هو وتزول ذكراه. وفي هذا ما يذكر، طبعاً، ببناة المدن الاغريقية في العصور الغابرة، وببناة الكاتدرائيات الكبرى في العصور الوسيطة. الفن نفسه يبقى فيما يختفي مبدعوه. فاليوم يكاد يكون من المستحيل ان نعرف اسم المهندس المعماري - أو المهندسين العديدين - الذي انشأ قصر الحمراء. لكننا نعرف بالطبع اسماء الحكام الذين امروا بإنشائه وأنشئ في عهدهم وطُوّر وحُسِّن في عهد خلفائهم. وذلك هو قدر هذا النوع من المشاريع. قصر الحمراء الغرناطي الأندلسي يرجع بعض قيمته التاريخية الى واقع انه بني في وقت متأخر جداً من عمر الحضارة الاندلسية في اسبانيا. في زمن كانت فيه تلك الحضارة قد شارفت على الغروب. كانت معظم المدن قد سقطت اذ استعادها ملوك اسبانيا المسيحيين، بما في ذلك قرطبة. وكان ان اضحت غرناطة الحاضرة والقلعة القوية، وآخر معقل للمقاومة الاسلامية. ولقد شاء بنو الأحمر الذين كانوا يحكمون غرناطة أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، ان يعبروا تعبيراً واضحاً عن قوتهم وقدرتهم، بعد، على البقاء، فكان أن أمروا ببناء ذلك القصر المنيف والغريب، الذي يجمع الفن بالقوة، ويوالف - تشكيلياً - بين ذروة ما وصل اليه العمران العربي الذي كان وصل الأندلس قادماً من احضان الدولة الأموية، في تمازج خلاق مع الاضافات البربرية الآتية من الشمال الافريقي، ليتحد هذان في اسبانيا ذات الحضارة العمرانية العريقة الرومانية الجذور والفسيغوتية الهوى. كل هذا نجده مجتمعاً في بناء قصر الحمراء، الذي يسمى أيضاً "القلعة الحمراء"، والذي وصل الى ذروة انشائه أيام يوسف الأول ومحمد الخامس. وكان يوسف أول من أمر بإنشاء القصر في مكان كانت تشغله قلعة أموية قديمة على مرتفع مجاور لوسط غرناطة. ثم تلاه محمد الخامس الذي، بعدما انجز بناء قصر أبيه، اذ توفي هذا قبل اكتماله، انصرف الى بناء قصر مجاور له. القصران يشكلان اليوم ذلك المجمع الذي يحفل بآيات الفن العمراني ولكن، أىضاً، الفن الزخرفي. مهما يكن من الأمر، فان بناء وتطوير "الحمراء" ينسب اليوم الى محمد الخامس الذي كان يلقب بالغالب، فهو الذي وسع من مساحة القصر القديم الذي قام على انقاض القلعة، وهو الذي سمح للبناة والمهندسين بوضع التماثيل وبالاغراق في زخرفة كان بعض المتزمتين يرى ان لا ضرورة لها. ولقد واصل خلفاء الغالب تطوير القصر من بعده، حيث انه، خلال القرنين الأخيرين من عمر الدولة الأندلسية، تحول المكان الى ذلك القصر الذي نعرفه الآن باجنحته المتعددة. والقصر في الحقيقة، وكما اشرنا، قصران، يقوم كل واحد منهما من حول فناء مستطيل تتوسطه، على الطريقة العربية التقليدية، بركة وأشهر الفناين، بالطبع، فناء الأسود الذي استقى اسمه من تماثيل لأسود تبدو وكأنها تحمل البركة على ظهورها. وحول ذلك الفناء، كما حول الفناء الشهير الآخر، فناء الريحان، يقوم القصر المؤلف اساساً من طابقين، الأول للزوار والاستقبالات والأعلى للحياة الخاصة للخلفاء من شاغليه. والقاعات جميعها ذات جدران مزينة بأرقى ما توصل اليه الفن الأندلسي من نقوش ومنمنمات وجدرانيات تبدو في معظم الحالات مثل قطع دانتيلا مشغولة بكل دقة. ومعظم تلك النقوش والرقوش تقوم من حول كتابات هي في جزئها الأكبر آيات قرآنية وحكم. وهذا الثراء في الزينة جعل الكاتب جون د. هوغ يقول: "إن هندسة هذا المبنى العظيم، ينتهي بها الأمر الى الاختفاء أمام عظمة الزخرفة. حيث يبدو لنا ان النحاتين هنا قد ابدعوا فناً يكاد يكون في رهافته فناً انثوياً، يلوح في أعين الزائرين وكأنه حلم غير مادي. غير ان هذا الكمال الغني الذي نراه هنا انما يبدو، تأكيداً، عند حدود الانهيار، ذلك انه من نوع تلك الفنون النهائية التي يمكن النظر اليها على انها آخر وأكمل تعبير عن ثقافة وحضارة هما في طريقهما الى الزوال نهائياً من ذلك المكان". وليس هذا الافتراض خطأ، ذلك ان قصر الحمراء ظل يُطور ويزدهر حتى سقوط غرناطة في نهاية القرن الخامس عشر، أمام زحف ملوك اسبانيا وجيوشهم. والمؤسي ان هؤلاء، حين تمكنوا من طرد آخر الاندلسيين في العام 1492، التفتوا أول ما التفتوا، الى قصر الحمراء، فإذا بالملك الاسباني شارل الخامس يأمر برمي الاثاث وبتهديم العديد من القاعات والجدران، ليحل محلها قاعات صممها ونفذها المهندس بيدرو دي ماشوكا خلال الربع الأول من القرن التالي، وذلك على النمط النهضوي الايطالي. ومنذ ذلك الحين توالت التبديلات والتغييرات، الجذرية أحياناً، على قصر الحمراء، غير ان هذا كله لم يتمكن من ازالته من الوجود، بأفنائه وقاعاته التي تكاد كل واحدة منها تروي حكاية مجد وسلطة: من فناء الأسود الذي كان آخر اشارة الى عظمة تلك الحضارة الى قاعة السفراء، الى قاعة آل بني سراج، التي تقول الحكاية ان أبا عبدالله، آخر ملوك غرناطة، دعاهم الى قصره، مولماً لهم في تلك القاعة بالذات، ثم أمر بقتل زعمائهم، فقتلوا ذبحاً.