"إن سكان باريس هم من الفضول حيث يصل بهم هذا الفضول الى حد التصرفات الغريبة والمبالغة. فأنا حين وصلت هناك، راح القوم ينظرون إلي وكأنني هبطت عليهم من السماء: فالعجائز والرجال والنساء، كلهم ارادوا مشاهدتي. وحين كنت اخرج كان الناس جميعاً يسرعون الى نوافذهم يقفون وراءها، وحين كنت اذهب الى حدائق التويلري، كنت سرعان ما أجد جمعاً يتحلق من حولي، وحتى النساء كنّ يشكّلن ما يشبه قوس قزح ملون بألف لون يحيط بي، وحين أذهب الى الحفلات الاستعراضية، كنت سرعان ما أجد ألف منظار ومنظار موجهة نحو وجهي، وهذا ما يجعلني اعتقد بأن ما من انسان شوهد في باريس بقدر ما شوهدت". لم يكن هذا سوى مقطع من رسالة كتبها اوزبك الفارسي المقيم هنا في باريس، وبعث بها الى صديق له يعيش في الوطن الأم. وهذه الرسالة واحدة من نحو 160 رسالة تبودلت بين شخصين من بلاد فارس وأهل وأصدقاء لهم. والمناسبة: إقامة الفارسيَّين في فرنسا، تبعاً لظروف معينة ورغبتهما في وصف ما يشاهدانه في "بلاد الكفار" تلك وما يثير فضولهما. غير ان الأهمية الحقيقية لتلك الرسائل المتخيلة لا تكمن هنا بالتحديد، بل تكمن في كونها كلها كتبت بقلم واحد من كبار مفكري عصر التنوير الفرنسي، الذي سبق الثورة الفرنسية: مونتسكيو، الفيلسوف الذي اشتهر كتابه "روح الشرائح" بكونه واحداً من الكتب الأساسية التي بُني عليها الفكر الثوري في ذلك الحين. اما الرسائل التي نحن في صددها فهي تلك التي تؤلف كتابه الأول "رسائل فارسية". وأهمية هذه الرسائل، لا تتأتى بالطبع، من كونها تثير سجالاً حاداً حول ما إذا كانت تشكل رواية أو كتاب رحلات أو متن تأمل فلسفي، بل في كونها تعكس لعبة مرايا حاذقة. وأن المؤلف إنما وضع الكتاب لينظر من خلاله الى أحوال زمانه وإلى أحوال فرنسا والغرب عموماً. وهو إذا كان اختار ان يقدم ذلك كله من خلال وجهة نظر مندهشة آتية من مكان آخر، فإنه انما عرف كيف يلعب باكراً تلك اللعبة الماكرة التي فحواها ماهية النظرة نفسها: اهمية من اين ننظر الى ما نريد التعبير عنه. فاختيار نظرة مسلمة لننظر الى احوال فرنسا في ذلك العصر، مكّن مونتسكيو من ان يبرز تلك المشاهد بقوة، ويركز نظر قارئه على العيون والمثالب التي قد يقابلها هذا القارئ كل يوم انما من دون ان تلفت انتباهه طالما انه يعيش فيها: على النظرة ان تبتعد قليلاً حتى يمكنها ان تحيط بكل شيء. وفي "الرسائل الفارسية" يقوم الأساس على تلك النظرة المبتعدة - العائدة. ومن هنا اذا كان كثيرون نظروا الى كتاب "رسائل فارسية" باعتباره واحداً من كتب "الاستشراق" الأساسية والمؤسسة، فإن ثمة هنا خطأً كبيراً، لأن الكتاب ليس نظرة تلقى من غربي على الشرق، بل على العكس نظرة يلقيها الشرق على الغرب، حتى وإن كانت النظرة تعود وتنعكس في لعبة المرايا التي نشير إليها، بشكل فذ. إذ، حيث ينظر الشرقي اوزبك او صديقه الى ما يدهشهما في هذا الغرب ويثير حيرتهما أو سخطهما، يكون في وسع القارئ "أيضاً" أن يدرك الوجه الآخر للنظرة: صورة الشرق نفسه معكوسة في مرآة الغرب. ومن المؤكد ان هذا الجانب من كتاب "رسائل فارسية" هو المصدر الأساس الذي استقى منه امثال رفاعة رافع الطهطاوي وعلي مبارك ومحمد المويلحي وحتى أحمد فارس الشدياق، في كتاباتهم التي، إذ اطلوا فيها على الغرب، كان قصدهم تحديداً ان يطلوا على الشرق. مونتسكيو الذي سبقهم فعل العكس تماماً. وهنا تكمن اهمية هذا الكتاب، الذي يمكننا ان نعتبره ارهاصاً أولياً وربما فريداً من نوعة، في "عالم الاستغراب" الذي حلم المفكر التنويري حسن حنفي في اواخر القرن العشرين ب"ابتداعه". وضع مونتسكيو "رسائل فارسية" في العام 1716، كان بذلك اول كتبه، إذ كان حينها لا يزال في السابعة والعشرين، غير ان نشر الكتاب، إذ حقق نجاحاً كبيراً من فوره، كان وبالاً على مؤلفه إذ إنه اضطره الى الاستقالة من وظيفته القضائية التي كان عيّن فيها في العام نفسه، بسبب غضب السلطات عليه، حتى وإن كانت الطبعة الأولى للكتاب نشرت غفلاً من اسم المؤلف. وإذا كان الكتاب نشر أولاً في امستردام وكولونيا المانيا، فإن طبعات عدة منه عادت ونشرت لاحقاً، وبعد عقود أضاف مونتسكيو، الى رسائله الأولى 11 رسالة جديدة. والرسائل كتبت اصلاً، في قسمها الأساس، بين العام 1711 والعام 1720، وفيها ابتعد مونتسكيو عن اهتماماته العلمية التجريبية التي كانت تشغل باله وأيامه، لكي ينصرف الى رصد ظواهر المجتمع والسياسة والأخلاق والثقافة والعلاقات والحكم. وكانت الظروف ملائمة لذلك، إذ ان لويس الرابع عشر، كان خلّف المجتمع الفرنسي في بؤس واضطراب خلال السنوات الأخيرة من حكمه، فبدا وكأن المجتمع يعيش حالاً من الاضطراب والقلق، تكشف عوراته ومساوئ اهله. وهذا الواقع هو الذي يضفي على صورة المجتمع كما صورها مونتسيكو معكوسة في مرآة الشرقيَّين المسلمَيْن، كل ذلك السواد والأفق المسدود. طبعاً، لئن كان "رسائل فارسية" رائداً في أسلوبه، فإنه لم يكن الأول في موضوعه، إذ من المعروف ان كاتبه استلهم في وضعه كتباً عدة ابرزها واحد يصف مشاهدات رجل من سيام يزور باريس ويحلل اوضاعها. وكذلك استعان مونتسكيو بكتب رحلات عدة كانت تصف مشاهدات فرنسيين تافرنييه، والفارس شاردان، بين آخرين في الشرق العثماني والفارسي، ناهيك بتبحره في كتاب يصف فيه سفير تركيا محمد افندي مشاهداته في فرنسا. إن هذا كله حث مونتسكيو على أن يبدأ كتابه بمغامرة شرقية، على نسق ألف ليلة وليلة: مؤامرات في القصر. صراع بين المتنورين والظلاميين... الخ، وكل هذا يدفع شخصيتيه الرئيستين: اوزبك ورضا او ريسا، الى مبارحة فارس والتوجه الى فرنسا، وهما من اصحاب الفكر البراغماتي التنويري اصلاً. في النهاية، وبعد سلسلة من الانتفاضات والجرائم والمناورات، نجدهما يعودان الى الوطن. اما متن الكتاب، فهو الرسائل التي يكتبها كل منهما ويرسلها الى اصدقائه وأهله، واصفاً فيها نظرته وتأملاته في ما يراه. وفي هذه الرسائل، وضع مونتسكيو كل ما يعنّ له من أفكار ونظريات، تبدأ بالأسس الفلسفية لقيام الجمهوريات، وتصل الى العادات الاجتماعية والملاحظات الديموغرافية وطبائع الناس وملابسهم وصحافتهم، والمقارنة بين اخلاق الشعوب ودرجات تطورهم، والقوانين الاجتماعية واللغات، والآداب والفنون وأحوال النساء... الى آخر ما هنالك. ومن البديهي ان مونتسكيو، الذي كان عند ذلك المستوى من حياته وفكره، مؤمناً بنظرية قائمة على اساس طبائع المناخ وانعكاس هذا على طبائع الشعوب وتقدمها وتخلفها، جعل الكتاب مرآة لأفكاره هو، ولدهشته هو. ومن هنا تحدثنا أعلاه عن كون الكتاب لعبة مرايا حقيقية. وهو نفسه يكتب في مدخل الكتاب ان كل ما يرد فيه انما ينطلق من "حب للحقائق الكبرى" بشكل مستقل عن "مبدأ احترام النوم الإنساني". ومن هنا فإن القارئ مدعو الى "ألا يكف، لحظة، عن النظر الى السمات التي اتحدث عنها، بوصفها تأثيرات عنصر المفاجأة الذي يتجلى عند الأشخاص الذين كان عليهم ان يُفاجأوا". كما ان القارئ، كما يقول مونتسكيو، مدعو الى "الانتباه الى أن كل توافق انما يقوم على ذلك التناقض الدائم بين الأشياء الحقيقية، وبين الطريقة الفريدة، أو الساذجة أو الغريبة، في النظر إليها". بعد هذا الكتاب الذي لا يزال حياً وحيوياً حتى يومنا هذا، وضع شارل لوي دي سوكوندا الذي عرف باسم مونتسكيو، المنطقة التي كان باروناً "بالوراثة" عليها الكثير من الكتب وأبرزها بالطبع هو "روح الشرائع". وهو عرف دائماً، بكونه عالم اجتماع بفضل كتاباته التي شاعت كثيراً لاحقاً بين رجال الثورة الفرنسية، مفكرين وقادة، على رغم انه مات في العام 1755 قبل عقود من قيام الثورة، ومونتسكيو المولود العام 1689، انتقد الحكم المطلق بشدة، كما انتقد رجال الدين والكنيسة، على رغم انه كان في الوقت نفسه من انصار الملكية شرط ان تكون دستورية ومؤمناً شرط ان يكون الإيمان حرية لا عبودية.