تنشط الجهود الديبلوماسية في عواصم عدة بهدف معالجة جديدة للملف العراقي تتزامن مع تمعن الإدارة الاميركية الجديدة في خياراتها ووسائل تنفيذ سياساتها نحو العراق ومنطقة الخليج. يتخذ بعض هذه الجهود شكل ديبلوماسية سرية وجزء منها يبعث رسائل عبر تصريحات علنية، ويشارك العراق بصورة أو أخرى في الاثنين. ومع تداخل البعد الاقليمي بالبعد الدولي في وضع التصورات والسيناريوات، يبرز مجدداً الدور البرىطاني بصفته حلقة الوصل بين المواقف الاميكرية والمواقف التي تبنتها القمة الاسلامية الأخيرة في الدوحة قبل شهرين. ولأن ما يُبحث دقيق في التفاصيل يشمل النظر في وضع الأطر والآليات ويتطلب قدراً كبيراً من الاقناع، فإن مساهمة الحكومة العراقية رئيسية لانجاح الجهود، بدءاً باثباتها رغبة صادقة في الخروج من الوضع الراهن وانتهاء باكتسابها الثقة الضرورية. بغداد ما زالت تبث رسائل متضاربة في البيئتين الاقليمية والدولية. لا أحد يعرف تماماً ما هي السياسة التي ستعتمدها إدارة جورج دبليو بوش نحو العراق. يمكن تصور المعالم والعناوين الرئيسية لهذه السياسة، أما التفاصيل فإنها لم توضع بعد. فأقطاب ادارة بوش ليسوا في عجلة لاطاحة سياسة أو "لا سياسة" ادارة بيل كلينتون نحو العراق ما لم تفرض عليهم التطورات اجراءات عاجلة. في مثل هذه الحال، وإذا ما وقع استفزاز أو خطأ يفرض الردّ، فإن في ادارة بوش رجالاً لهم تجربة وتاريخ في الرد العسكري على العراق، ولن يترددوا في توجيه ضربة عسكرية. اما اذا لم تفرض الضرورة مثل هذا الاجراء، فإن التعايش الموقت مع "ميراث" كلينتون يوفر لبوش فسحة زمنية للقرارات. يؤكد المطلعون على فكر وشخصية أقطاب الادارة الجديدة ان هناك إدراكاً بأن استمرار الوضع الراهن ممكن انما ليس الى سنوات. هناك وعي بأن سياسة الاحتواء والعقوبات تقوضت اقليمياً ودولياً وان بقاء المفتشين الدوليين خارج العراق لا يمكن قبوله على المدى البعيد. ما لن تقدم عليه ادارة بوش هو اعلان سياسة توحي بأنها تقلب صفحة العداء مع الرئيس العراقي صدام حسين. فلا الحوار مع الحكومة العراقية وارد الآن ولا أي إيحاء بالعفو عما مضى. لا إعادة تأهيل للعراق ولا سلخ ل "الشيطانية" عن صدام حسين. وما يشكل حجر الأساس في اعتبارات الادارة الجديدة يبقى في الوجود العسكري الاميركي في المنطقة وعدم السماح للعراق بتهديد جيرانه او بامتلاك أسلحة الدمار الشامل. هذه خطوط حمر حددتها السياسة الاميركية الخارجية بغض النظر عمن يكون في البيت الأبيض. وطالما ان بغداد لا تتجاوز الخطوط الحمر، ولا تلجأ الى الاستفزاز، فإن المرحلة الأولى من سياسة ادارة جورج دبليو بوش نحو العراق ستركز على التجاهل، مع تهيئة الخطط الطارئة العسكرية في حال كرر التاريخ نفسه. لا تريد ادارة بوش ان تكون طرفاً في مراحل الاستطلاع والاستكشاف ولن تدخل في معادلات الدوافع والترغيب للحكومة العراقية، لكنها لن تقطع الطريق عليها ولن تعطلها عمداً. المهم عندها ألا تُطلب منها الموافقة على اي طروحات أو مباركتها والتزامها مسبقاً. ولأن كثيراً من الدول الصديقة للولايات المتحدة يرغب في احداث تغيير في الملف العراقي، فإن ادارة بوش ليست قلقة من الغايات أو من الاستبعاد. وتريد الاطلاع، انما عن بعد وليس بأي صيغة توحي بأنها طرف. وهي تفضل في بعض الأحيان ألا تكون على اطلاع لئلا تضطر لقطع الطريق على الجهود قبل اختمارها. هذا لا يعني ان أقطاب الإدارة الجديدة لن يعملوا بموازاة ذلك على رسم استراتيجية اميركية نحو الخليج والعراق تنطلق من المصلحة الاميركية الوطنية، وإن تضاربت مع أولويات الاصدقاء. هناك فارق في المواقف بين بريطانيا وادارة بيل كلينتون، على رغم تلازم الموقفين نحو العراق. وليس واضحاً بعد للديبلوماسية البريطانية اذا كانت ادارة بوش ستتبنى مواقف ادارة كلينتون بكل تفاصيلها أو اذا كانت لمساتها الدقيقة عليها ستضخم الفوارق أو تحجمها. وعلى سبيل المثال، تبنت إدارة كلينتون هدف اطاحة النظام في العراق، فيما السياسة الخارجية البريطانية لا تنطوي على هذا الهدف وقد أوضح ذلك بيتر هين وزير الدولة المكلف شؤون الشرق الأوسط والخليج في وزارة النارجية البريطانية في حديث له مع "الحياة" الخريف الماضي عندما قال ان "الدعوة الى اطاحة النظام ليست سياسة بريطانية". هين، في ذلك الحديث، فتح الباب على تغيير في منطقتي حظر الطيران في شمال العراق وجنوبه والتي تقوم بفرضهما الولاياتالمتحدةوبريطانيا. قال ان "وقف القصف بالغ السهولة اذا توقف العراقيون عن محاولات اسقاط الطائرات". وقال ايضاً "لنحصل على ضمانات واضحة بأن الأكراد لن يُقصفوا مرة اخرى بأسلحة كيماوية، وبأن الشيعة لن يُقصفوا، ولنحصل على ضمانات بأنه لن تكون هناك خروق للاجواء الكويتية أو أجواء الدول المجاورة. عندئذ، لن تبقى هناك حاجة لمنطقتي الحظر الجوي". يرجح ان ادارة جورج بوش ستضع، في مراحلها الأولى، ملف العراق في وزارة الدفاع البنتاغون وليس في وزارة الخارجية. وقد يجد البنتاغون ان في المصلحة الاميركية انهاء عملية فرض حظر الطيران لأسباب ذات علاقة بتعزيز التواجد العسكري في منطقة الخليج من دون تشويش عليها كما بالكلفة المالية الباهظة او بخطورة التورط العسكري قبل الأوان نتيجة وقوع حادث أو سقوط طيار. وقد لا تكون منطقتا حظر الطيران ضرورتين حتى وان صدقت التكهنات بأن وزارة الدفاع تعتبر استمرار العراق "عدواً" ضرورياً لتبرير "مبادرة الدفاع الاستراتيجية". ما لن تقبل به الديبلوماسية البريطانية أو الاميركية هو شرط العراق إزالة منطقتي حظر الطيران قبل استئناف تعاونه مع الاممالمتحدة. وما يسبب الحرج الكبير وقد ينسف الجهود التي تقوم بها بريطانيا وعمان وقطر ما صدر من بيانات عراقية اخيرة عدائية ضد الكويت وضد الجيرة العربية. فالكويت أبدت كثيراً من حسن النية في القمة الاسلامية في الدوحة التي حققت انجازاً في الملف الكويتي - العراقي والمملكة العربية السعودية ساهمت في تحقيق الانجاز باعتراف المسؤولين العراقيين. ولأن الوفد العراقي الى قمة الدوحة تصرف ايضاً بعقلانية، انطلقت الجهود للبناء على الانجاز بتداخل بين الديبلوماسية القطرية والعمانية والبريطانية وغيرها. الأفكار تدور في حلقة التوفيق بين عودة المفتشين الدوليين في الترسانة العسكرية العراقية وبين تعليق ثم رفع العقوبات المفروضة على العراق. وعندما يبدأ وفد عراقي برئاسة وزير الخارجية السيد محمد سعيد الصحاف "الحوار غير المشروط" مع الأمين العام للامم المتحدة كوفي انان نهاية الشهر المقبل في نيويورك، سيبدأ بجلسات استماع. فكوفي انان حلقة في الجهود لكنه ليس الأساس فيها. الأساس هو بريطانيا. فبريطانيا في رأي الأوساط الاقليمية والدولية حلقة وصل مع الولاياتالمتحدة ومن خلال مواقفها يمكن استنتاج لغة الغمز. ولبريطانيا علاقة عمل مع فرنسا وروسيا اللتين تعملان ايضاً على الملف العراقي. ففرنسا تسعى الى حركة تصحيحية في تناول الملف العراقي بما يؤدي الى الخروج من عقدة الرفض أو الموافقة على الدخول في فحوى تنفيذ القرارات وجوهرها، من جانب العراق كما من جانب مجلس الأمن على السواء. وروسيا تعيد رسم دورها في المنطقة من البوابة الايرانية وأنظارها ايضاً على العراق. وكلاهما راغب في ايضاح الغموض في القرار 1284 الذي وضع شروط تعليق العقوبات وظروفها، عبر آلية أو اطار، تجعله قابلاً للتنفيذ.