في فصل مسرحي حُضّر له بعناية، بدأ يوشكا فيشر زعيم حزب الخضر ووزير خارجية المانيا منذ 1998، على ما حدث مع عدد من قادة الحزب الاشتراكي الديموقراطي على مدى السنوات الماضية، مسيرة التراجع عن ماضيه اليساري والثوري الذي اشتهر به وطالما كان مفخرة له. ولجأ فيشر قبل اسبوعين، عن سابق تصور وتصميم، الى كسر الزجاج الذي كان يحنط في داخله ماضيه، فدانه في معرض الادعاء بعدم التنكر لهذا الماضي. بكلمة اخرى، شهدنا محاكمة ذاتية وعلنية مقصودة لم تنته فصولا بعد يمكن وضعها تحت عنوان: "فيشر ضد فيشر"، فحواها محاكمة رجل الدولة الخمسيني فيشر لفيشر الفتى الثوري والفوضوي الذي اصيب بمرض الطفولة اليسارية وهو في العشرينات، وكاد ان ينزلق من "مرتبة" العنف الثوري الى "درك" الارهاب الثوري مطلع السبعينات لولا... لولا ماذا؟ لولا "التعقل" الذي حظي به في اخر لحظة و"الادراك" المفاجئ لخطورة اللعب بالشعارات الثورية و "الفهم" غير المتاخر بأن استخدام العنف، ولو كان ثوريا، يفقد الحرية والديموقراطية معناهما. ولولا ماذا ايضاً؟ لولا فضل دانييل كوهين بنديت، احد اشهر قادة الثورة الطلابية عام 1968، عليه بعدما اخذ بيده "في اللحظة الاخيرة" ودله على الصحيح مخلّصا اياه من الوقوع في وحل الارهاب. دون مقدمات فاجأ فيشر الالمان وحزبه بشكل خاص، وهما خارجان من عطلة عيدي الميلاد ورأس السنة، بتفاصيل مقابلة أجرتها معه مجلة "شتيرن" المشهورة بخطها اليميني المحافظ. وفيها فتح تاريخه الثوري على مصراعيه واعترف بأنه لا يتنكر له يقول مثلا: "هذا هو تاريخي". كما دان، من جهة اخرى، العنف الذي لطالما مارسه ضد المجتمع وضد الشرطة. وسمح للمجلة بنشر صور فريدة له تظهره احداها وهو يحمل عصا او قضيبا معدنيا يضرب به شرطيا. وبعد اقراره بانه كان يؤمن بالعنف وسيلةً اساسية، يضيف ان نظرته اليه تغيرت منذ سنين عديدة وانه يفهم نفسه الآن ك"مصلح" و "ديموقراطي". ويعدد فيشر الاسباب التي دفعته ودفعت جيل الستينات والسبعينات الى اللجوء الى العنف فيذكر قتل الثائر الطلابي الالماني رودي دوتشكه وحرب فيتنام والشكوك التي ظهرت حول استمرار علاقة الدولة الالمانية بالنازية، الامر الذي جعله يفكر حتى في قلب النظام القائم عن طريق العنف الثوري، كما قال. كذلك تحدث عن مرحلة مشاركته في احتلال المنازل القديمة مع اليساريين الفوضويين والسكن فيها لمنع شركات البناء من هدمها واقامة مراكز سكنية او تجارية مكانها، وما كان يستتبع ذلك من معارك وطيسة مع قوى الامن الداخلي. الصدمة التي اجتاحت حزبه والاحزاب الاخرى والرأي العام الالماني الذي كان يفيق متثاقلاً من عطلة الاعياد، أُتبعت بصدمات اخرى كشف فيها فيشر عن المزيد من نشاطاته السياسية الماضية رافضا الاستقالة من منصب وزير الخارجية التي طالبه بها البعض ومقدماً اعتذارا هو الاول له الى الشرطة عن ممارسته العنف في حق افرادها، معلنا في الوقت نفسه استعداده للاجتماع مع الشرطي راينر ماركس الذي اشبعه ضربا عام 1973 للاعتذار منه شخصياً. واكد انه قطع علاقته مع هذه المرحلة منذ زمن طويل ولم يعد يؤمن بالعنف لتحقيق المطالب، مضيفا انه لو لم يتوصل الى هذه القناعة لما انتسب لاحقاً الى حزب الخضر الذي قام على رفض العنف واعتناق فكرة النضال السلمي. لم يكن ماضي فيشر سراً على احد باستثناء مجموعة من التفاصيل الدقيقة التي كشفها في المقابلات. فالجميع كانوا على اطلاع، بهذا القدر او ذاك، على سيرة حياة هذا اليساري الفوضوي الذي صعق الجميع بكلامه وتصرفاته وبحذائه "السبادرين" المشهور الذي دخل به الى البرلمان بعدما انتخب للمرة الاولى نائبا عن حزب الخضر في ولاية هسن عام 1984. وما لبث الرجل ان اصبح وزيرا للبيئة داخل حكومة اشتراكية ديموقراطية ليبدأ مسيرة الالف ميل التي اوصلته اليوم الى مرتبة رجل الدولة المحترم حتى من قبل خصومه السياسيين، وابعدته في الوقت نفسه آلاف الاشواط عن القطب السياسي والايديولوجي الذي انطلق منه. وتساءل كثيرون: ما الذي دفع فيشر الالفين لينفض الغبار عن فيشر الستينات والسبعينات؟ وهل غايته فقط اعلان القطيعة مع الماضي؟ هناك شكوك بأن الخلفية ليست سجال اجيال، ويبدو ان فيشر وجد نفسه مضطرا اكثر من اي وقت مضى لممارسة مهنة التمثيل السياسي بامتياز لحفظ رأسه وخط الرجعة له بسبب العلاقة الرفاقية التي كانت موجودة بينه وبين عدد من الذين دينوا بممارسة الارهاب. وكان من هؤلاء هانس يواخيم كلاين الذي يحاكم منذ مدة في فرانكفورت بتهمة المشاركة في "عملية اوبك" التي نفذها مع العميل الدولي كارلوس عام 1973 في فيينا، وانتهت بسقوط قتيل وعدة جرحى بينهم كلاين نفسه الذي تمكن من الهرب والاختفاء طيلة 23 سنة تخلى خلالها عن الارهاب. ويشاع في هذا المجال ان رفاق كلاين القدامى، وبينهم فيشر وبنديت، كانوا يمدونه بالمال ويساعدونه على الاختفاء في فرنسا. لذا كان على فيشر تقديم شهادة امام محكمة فرانكفورت والاجابة عن اسئلة النيابة العامة في جلسة علنية حول مدى علاقته بكلاين. وستشد هذه الشهادة الانظار والاسماع اكثر بكثير مما حصل مع الشاهد بنديت قبل شهر ونصف الشهر. ولأن فيشر يعرف ان عليه الاجابة بصدق وبتفصيل عن اسئلة دقيقة وعن حيثيات غير معروفة بعد، كما يعرف ان كل كلمة غير صحيحة يقولها ستنهي حياته السياسية الناجحة عاجلاً ام اجلاً، لم يعد له اي خيار آخر سوى الهروب الى الامام وتحضير الرأي العام سلفاً عن طريق الصدمات النفسية الخفيفة التي تمهّد لما يمكن ان يكشفه بعد عن ماضيه وعن علاقاته مع كلاين وآخرين من جماعة "الوية الجيش الاحمر" او منظمة "بادر - ماينهوف". وهذا علما انه استبق الشهادة بالتأكيد على أنه لم يقدم اية مساعدة لكلاين، مكتفيا بالقول: "لو انه بقي معنا لما كان يُحاكَم الآن". حتى الآن ربح فيشر، على ما يبدو، رهانه. اذ ان ردود الفعل على اعترافاته بقيت في حدود معقولة، بل تراجعت الاصوات التي تطالب باستقالته. وقد افاق حزبه من هول الصدمة وسارع الى دعمه، كما ان حليفه الكبير الحزب الاشتراكي الديموقراطي دافع عنه معتبرا ان سياسيين كثراً مرواً في مراحل مماثلة. واظهر آخر استفتاء ان الالمان لا يزالون يعتبرونه انجح سياسي في البلاد. لكن الجولة الحاسمة لم تبدأ بعد. وكل شيء مرهون ليس فقط بالشهادة التي سيدلي بها، بل ايضا بردود الفعل عليها، لا من جانب اعدائه السياسيين التقليديين، وانما في الدرجة الاولى من جانب رفاقه السابقين حيث توجد معلومات تفيد أن رفاق الامس يسعون الى الثأر من "الخائن" الذي تركهم في منتصف الطريق وقطع معهم نهائياً ودان ماضيهم. وكان فيشر قد ذكر في معرض التباهي ان القليلين فقط من منظمته التي كانت تعرف ب"حركة فرانكفورت الفجائية" انضموا الى الحركات الارهابية مثل كلاين، وان زعماء "الوية الجيش الاحمر" مثل شتامهايمر وبادر وماينهوف وآنسلين وصفوه حينها، سوياً مع بنديت، ب "خنازير النظام" لأنهما منعا رفاقاً لهم امن الانضمام اليهم. ولا يستبعد البعض ان تدور الدائرة على فيشر في النهاية بعدما اعلنت ابنة اولريكه ماينهوف واسمها بيتينا رول في رسالة مفتوحة وجهتها الى رئيس الدولة الالمانية، انها سترفع دعوى على وزير الخارجية بتهمة محاولة قتل الشرطي يورغن فيبر عام 1976 من خلال القاء قنبلة مولوتوف على السيارة التي كان فيها، ما ادى الى تعرضه لحروق شديدة في رجليه. وكان فيشر قد نفى علاقته بالامر ونفى ان يكون قد القى زجاجات مولوتوف في المظاهرات التي اعترف بأنه لعب دوراً رئيسياً فيها. لكن مجلة "دير شبيغل" اشارت الى ان رفاقاً سابقين لفيشر اكدوا لها ان الاخير كان يدعو عشية المظاهرات الى القاء المولوتوف على الشرطة، الامر الذي دفع رئيس الكتلة النيابية للاتحادي المسيحي فريدريش ميرتس الى القول: اذا تأكد هذا الامر فإن الاتحاد سوف يطالب عندها باستقالة الوزير. واكدت ابنة ماينهوف في رسالتها انها تعرف تفاصيل عدة عن ماضي فيشر لا تريد التحدث عنها الآن، مبقية في جعبتها قنبلة مؤقتة في وجه انسان قد يقتل حاضره السياسي الناجح جداً ماضيه الذي يتبرأ منه. وحينها يكون فيشر الثائر قد قضى انتقاماً على فيشر البراغماتي وتنتهي المسرحية بمأساة كما بدأت.