وهكذا، صارت للسيد محمود عباس أبو مازن وثيقتان مهمتان، الأولى تلك التي صاغها مع صديقه يوسي بيلين، وزير العدل الاسرائيلي نهاية عام 1995 نشر نصها الحرفي في مجلة "نيوزويك" اخيراً. أما الثانية فهي التي قدمها الى المجلس التشريعي الفلسطيني في العاشر من شهر أيلول سبتمبر 2000، على هيئة تقرير سياسي يشرح حيثيات المفاوضات في مراحلها الأخيرة وخصوصاً في قمة كامب ديفيد وما تلاها. وقد نشر التقرير في عدد "الحياة" بتاريخ 12/9/2000. في الوثيقة الأولى يتفق أبو مازن مع "صديقه" بيلين على بنود وثيقته التي تضع النقاط على الحروف فيما يتصل بقضايا الوضع النهائي، متجنباً التعامل مع حساسية القضايا المطروحة بروح متوترة. أما في الثانية فنعثر على سياق آخر، فالمواقف جد متباعدة الى درجة يمكن القول معها ان ما بيننا وبين الاتفاق النهائي بعد المشرقين. ولكن، ألم يقل لنا سادة المفاوضات ان الطرفين لم يكونا في يوم من الأيام أقرب الى انجاز الاتفاق مما هما عليه في هذه المرحلة، فلماذا يخرج علينا "أبو مازن" بتقرير يقول ان الخلافات اكثر من جذرية بين الطرفين؟! ما يمكن أن يقال بعد قراءة الوثيقتين، هو ان الاختلاف بين التصورين الاسرائيليين للحل، كما جاءا في تقرير "أبو مازن" الجديد وفي الوثيقة الأولى، ليس جوهرياً. وهو ما يعني ان ما ورد في التقرير لا يمثل رأي "أبو مازن"، بل هو الرأي الذي تقدمه القيادة الفلسطينية كسقف للتفاوض، اضافة الى كونه الرأي الذي يقدم للشارع الفلسطيني الذي ينبغي أن يضاعف اعجابه بالأداء التفاوضي لقيادته بعد الأجواء الاحتفالية بذلك الأداء منذ "الفشل" الذي أصاب قمة كامب ديفيد. ثمة جملة من الدلائل على هذا القول، منها ما يتداوله المسؤولون الاسرائيليون وتنقله الصحافة الاسرائيلية عن وجود تيار في السلطة يرى ان ما طرحه الاسرائيليون والأميركيون خلال الاسابيع الأخيرة كان جيداً ويستحق القبول، وهو الأمر الذي يرفضه الرئيس الفلسطيني، خصوصاً بالنسبة الى ملف القدس. تفسير هذا الأمر له صلة حقيقية بموضوع المسجد الأقصى الذي فوجئ الطرف الفلسطيني بالموقف الاسرائيلي منه، اذ يحظى بإجماع كل القوى داخل الساحة الاسرائيلية، حتى ان الصحف العبرية ركزت أخيراً على هذه الحالة النادرة من الاجماع حول الأبعاد الدينية والتاريخية الحساسة التي يمثلها جبل الهيكل في الوعي اليهودي، والذي لا يساوم عليه حتى عتاة اليسار في الساحة الاسرائيلية. وبالمناسبة فإن وثيقة بيلين - عباس تحدثت عن رفع العلم الفلسطيني على المسجد الأقصى الذي سيأخذ وضع سفارة أجنبية مع بقاء السيادة السياسية على الأرض للطرف الإسرائيلي وإبقاء ملف النزاع حول المدينة مفتوحا. وبالطبع لم يكن ليخطر ببال أحد أن السيادة المذكورة تشمل بناء كنيس في الحرم، كما تشمل حق الحفر تحت أساسات المسجد للبحث عن الهيكل المفقود كما ظهر في مفاوضات كامب ديفيد!! غير ان الأهم من ذلك في تفسير الموقف الفلسطيني، وخصوصاً بالنسبة الى ياسر عرفات هو الموقف المصري الذي يتحفظ على أكثر النقاط الواردة في وثيقة بيلين - عباس، وخصوصاً تلك المتعلقة بطبيعة الكيان الناشئ عن الاتفاق النهائي. فضلا عن تحفظه على ما طرحه الاسرائيليون في كامب ديفيد، والذي لا بد أن يكون المصريون في صورته، بل في صورة تفاصيل أكثر دقة منه. موقف أبو مازن الجديد له تفسير مصري أيضاً، فالرجل الطامح الى القيادة بعد عرفات يدرك أن ذلك لن يكون ممكناً من دون مباركة مصرية، وهي موافقة لن تتوفر إلا بخط سياسي يأخذ في الاعتبار معظم التحفظات المصرية عن المسار السياسي بشكل عام والتفاوضي بشكل خاص. في الوثيقة المذكورة، وكما في التصور الذي تبناه الاسرائيليون في كامب ديفيد حسبما أورده "أبو مازن" في تقريره، ثمة حكم ذاتي لأقلية داخل دولة الوثيقة تتحدث عن نموذجي الفاتيكان وكوستاريكا على وجه الخصوص، ومهما حصلت تلك الأقلية على رموز ومعالم سيادية فانها لن تصل حدود السيادة الكاملة، اذ ستبقى المعابر والحدود والأجواء والمياه والمجال الكهرومغناطيسي، كلها بيد الطرف الاسرائيلي. وبذلك يكون الحكم الذاتي قد خلّص الدولة العبرية من عبء ادارة السكان، كما خلصها من عبء المقاومة وعنفها وعملياتها. وتبقى مسألة الاستفادة من تداخل الحالة الفلسطينية الناشئة مع الدولة العبرية خاضعة لاعتبارات المصلحة والتكتيك المتعلق بالمستقبل وتحولاته على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية، خصوصاً لجهة العلاقة مع المحيط العربي. ولعل من المفيد الاشارة هنا الى ما أوردته صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية في تحليل لعاموس هرئيل بتاريخ 13/9، ذكر فيه انه "يسود الاعتقاد لدى الأوساط الأمنية بأن فكرة الفصل القديمة لا تبدو قابلة للتنفيذ بالنسبة الى رئيس الحكومة". هنا دخل العامل المصري بقوة على الخط، فالقاهرة غير متحمسة لإنهاء النزاع بين الدولة العبرية والعرب، ولا شك أن وضعها ببقاء الحال على ما هو عليه، سيكون أفضل بكثير من مرحلة ما بعد انهاء النزاع ودخول "اسرائيل" على خط التناقضات العربية كدولة قوية، وتملك غطاء أميركياً لا حدود له في التحرك، كما تملك قدرة فائقة على تحريك خيوط المنطقة لحساب مصالحها. أما إذا كان الأمر مفروضاً ولا مجال لتجاوزه، فليكن وفق صيغة معقولة، تكفل ارتباطاً أفضل للكيان الفلسطيني بمحيطه العربي ومحوره الأهم مصرياً، وليس ارتباطاً عضوياً بالدولة العبرية. لعل ذلك هو وحده ما يفسر كون الديبلوماسية المصرية هي أول من أشار الى وجود قضايا عالقة كثيرة تتجاوز القدس - على أهميتها وحساسيتها - وذلك قبل ثلاثة أسابيع من خروج تقرير "أبو مازن" الذي فضح مداولات كامب ديفيد، فيما لم يفسر "أبو مازن" لماذا كان المفاوضون الفلسطينيون ينساقون خلف الخطاب الاسرائيلي - الأميركي القائل بأن كل شيء على ما يرام أو سهل المنال، وأن الأزمة تتركز في مسألة السيادة على الحرم، وكأن قضايا اللاجئين والسيادة والأمن والمياه من الهامشية بحيث يمكن حلها في جلسة شاي قبيل غروب شمس يوم التوقيع على الاتفاق النهائي! وهو الخطاب الذي عاد الى التداول من جديد بعد تأجيل اعلان الدولة. ثمة ما هو اسوأ من ذلك، فقد جرى الترويج لمقولات تسهب في الحديث عن "انكسار اللاءات الاسرائيلية"، وخصوصاً بالنسبة الى القدس التي "باتت قابلة للتقسيم خلافاً للمقولات الاسرائيلية التقليدية"، اضافة الى الركض خلف صيغ يجد المراقب صعوبة في فهم حيثياتها، والخلاصة فتح الطريق أمام الاتفاق دون تخلي الاسرائيليين عن "حقوقهم التاريخية والروحية في جبل الهيكل". والأسوأ، بتثبيت التصور الاسرائيلي لشكل الحكم الذاتي ومحدداته. في ضوء ذلك كله، وخصوصاً ما فضحه تقرير "أبو مازن" من مسافة شاسعة بين التصور الفلسطيني و الاسرائيلي، هل يمكن القول ان اسابيع أو حتى أشهر ستكون كافية لجسر الهوة بين الطرفين، وإذا كان ذلك ممكناً فأي الطرفين هو المؤهل للاقتراب من الآخر؟ لعل من الحكمة الاجابة على السؤال المذكور بشكل قطعي وجازم، بيد أن ما يمكن قوله هو ان الاسرائيليين لم يغيروا من طبيعة تصوراتهم لشكل الكيان الفلسطيني المجاور لهم، ولم يبتعدوا عن جوهر فكرة الحكم الذاتي التي انطلقوا منها في أوسلو وقبل ذلك في مدريد، وما رموز السيادة التي اعطيت للطرف الفلسطيني الا عوامل استدراج كانت ضرورية لجعل المسار السياسي ذا اتجاه واحد لا رجعة عنه، وهو ما كان بالفعل، حيث بات من المؤكد ان عودة عن خيار استمرار التفاوض الى مالانهاية ليست واردة، وفكرة التأجيل دائماً جاهزة لحل المعضلات. فكما كانت موجودة في أوسلو لترحيل قضايا الوضع النهائي الى المجهول ها هم الأميركيون يستحضرونها الآن لترحيل ملف القدس الى خمس عشرة سنة قادمة. ان عنصر الخوف الأساسي الذي تنطوي عليه هذه اللعبة هو أن يصار الى انهاء النزاع عملياً وواقعياً بقوة الضغوط والاستدراج وشهوة "الهرولة" لدى البعض، دون تغيير حقيقي في طبيعة الكيان الناشئ، وبذلك تكون الخسارة مزدوجة على الفلسطينيين، وعلى الوضع العربي، في معادلة يبدو أن تجنبها لن يكون ممكناً سوى بالانقلاب على لعبة التسوية وعودة الفلسطينيين الى خيار المقاومة وإدامة الصراع، أو بحدوث تحولات "دراماتيكية" في ميزان القوى الاقليمي والدولي لغير صالح الدولة العبرية، وكلا الاحتمالين يبدو مستبعداً مع الأسف!! * كاتب أردني.