أسهم أوروبا تغلق عند ذروة قياسية    المعهد العقاري السعودي يوقّع عددًا من اتفاقيات التعاون    أمير جازان يرعى معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي "إبداع جازان 2026"    ولي العهد يلتقي القادة المشاركين في مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار    السعودية: مواقفنا راسخة وثابتة تجاه فلسطين وشعبها    السعودي الألماني الصحية تستعرض شراكاتها وإنجازاتها الريادية في ملتقى الصحة العالمي 2025    أمير جازان يرعى انطلاق فعاليات النسخة الثانية من "موسم التشجير الوطني    وزير الصحة يزور ركن تجمع الرياض الصحي الأول ويطّلع على أبرز مبادراته في ملتقى الصحة العالمي 2025    الجلاجل يطلق مركز القيادة والتحكم الأول من نوعه بالعالم لمتابعة حالات السكري    طيران دلتا يعلن عن تدشين أولى رحلاته المباشرة بين أتلانتا والرياض اعتباراً من 2026    مركز الملك فهد لأورام الأطفال : 3318 عملية زراعة خلايا جذعية و150 سنويًا للأطفال    القيادة تعزّي ملك مملكة تايلند في وفاة والدته الملكة سيريكيت    رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية يغادر المدينة المنورة    رئيس وزراء جمهورية ألبانيا يصل إلى الرياض    الكاراتيه ينهي بطولته المفتوحة    الشورى يقر توصيات لتدريب وتأهيل القاصرين لاستثمار أموالهم بفاعلية    يايسله يختار بديل رياض محرز    نائب أمير الشرقية يطّلع على جهود جمعية "انتماء وطني"    الاحتلال الاسرائيلي يعتقل 20 فلسطينياً    القيادة تهنئ الحاكم العام لسانت فنسنت وجزر الغرينادين بذكرى استقلال بلادها    أكثر من 11.7 مليون عمرة خلال ربيع الآخر    والدة الإعلامي أحمد الغامدي في ذمة الله    تحت رعاية خادم الحرمين.. انطلاق النسخة ال9 من مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار بالرياض    لأن النفس تستحق الحياة".. جمعية "لهم" تُطلق فعالية توعوية مؤثرة في متوسطة 86 عن الصحة النفسية والإدمان    أوكرانيا تستهدف موسكو بعشرات الطائرات المسيرة    لبناء القدرات وتبادل الخبرات وزارة الدفاع توقّع مذكرات تعاون مع 10 جامعات    إنطلاق الملتقى العلمي الخامس تحت عنوان "تهامة عسير في التاريخ والآثار "بمحايل عسير    أمانة نجران 4287 جولة وزيارة خلال أسبوع للصحة العامة    فريق مصري يبدأ عمليات البحث في غزة.. 48 ساعة مهلة لحماس لإعادة جثث الرهائن    الدروس الخصوصية.. مهنة بلا نظام    «التعليم»: لا تقليص للإدارات التعليمية    هيئة «الشورى» تحيل تقارير أداء جهات حكومية للمجلس    إنستغرام يطلق «سجل المشاهدة» لمقاطع ريلز    إسرائيل تحدد القوات غير المرغوب بها في غزة    تمهيداً لانطلاق المنافسات.. اليوم.. سحب قرعة بطولة العالم للإطفاء والإنقاذ في الرياض    قيمة الدعابة في الإدارة    2000 زائر يومياً لمنتدى الأفلام السعودي    الصحن الذي تكثر عليه الملاعق    المخرج التلفزيوني مسفر المالكي ل«البلاد»: مهندس الصوت ومخرج المباراة يتحملان حجب أصوات جمهور الاتحاد    أثنى على جهود آل الشيخ.. المفتي: الملك وولي العهد يدعمان جهاز الإفتاء    تركي يدفع 240 دولاراً لإعالة قطتي طليقته    يامال يخطط لشراء قصر بيكيه وشاكيرا    إثراء تجارب رواد الأعمال    المعجب: القيادة حريصة على تطوير البيئة التشريعية    علماء يطورون علاجاً للصلع في 20 يوماً    كلية الدكتور سليمان الحبيب للمعرفة توقع اتفاقيات تعاون مع جامعتىّ Rutgers و Michigan الأمريكيتين في مجال التمريض    480 ألف مستفيد من التطوع الصحي في الشرقية    غوتيريش يرحب بالإعلان المشترك بين كمبوديا وتايلند    رصد سديم "الجبار" في سماء رفحاء بمنظر فلكي بديع    8 حصص للفنون المسرحية    صورة نادرة لقمر Starlink    المعجب يشكر القيادة لتشكيل مجلس النيابة العامة    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنفيذ البرنامج التثقيفي لمنسوبي المساجد في المنطقة ومحافظاتها    الضمان الصحي يصنف مستشفى د. سليمان فقيه بجدة رائدا بنتيجة 110٪    116 دقيقة متوسط زمن العمرة في ربيع الآخر    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على هيفاء بنت تركي    الديوان الملكي: وفاة صاحبة السمو الأميرة هيفاء بنت تركي بن محمد بن سعود الكبير آل سعود    نائب أمير نجران يُدشِّن الأسبوع العالمي لمكافحة العدوى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النكتة المصرية طريقة لاعلان المواقف تجاه الثورة والحرب والسلام
نشر في الحياة يوم 22 - 08 - 2000

روح المرح مؤشر حقيقي يمكن التعرف بواسطته على درجة الذكاء العام ارتفاعاً وهبوطاً، وربما كانت ايضاً دلالة قوية على الانشغال بالهم العام بما يترتب عليه من رغبة في التعرف على الحقيقة والقدرة على النفاذ اليها في تكثيف وتركيز شديدين، محققة بذلك هدفها الرئيسي وهو تخفيف التوتر، غير ان اهم ما يميزها - وهو ما يعنينا في هذا المقال - فهو انها روح المرح وثيقة الصلة بالملكات النقدية في العقل البشري، بل قد تكون نتاجاً مباشراً لآلياته صعوداً وهبوطاً، وجوداً وعدماً، سكوناً وحركة.
واذا كان الحكم هو عنوان الحقيقة كما يقول القانونيون، فالتعليق المرح والنكتة اعلى درجاته، هو الحقيقة نفسها كما يراها العقل الجمعي. هو حكم موضوعي يتناول موقفاً حياتياً بكل أبعاده الاجتماعية والسياسية فيختزله بسرعة الى عناصر واضحة تشكل موقفاً نقدياً يفجر الضحك، او في القليل، ينتزع الابتسامة.
من هنا تأتي خطورة الانعدام او التلاشي التدريجي لروح المرح في مجتمع ما، فإن ذلك يكشف بجلاء عن ضعف او صدأ في آليات النقد داخل العقل الجمعي، ويا له من موقف بائس عندما تضطر لشرح نكتة لشخص ما، فتجد نفسك اشبه بشخص يرسل اشارة استغاثة الى جهاز لاسلكي مغلق.
وفي اجواء الاحتفالات الاخيرة بثورة تموز يوليو في مصر، كان من الطبيعي ان احتفل بالجزء الخاص بي، وهو تأثيراتها على روح المرح الجمعية، ماذا كانت الاحكام التي اصدرها العقل الجمعي في سنواتها الاولى، والذاكرة هي مرجعي الوحيد، اذ لا توجد مراجع موثوقة لذلك.
كنت في ذلك الوقت اعيش في دمياط، وهي مدينة قديمة تقع على فرع النيل على بعد 15 كيلو متراً من البحر الابيض، قد يدهش الجيل الحالي عندما اقول له، ان دمياط كانت تصدر الاحذية الى ايطاليا والأثاث الى فرنسا، وذلك في الاربعينات بعد نهاية الحرب العالمية مباشرة، ولكن الانشغال بالعمل والاتقان لم يمنعهم، بل لعله هو الذي دفعهم للاشتغال بالهم العام، كان معظمهم وفديين، اذكر ان النكتة الثورية الاولى كانت عن مشادة حدثت في باص بين محصّل وعسكري في الجيش، اتسعت الخناقة واشترك فيها عدد كبير من الركاب، كلهم اشتركوا في ضرب العسكري، اقتيد الجميع الى قسم الشرطة، واخذ المحقق في استجوابهم، كل منهم كان لديه سبب يبرر به اعتداءه على العسكري، الى ان سأل احدهم: تعرف "العسكري" ده؟.
- لأ..
بينك وبينه حاجة..؟.
- لأ
لماذا ضربته اذاً؟.
- فأجاب الرجل: اصل لقيتهم بيضربوه، فقلت دي الثورة خلصت فرحت نازل فيه ضرب.
* *
طاف رجال الثورة بكل مدن الوجهين البحري والقبلي. وفي دمياط، اثناء زيارتهم لمصنع الغزل والنسيج، سأل عبدالناصر احد العمال: ايه رأيك في الثورة يا اسطى؟.
فأجاب: والله يا فندم ثورة واحدة مش كفاية.. احنا نفسنا في واحدة ثانية كمان.
* *
كان اللواء محمد نجيب هو الزعيم والرئيس وقائد الثورة، تحمس الناس له بشدة، وكانت شعبيته فوق الوصف. احد الحلاقين تحمس بجنون لمحمد نجيب وغيّر اسم دكانه الى حلاق محمد نجيب. وفي آذار مارس 1954 حدث الصراع الشهير بين مجموعة عبدالناصر ومجموعة نجيب، وهو الصراع الذي انتهى باختفاء نجيب وبقاء عبدالناصر. ولكن الحلاق الشجاع استمر على موقفه المؤيد للزعيم المختفي، وقال لأهل الشارع ان لافتة المحل التي تحمل اسم نجيب ستظل في مكانها الى الأبد، وزار رجال الثورة دمياط فنصحه بعض الناصحين بأنه لا داعي للمتاعب وانه من الواجب عليه تغيير لافتة الدكان، غير ان الرجل اصر على موقفه المتهور، وانه لن يحذف اسم محمد نجيب من فوق دكانه مهما كانت المتاعب التي سيتعرض لها. وصل موكب رجال الثورة الى الشارع التجاري وهو الشارع نفسه الذي يوجد فيه الدكان. بدأت النصائح تتخذ طابعاً حاداً: يا عم نزل اليافطة.. حاتروح في داهية، ولكنه رفض في اباء وشمم. امتار عدة تفصل الآن موكب الثورة عن الدكان، فجأة امسك الرجل بقطعة طباشير وصعد على سلم خشبي وكتب كلمات عدة بسرعة، فتحولت اللافتة الى حلاق محمد نجيب الشهير بجمال عبدالناصر.
لعلها كانت النكتة الاولى التي تشير الى بداية سيطرة الرعب على عقول الناس، ومن ثم محاولة اللعب على الحبال طلباً للنجاة. الغريب في الامر انني لا اذكر ظهور نكتة واحدة علقت على طرد الملك فاروق من مصر، مما يدل على ان النكتة عند الشعوب القديمة تتعامل فقط مع موقف يثير الضيق والتوتر بهدف استعادة التوازن النفسي للجماعة. بالطبع ظهرت اطنان من الكتابات تدين فاروق مصورة اياه على انه شيطان رجيم، غير انه من الواضح أن المصريين وجدوا أنه لا يستحق نكتة واحدة، طبقاً لقاعدة ان الضرب في الميت حرام. هكذا تتعفف النكتة عن تناول المهزومين الضعفاء، هي فقط توجه قذائفها الى السدود القوية التي تعترض السير الطبيعي لتيار الحياة، بهدف إزالة هذه السدود المسببة للاحتقان والتوتر في العقل الجمعي.
اختم هذه المرحلة ب"قطار الرحمة"، إذ تمّ حشد كل فناني مصر المشهورين في قطار ليقيموا احتفالاً في كل مدينة، ويجمعوا الاموال والمصوغات والتبرعات العينية، لتكون محطة القطار النهائية في غزة دعماً للشعب الفلسطيني. كل هذه الاموال والتبرعات لست اعرف الطريقة التي تم بها توزيع المصوغات على اللاجئين في غزة، ولكن هذا ليس موضوعي ستنزل في محطة غزة، وظهرت النكتة تقول ان "الدمايطة" رفعوا لافتة دمياط من على محطة السكة الحديد ووضعوا بدلاً منها لافتة اخرى كتب عليها غزة.
أريدك ان تلاحظ ان تغيير اللافتة كان العامل المشترك بين هذه النكتة ونكتة الحلاق. فقطار الثورة يمضي الآن في طريقه بثبات ومن المؤكد انه سيدوس كل من يقف في طريقه، والامل الوحيد في تفادي الخطر او للحصول على كسب هو تغيير اللافتة، المهم هو ان يفرغ القطار شحنته الثمينة في محطتك.
وتتوالى انجازات الثورة وانتصاراتها فتختفي النكتة ذات البعد السياسي مخلية الساحة للنكتة التقليدية التي تتناول اخطاء البشر العاديين. ومع انجازات وانتصارات الثورة المتلاحقة تحولت روح المرح الى إحساس طاغٍ بالفرحة والرضا عن النفس، فبدأ الصدأ يعلو اجزاء ماكينة القدرات النقدية داخل عقول البشر، بعد ان توقفت عن الدوران او كادت، انه ذلك الشعور الجميل بالارتياح الذي تشعر به الجموع عندما تتخلص من عبء الحرية. فالحرية بطبيعتها تفرض على الفرد التزاماً ثقيلاً بالمسؤولية، وتذويب فردية الانسان داخل حركة الجموع يرفع هذا الالتزام عن كاهله، لا داعي للقلق، هناك شخص واحد قوي ومعه كوكبة من الرجال الشجعان الأطهار وهم جميعاً لا يخطئون. هم يعرفون جيداً مصلحة هذا الشعب ورغباته واحلامه وسيحققونها جميعاً له. وبعد توالي ظهور الثورات العسكرية في المنطقة، انقسم العالم الى قسمين: ثوار نبلاء ورجعيون اوغاد... ابيض واسود. صدر قرار بإلغاء الوان الطيف، وأنت محظوظ، حُسن طالعك جعل منك ثائراً، نبيلاً، تقدمياً، في تلك اللحظة لن ترى في اي خطأ، خطأ، وبالتالي لن يوجد سد منيع يوقف تيار الحياة مما يضطر العقل الجمعي لصنع نكتة ضده. فوجود الخطأ في حد ذاته لا يصنع النكتة، بل استيعاب هذا الخطأ الذي يتطلب بدوره قدرات نقدية عالية. حتى هؤلاء الذين عذبوا في المعتقلات كان معظهم يعتقدون ان ما يحدث لهم لا يرقى الى مرتبة الجريمة او حتى الخطأ البشع، كانوا يرونها مجرد تناقضات ثانوية مع النظام لا تنفي وحدة الهدف وهو القضاء على الاستعمار والامبريالية. صحيح ان الاستعمار رحل، ولكنه لفرط خبثه ترك ما يسمى اذناب الاستعمار وعملاء الاستعمار المتحالفين مع الرجعية العربية، ولا تنس فلول الاقطاع ثم الاوغاد عناصر الثورة المضادة. المهمة ما زالت شاقة، اذ تتطلب التضحية بالذات الفردية من اجل الجموع. ان احساسك بالألم لتعذيبك منهجياً في معتقل ليس اكثر من احاسيس بورجوازية تمنعك من ادراك ان تلك ليست اكثر من ضريبة تافهة تدفعها من اجل الثورة العالمية. لا حد لقدرة الانسان على خداع الذات عندما يفقد احساسه بفرديته، عندما يفقد احساسه بكبرياء الحرية. غير ان هؤلاء الذين عاشوا هذه الفترة يدركون تماماً ان الاحساس السائد بالرضا الجمعي عن النفس نتيجة للشعور بالعزة والكرامة كان يبطّنه احساس قوي وناعم بالخوف. غير ان هذا الاحساس بالخوف، فشل هو الآخر في انتاج نكتة واحدة في السنوات من 1956 الى سنوات الستينات الاولى، ذلك أن الناس تعاملوا مع هذا الخوف بوصفه الخوف الطبيعي من الدولة. فكل المجتمعات في كل مراحل التاريخ يعرف مواطنوها درجة من الخوف من سلطات الدولة، انه الخوف الشرعي الذي يدفع المواطن الى احترام القانون.
ولكن بارتفاع منسوب الخوف تبدأ مرحلة يمكن تسميتها بروح المرح الهامسة، لم تكن النكتة فيها موجهة ضد النظام او راغبة في ادانته، بل كانت تحذر في رقة وعذوبة مما يمكن ان يحدثه القمع من آثار ضارة بالناس. من ذلك، تم القبض في احد الشوارع على مواطن يحمل كمية من المنشورات، وفي مكتب رئيس المباحث قال: هذه ليست منشورات.. هذا ورق ابيض، فصاح فيه الضابط في سخط: نعم..؟ هو حضرتك كنت عاوزنا نستنى عليك لحد ما تكتبه؟
وعندما يختلط القمع بالازمات التموينية، تجعل منهما النكتة هدفاً واحداً. في اجتماع موسع للقاعدة الشعبية في "الاتحاد الاشتراكي" وقف احد المواطنين يسأل مسؤولاً كبيراً: نحن نعاني نقصاً شديداً في السلع التموينية، أين الرز، اين العدس، اين الفول، اين السكر، اين الزيت.
فرد عليه المسؤول الكبير: نعم.. القيادة تعرف كل ذلك، غداً سأرد عليك واعطيك بياناً بالجهد الذي تبذله لتوفير تلك السلع.
وفي اليوم التالي وقف عضو آخر يسأل: اين الرز، اين العدس، اين السكر، واين العضو الذي كان يسأل بالأمس؟.
في المرحلة نفسها كانت الحكومة تحذر الناس كثيراً من الاستماع الى الاشاعات الكاذبة، وكان من المستحيل التفريق بين الاشاعة الحقيقية والاخرى الكاذبة، لسبب بسيط هو ان الاشاعة لا يمكن ان تكون الا كاذبة، هي بالتعريف كاذبة، فيظل السؤال هو كيف تعرف ان ما تسمعه الآن اشاعة فيما لا احد يكتب اي معلومة حقيقية حتى لا يعرفها الاعداء. هكذا تم تطويع العقل لاعتناق فكرة ان كل الحقائق يستفيد منها العدو، وبذلك تكون وطنياً بمقدار قدرتك على عدم ذكر الحقيقة في حال كنت تعرفها، وكان لا بد للنكتة من ان تتدخل، قيلت اشاعات كثيرة عن عبدالناصر فغضب غضباً شديداً وطلب من أجهزته أن تأتي له بذلك الوغد الذي يروج كل هذه الاشاعات، فقبضوا عليه فعلاً لاحظ تسليم العقل الجمعي بقوة الاجهزة المعلوماتية واحضروه الى مكتب عبدالناصر الذي تمالك اعصابه وسأله في غيظ: هل انت قائل كل هذا الكلام..؟ بقى انا، عبدالناصر الذي قضى على الاقطاع وطرد الملك، وخلّصكم من الاستعمار والرجعية ووضع فيكم العزة والكرامة..
وهنا قاطعه الرجل: شفت يا فندم، أهو حضرتك اللي بتقول.. مش انا.. والله العظيم انا ما قلت كلمة واحدة من الكلام ده كله.
فكرة الاعتراف القسري ايضاً حظيت بنصيبها من النكتة: عثر العلماء على تمثال فرعوني لملك قديم وفشلوا في معرفة اسمه. أحد كبار المسؤولين طلب منهم ان يتركوه مع التمثال في قبو المتحف، وبعد ساعات عدة خرج وهو يتصبب عرقاً وقال لهم: التمثال للملك سخت رع.
فصاحوا في إعجاب: كيف عرفت؟
فأجاب وهو يجفف عرقه: اعترف..
قيل ايضاً ان عبدالناصر فقد قلمه الحبر اثناء حضوره اجتماعاً شعبياً فاتصل على الفور بزكريا محيي الدين الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية في ذلك الوقت وطلب منه البحث عن الشخص الذي سرق القلم. وبعد دقائق عدة عثر عبدالناصر على القلم فأعاد الاتصال بزكريا قائلاً: خلاص يا زكريا.. لقيت القلم.
فصاح زكريا: لقيته ازاي يا فندم؟ ده الرجل اللي خده بيعترف في التلفزيون دلوقت.
في ما يتعلق بهذه النكتة يداخلني شك كبير في انها مصرية تماماً، وارجح انها تنتمي للابداع الشعبي الروسي في عهد ستالين، عندما أُعدم خمسون الف شخص اعترفوا علناً في نقد ذاتي جميل انهم اتصلوا بالامبريالية العالمية للإضرار بمصالح بلادهم. في الغالب تم تمصيرها بفعل تأثيرات العقل الجمعي المتبادلة بين الشعوب، او اعاد صوغها أذكياء ينتمون الى اطراف معادية او ناقمة. لقد قيل لنا الكثير عن انه كان يوجد في أجهزة عبدالناصر قسم خاص لتحليل النكتة، وانه كان يرفع هذه التحليلات بشكل دوري للقيادة السياسية، وعلى كثرة المذكرات المهاجمة والمدافعة لم يتطوع احد ممن عملوا في تحليل النكتة بكتابة مذكراته، وهل كانت النكتة فعلاً تؤخذ في الاعتبار عند رسم السياسة الداخلية والخارجية؟ من المهم للغاية ان يلقي احد الضوء على هذه المنطقة المظلمة. في تقديري الشخصي، كان يتم رفع النكتة فعلاً للقيادة السياسية كجزء من تقارير الرأي العام، وعلى الارجح كان يتم تسخيفها بوصفها من صنع عناصر الثورة المضادة. ولكن لا شك بالطبع في انها كانت مصدراً للترويح عن النفس عند بعض الافراد في قمة السلطة الذين يتسم عملهم بالتوتر الشديد.
في عالم تكتنفه آلاف التعقيدات، من المستحيل النفاذ الى الحقيقة بغير قوة النكتة الذكية ذات التركيبة الدرامية. وروح المرح لن تملأ جيوبنا بالاموال، ولكنها ستجعل منا احراراً إيمرسون والحكمة بغير قليل من الملح والفلفل لا تعد حكمة ديورانت - قصة الفلسفة هكذا تكون الحقيقة والحرية والقدرات النقدية العالية والتهذيب وروح المرح شيئاً واحداً، هل ترى للانسانية معنى آخر؟ نحن ندافع عن هذه الانسانية، هناك بالطبع من يملكون اشياء اخرى تعوضهم عن غيابها، ولكن ماذا نفعل نحن سوى الدفاع عنها بعد ان تأكد لنا اننا لا نملك شيئاً سواها؟ أخشى ان اكون خرجت عن موضوعي في وقت يشكل الخروج عن الموضوع خطراً لا يقل عن خطر الدخول فيه، اعود لموضوعي.
الصدمة هي خير معلم للبشر، افراداً وجماعات، ولقد كانت الفترة من 5 حزيران يونيو 1967 حتى وفاة عبدالناصر في ايلول سبتمبر 1970 هي فترة الصدمة- الألم - الاستبصار للعقل الجمعي، ولكني لن اتعرض لنكتة واحدة قيلت في ذلك الوقت مفضلاً إرجاء ذلك لفرصة اخرى، كما اني سأقفز بعيداً عن مرحلة اخرى هي فترة حكم الرئيس السادات لكي اصل الى الفترة من مبادرة السادات في نهاية عام 1977 الى ما بعد الوصول الى اتفاقية كامب ديفيد التي كانت اطاراً لاتفاقية السلام المصرية - الاسرائيلية. كيف رأى العقل المصري مبادرة السادات؟ وما هو رأيه في اتفاقية كامب ديفيد؟ وما هو موقفه من السلام عموماً؟
قد تكون الاجابة: يا إلهي.. أليست الاجابة واضحة وكافية في اطنان الكلمات والمقالات والمسلسلات والافلام ضد السادات وضد اتفاقية كامب ديفيد وضد السلام وضد التطبيع، التي انتجها مثقفون هم حتماً ضمير الأمة؟.
وأرد: كلا.. ليست واضحة ولا كافية ولا مقنعة، ولا تعبر عن الحقيقة، تماما كآلاف الاطنان من الكلمات التي قيلت لأكثر من سبعين عاماً ممجدة الاتحاد السوفياتي بوصفه اعظم الانظمة السياسية التي عرفتها الارض واكثرها خيراً وعدلاً وقدرة على التنمية، ثم اتضح لنا ان العقل الجمعي للشعب الروسي ولشعوب اوروبا الشرقية له رأي آخر... رأي بعيد تماماً عن رأي وموقف ضمير الأمة من المثقفين المحترفين كارهي الحقيقة او العاجزين عن تحمل مسؤولية إعلانها، حتى مذكرات السياسيين عن فترة السادات، لست اثق بحرف واحد فيها. ففي مذكرات نشرت حديثاً، حرص صاحبها على تعظيم دوره فقال انه نصح السادات بأن يذهب الى عبدالناصر ليسري عنه بعد انتحار المشير عامر ووقوع عبدالناصر فريسة للاكتئاب، ونصحه بأن يأخذ معه شريط فيديو مسلياً. الطريف ان اختراع شريط الفيديو ظهر في الاسواق بعد موت عبدالناصر بسبعة اعوام على الاقل.
نعم، هناك عشرات النكات ظهرت في فترة حكم السادات محتواها جميعاً يدين خصالاً فيه وسلوكه في ادارة احداث كثيرة ومعظمها مصري طازج دماً ولحماً، ولكن ولا نكتة مصرية ظهرت تدين مبادرته او تدين اتفاقية السلام، والنكات القليلة التي ظهرت كانت واضحة الافتعال عن اصول غربية قديمة تتسم بالعدوان وانعدام التهذيب والافتقار الى البناء الدرامي القوي وهو ما لا تعرفه النكتة المصرية. لذلك اختفت بسرعة ولا شك في انها كانت جزءاً من الحملات السياسية ضده.
قد تجد في منهجي من اعتماد النكتة اداة كاشفة للحقيقة، نكتة في حد ذاتها، وقد تبتسم او تقهقه ضاحكاً، عندها سأسألك: هل يوجد لديك ادوات اخرى للوصول الى الحقيقة يمكن الوثوق بفاعليتها؟.
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.