انعقدت في 25/4/2000 قمة مصغرة افريقية لتأكيد اتفاق لوساكا حول وقف اطلاق النار في الكونغو ومن دون مصادرة على آمال تحقيق هذا الهدف فإنه ليس غربيا أن يتذبذب وقف اطلاق النار في الكونغو وان تختلط آمال السلام بمرارة الواقع ذلك ان منطقة البحيرات العظمى الافريقية تشهد صراعاً حاداً يوشك ان تتورط فيه القارة الافريقية بأكملها، وتفجر هذا الصراع منذ 1993، وتزامن مع موجة الصراعات الاقليمية الاخرى والازمات الدولية التي صودف تفجيرها هي الاخرى منذ عام 1992 مثل ازمة الجزائر وازمة لوكربي وهايتي ويوغوسلافيا في البوسنة والهرسك اولاً ثم في كوسوفو، والسودان وافغانستان، التي تحول فيها الصراع ضد الاحتلال السوفياتي الى حرب اهلية طاحنة منذ بداية التسعينات وغيرها، وهذه الملاحظة تثير البحث عن العلاقة او العقد الذي ينظم هذه الاحداث جميعاً والذي يبدو انه وفي عبارات عمومية انتهاء الحرب الباردة وانفراط نظام دولي قديم وفوضي محاولات اقامة نظام دولي جديد. بدأت الصراعات في البحيرات العظمى بمحاولة انقلاب فاشلة في بوروندي في تشرين الاول اكتوبر 1993 والتي وضعت نهاية للتجربة الديموقراطية القصيرة التي بدأت في اول تموز يوليو من العام نفسه ولشهور عدة وليس انهيار وقف اطلاق النار الذي نجحت في ابرام الاتفاق حوله قمة لوساكا في 10 تموز يوليو 1999 تتويجاً لما يزيد عن عشرين محاولة على المستوى الوزاري والقمة لمنظمة جنوب افريقيا المعروفة باسم ال "سادك" SAADC الا اشارة واضحة الى ان هذا الصراع اعمق بكثير مما تعلقت به آمال التسوية، واشمل مما ظنته قمة لوساكا وابعد خطراً مما تصورته الاممالمتحدة، وما حاولت ان تقدمه من جهود لمراقبة وقف اطلاق النار وتعزيز بعثاتها في نهاية شباط فبراير الماضي. وإذا كان الصراع في الكونغو بدأت فصوله الاخيرة منذ آب اغسطس 1998 عندما انقلب المساعدون للرئيس كابيلا من التوتسي ذوي الاصل الرواندي على حكمه وعلى التحالف معه ودخلوا في حرب معه فإن بداية هذا الصراع لم تكن سوى احدى حلقات المأساة التي يعيشها شعب الكونغو منذ استقلاله وحتى كتابة هذه السطور، وسبق ان عالجنا في مناسبات عدة جذور المشكلة في الكونغو والاسباب الرئيسية التي تجعل مشكلة الكونغو من المشاكل المستعصية وتجعل وقف اطلاق النار بين الثوار التوتسي الذين يعملون من قواعدهم في شرق زائر وعلى ضفاف بحيراتها وبين حكومة كابيلا مجرد هدنة موقتة لا يمكن ان تصل الى حد اتفاق السلام كما يتصور البعض، وكذلك صورة التسوية الممكنة في ضوء العوامل الرئيسية التي تحكم الصراع في الكونغو. يهمنا في هذه المقالة ان نلقي الضوء على طبيعة الصراع وحدود وامكانات اطرافه وتحالف هذه الاطراف وكذلك البيئة الدولية والاقليمية التي يدور فيها هذا الصراع، حتى يتبين لنا ان الكونغو تم تقسيمه فعلاً تقسيماً واقعياً، ولكي نخلص الى نتيجة واضحة للعيان لا يساورنا بشأنها تلك الشكوك والمحاذير التي تدفع الباحث في الشؤون السياسية والدولية الى الحذر في اطلاق الاحكام، وهي ان ثوار الكونغو سوف يتمسكون بشرق زائير حتى لو تم إفناؤهم، وسوف تتضافر معهم كل من بوروندي ورواندا مهما كانت المخاطر بحسبان ان توتسي شرق زائير هم حزام الامان لهذين البلدين بخاصة مع تعثر التسوية السياسية لمشكلتي رواندا وبوروندي، وارتباط هاتين المشكلتين ارتباط السبب بالنتيجة بمأساة الكونغو وانضمام اوغندا الحتمي - لاعتبارات امنية وسياسية - الى ثوار الكونغو ثم ان هؤلاء الثوار سيحاولون بكل السبل وينتهزون كل الفرص لكي يضعفوا الحكومة المركزية في كينساشا، وسيتحينون كل فرصة لتوسيع دائرة سيطرتهم وصولا في نهاية المطاف - ان امكن - الى العاصمة، سواء بمفردهم او بالتحالف مع القوى الكونغولية الاخرى التي تجد مصلحة في الالتقاء بهم. اما جبهة كابيلا فتتألف اساساً من اعوانه الذين استهوتهم في الداخل روح الوطنية التي اشاعها بين شعب الكونغو ضد من اسماهم بالغرباء، والمحتلين لبلادهم، بالاضافة الى حلفائهم الاجانب وهم تلك الجبهة التي تتحرك عليها صعوداً وهبوطاً كل من زيمباوي، نامييا، انغولا التي انصرفت حكومتها اخيراً لمواجهة استفحال قوي المعارضة العسكرية التي يقودها وحركة يونيتا، فضلا عن السودان وليبيا وتشاد، ومن الواضح ان تغير ميزان القوى في كل من المعسكرين امر وارد وبخاصة في معسكر كابيلا، كما ان تغير هذا الميزان يؤدي بشكل تلقائي الى تقدم جانب على حساب الجانب الاخر، والى مزيد من تورط افريقيا وديمومة الصراع واستنزاف الموارد في دولة يعتبر سكانها من افقر سكان الارض، مع ان هذه الدولة محسوبة على قائمة اغنى دول العالم في الثروات الطبيعية التي ان استغلت استغلالا حسناً ووزع عائدها توزيعاً عادلاً جعلت سكانها الذين يقاربون الخمسين مليوناً على مساحة تصل الى قرابة المليونين والثلث من الكيلو مترات المربعة اقوى واغنى دولة افريقية في هذا القرن، ولكن عجز الحكومة المركزية الابدي عن التحكم في الثروة والدفاع عن اطراف البلاد وصياغة مجتمع متمسك غني باعراقه وقبائله، والتباين الفادح بين قواعد الجغرافيا السياسية واصول القيادة السياسية، جعل الكونغو محرقة افريقيا، وقدر لها ان تكون مسرحاً للحرب العالمية الاولى الافريقية على حد تعبير بعض المعلقين، والتي تحدث محاولات التسوية العالمية والاقليمية كافة. يشترك في معسكر كابيلا اساساً حوالي 35 ألف جندي اجنبي بمن فيهم الاطفال مقابل 9 مجموعات من الثوار الاجانب الذين يحاربون حكوماتهم جنباً الى جنب مع ثوار الكونغو، ضم كابيلا خلال هذه الحرب ثوار الهوتو من كل من رواندا وبوروندي، كما يساند ثوار الكونغو كل من رواندا وبورونديواوغندا، ومن الواضح ايضا ان الارقام المعلنة عن ضحايا هذا الصراع في فصله الاخير والتي تقدر العدد الاجمالي حوالي 100 الف نسمة هو رقم متواضع في تقديرنا دون اية بادرة على وقف هذه المحرقة. ولا شك ان الصراع في الكونغو، كما نرى، يتطلب تسويته في اللحظة نفسها التي يسوى فيها الصراع في كل من رواندا وبوروندي، كما يتطلب تفهم طبيعة هذا الصراع فهو ليس مجرد احتلال اجنبي لارض الكونغو كما ترى حكومة كينشاسا، فذلك جزء واحد من الحقيقة، ولا هو مجرد حرب اهلية بين حكومة مركزية وبعض المناطق التي لا ترضى عن سياساتها، فذلك ايضا هو الآخر جزء مجاور من الحقيقة، وليس الصراع في الكونغو هو عملية تأديب من جانب الحكومة المركزية لمجموعة من المتمردين العصاة الذين شقوا عصا الطاعة عليها فجدت في تعقبهم، فذلك شبه من اشباه الحقيقة في الصراع، ولكن جوهر الصراع يتلخص في ما قدمناه من ان الحكومة المركزية الحالية قامت في ظروف شكلت سابقة خطيرة في السياسات الافريقية، ثم اضافت الى عجز الحكومات السابقة اخطاء اخرى اهمها واخطرها التلاعب بالورقة العرقية تبدأ بمساندة التوتسي فلما انقلبوا عليها اعلنت مساندتها للهوتو بعد ان ارتكبت العديد من المجازر ضدهم. ولذلك فإن الصراع في الكونغو سيظل يراوح مكانه بين مد وجزر مادامت اطراف الصراع تصر على مواقفها وتتغاير اقدارها من القوة والضعف ذلك ان الثوار لن يسلموا بأقل من الحد الادنى الذي اوضحنا ولن يقنعوا الا به مهما طال الزمن على ان حكومة كابيلا يتوقف بقاؤها على قوة التحالفات الوطنية والاجنبية من حولها، وهي تتعرض كما نرى لعدم اليقين، ولذلك فإن اية تسوية تتجاهل جذور الصراع وتتجاوز واقعه ستظل مجرد هدنة يجب الا يفاجئ انهيارها المراقبين لها، وابسط التزامات المثقفين تجاهها ان يضعوها نصب اعينهم من الملاحظة واعادة النظر المستمر في المعسكرات المتصارعة وميادين الصراع التي يبدو في هذه اللحظة انها تصب في مصلحة جماعات الثوار. * كاتب مصري