المستجدون في دراسة اللغة العربية من الأجانب يجدون صعوبة في اخراج أصوات مثل القاف والصاد فيعمدون الى تخفيفها، ولذا يتحول القصف لديهم كسفاً، بالضبط كما يحصل في السياسة احياناً. فالغارات الأميركية على ليبيا، مثلاً، أو على السودان كان ينبغي أن "تكسف" واشنطن ولكن هذه لم تنكسف، فهي كانت تعرف وتتجاهل سلفاً ردود الأفعال السلبية ولا تقيم لها وزناً على اعتبار أن من اختشوا لم يصبحوا دولاً عظمى. وحظي موقف موسكو المستنكر لغارات أو أي عمليات عسكرية ضد دول أخرى من دون غطاء شرعي، حظي بتعاطف وحتى بتأييد أطراف عديدة كانت تتبرم في السر من الغطرسة الأميركية وتفرح حينما يرفع أحد صوته ضدها. وفي حينه استغربت روسيا ان تقدم الولاياتالمتحدة على ضرب مواقع في السودان أو افغانستان انتقاماً من تفجيرات نيروبي ودار السلام، قبل أن تقدم دليلاً على تورط الطرف المقصوف، اذ يكفي أن يكون القاصف الأميركي أراد ذلك. وثمة مؤشرات الى أن الكرملين يريد أن ينسج على منوال مماثل، فهو هدد بضرب افغانستان متهماً "طالبان" وأسامة بن لادن بإقامة معسكرات لتدريب شيشانيين ومعارضين من جمهوريات آسيا الوسطى. بل ان أحد أقطاب حزب فلاديمير جيرينوفسكي، النائب الكسندر ميتروفانوف، قال في جلسة عقدها البرلمان ان "لدينا من نقصفه غير افغانستان". وهذا الشاب الذي كان قاد في الدورة السابقة لجنة الشؤون الجيوسياسية انما يعبر عن آراء شريحة ليست ضئيلة من الساسة والجنرالات الذين ما برحوا يرون في القصف أداة لاستعادة موقع بلادهم كدولة عظمى. ولا يجادل أحد في أن لروسيا كما لغيرها، حقاً في منع التطاول على سيادتها وصون حرمة أراضيها، ولكن من دون الخروج على قواعد وضعت لكي لا تسود العالم الفوضى. واستخدام القوة قد يؤدي الى عواقب وخيمة خصوصاً في افغانستان التي كان الاتحاد السوفياتي اكتوى بنارها. واللافت ان واشنطن تعاملت بفتور يثير الانتباه مع التهديدات الروسية، بل انها أوفدت نائب وزيرة الخارجية ايندرفيرت الى موسكو ليوقع بياناً مشتركاً يدعو الى "تفكيك الهياكل التحتية للارهاب" في افغانستان. وهذا دفع مراقبين الى الحديث عن طبخة يجري إعدادها كي تصبح جاهزة أثناء قمة كلينتون - بوتين في موسكو مطلع الشهر المقبل. وقد يكون التلويح بالقبضة الحديد وسيلة للضغط على "طالبان" ومنعها من مساندة الحركات المناوئة لحكومات آسيا الوسطى التي تربطها علاقات وثيقة بواشنطنوموسكو في آن واحد. ولو صح ذلك لعنى ان روسيا أحرقت ورقة مهمة استخدمتها لخلق تعددية قطبية تظللها الشرعية الدولية متمثلة في هيئة الأممالمتحدة ومجلس الأمن. أما إذا أرادت موسكو ان تمضي شوطاً أبعد وتحارب مجدداً في افغانستان، اصالة عن نفسها أو نيابة عن غيرها، فإن القصف قد يتحول من كسف الى كسوف.