يحاول ممدوح عدوان في مجموعته الأخيرة "وعليك تتكئ الحياة" أن ينأى بقصيدته عن المواضيع الكبرى التي كانت تحتل المساحة الأوسع من مجموعاته الشعرية والتي كانت تتغذى بمعظمها من فكرة الالتزام الوطني والقومي ومن دور الشعر الحاسم في التحريض والرفض والحث على المواجهة. على أن تغيراً بيناً بدأ يطرأ على قصيدة ممدوح منذ مجموعته الشعرية "وهذا أنا أيضاً" التي بدت محاولة قاسية للخروج من الجملة الشعرية السياسية ولاثبات الوجود في الحيز الذي لم يكن الشاعر قد التفت اليه كثيراً من قبل، أعني ملامسة الحياة اليومية ورسم المشاهد والتفاصيل المحيطة بالشاعر كالشجرة والمنزل والابناء وظواهر الطبيعة. وفي مجموعته التي صدرت بعد ذلك "للريح ذاكرة ولي" يحول الشاعر القصيدة الى أداة للترجيع والحنين واستعادة الأماكن المفقودة من دون أن يقطع كلياً مع موضوعاته الوطنية الأولى التي بدأت تبتعد عن التحريض والتفاؤل واعطاء الاجوبة مقتربة من الحسرة والتأبين ورثاء الماضي. تتصفى المجموعة الجديدة بالكامل من شبهات القول السياسي والقومي لتجد مواطئ لها في ما هو دافئ وشخصي وحميم. فالشاعر هنا ليس بين الجماعة ولا ساحرهم ولا حاديهم أو كاتب ملاحمهم بقدر ما هو صوت نفسه ومرآة ما ينعكس في عالمه الداخلي من رؤى ومشاهد وتمزقات. وقد تكون قصيدة "خيول من تراب" ذات الصلة الواضحة بالامام علي بن أبي طالب هي القصيدة الوحيدة التي تشي بأبعاد دينية وقومية وسياسية راهنة، ومع ذلك فإن الشاعر في هذه القصيدة يمشي بحذر وذكاء على الحبال الفاصلة بين الحاضر والماضي، بين الجسدي والروحي وبين التحريض المكشوف والصرخة المختنقة: "لم يبق من خيل لنا الا التراب/ لا سيف غيرك/ انا قطب للرحى/ صخر لتمكين الأساسِ/ الشمس تاجك والبروق رماح همِّك.../ ما الذي يحسوه عصفور من البحر الذي أصبحت؟/ والقطرات تكفي كي تبل الريق/ أو تكفي لكفكفة الدموع، وكي تواسي/. كما أن القصيدة الأكثر طولاً في المجموعة تحفل أيضاً بالكثير من خبرة ممدوح عدوان اللغوية والفنية ومن قدرته الفائقة على الحبكة والجدل والتصعيد الدرامي الذي يأخذ بالنفس الى نهاياته. وقد تكون الخاتمة التقريرية المباشرة التي أنهى بها الشاعر قصيدته هي الثغرة الأساسية في هذه القصيدة. فغالب الظن ان مقتضيات المناسبة أملت على الشاعر الخروج من التلميح الى التصريح عبر قفلته المنبرية الظاهرة: "قد تدلهم الحرب/ أنت أب وأم حينما تأتي الحروب/ ولسوف نقسم لن نضيع/ ما لنا أبداً جنوب". تكاد مجموعة "وعليك تتكئ الحياة" تنقسم الى سلالتين اثنتين من الكتابة الشعرية عند ممدوح عدوان. الأولى تعبق بنفس غنائي انشادي يعرف الشاعر منذ بداياته كيف يبني عمارته لبنة لبنة وكيف يولد بعضه من احشاء بعض ضمن حبكة شبه سردية لا يثقلها الانتقال من فكرة الى أخرى ولا تعوزها الرشاقة والقفز. والثانية تضم معظم القصائد وتنبني حول بؤرة واحدة محورها الاشياء والحالات والموجودات، وهي في وجه عام أميل الى القصر والتركيز وتكثيف اللغة. واذا كان النوع الأول من القصائد مألوفاً بكثرة لدى ممدوح عدوان ومكرراً في غير مجموعة من مجموعاته السابقة فإن النوع الثاني يكاد يكون محصوراً في المراحل الأخيرة من تجربته التي تحاول أن تنأى بنفسها عن النمطية والمماثلة. تندرج القصائد الثلاث "في حضرة من أخشى" و"خيول من تراب" و"وعليك تتكىء الحياة" ضمن السلالة الأولى التي اشتهر بها ممدوح وعمل على صوغها وتطويرها خلال الجزء الأكبر من مسيرته الشعرية. فالقصيدة هنا تقوم على عناصر متشابكة تتفاوت بين الاندفاع الغنائي والتوتر والتصعيد والزخم الوجداني والضرب على وتر القافية. غير أن هذه العناصر توظف في المجموعة الأخيرة توظيفاً جديداً يخلو من ربقة الايديولوجيا والمعاني السياسية الجاهزة ليدخل، وبخاصة في القصيدتين الأولى والأخيرة من المجموعة، في حوار حار ومرير مع الذات والآخر والزمن ويتحول في الكثير من الأماكن الى لمح انسانية بالغة التأثير. أولى القصيدتين تتمحور حول الطفولة التي كلما تدحرجنا عن ثلوجها باتجاه سفوح الموت تحولت الى يوتوبيا خالصة من حنين وحسرات. يظهر العمر في القصيدة على شكل شريط من الذكريات المرئية التي سرعان ما أخلت الطفولة فيها أماكنها للكهولة الزاحفة وتقهقرت الأحلام الوردية القديمة تحت ضربات العجز واليأس والسراب الخادع. أما المعركة التي طالما ظنها الشاعر مواجهة ضدية صافية بين الفقراء والاغنياء وبين الضحايا والجلادين فلم يتبق منها سوى اشلاء الجسد الخائر التي انتقلت الحروب هذه المرة الى ساحته بالذات: "تعبت من القتال/ ومن منازلة الخصوم/ وكلهم كمنوا بأعضائي/ فصار دمي هو المضمار/ والميدان من أرقي/ وأوجاعي سلاحي". أما في القصيدة التي تحمل المجموعة عنوانها فيصل التصعيد الوجداني الى ذروته حين يطلب الابن من الأب الطاعن في الوهن والعجز ان يموت بكرامة قبل أن يتحول الى اضحوكة للصغار والى كومة لحم زائدة. والقصيدة حمالة أوجه وقابلة لأكثر من تأويل لأن الدعوة الى موت الابن هنا لا تنحصر في الأب الحقيقي أو الفعلي بل تتعداه الى الأب الرمزي الذي يرزح فوق صدور الابناء جميعاً ويتمثل بمنظومة القيم والتقاليد والأعراف السائدة أو بالأنظمة السياسية العربية التي تتأبد هيمنتها الى ما لا نهاية. والقصيدة من بعض وجوهها تغوص في ابعاد فرويدية سيكولوجية حيث يصبح الحب والكراهية وجهين لعملة واحدة وحيث يصبح حضور الأب معيقاً حقيقياً لنمو الابن ونضجه وتحرير ارادته: "قد آن أن ترتاح/ لكن لم نقلها يا أبي/ مت كي نقول، وكلنا أسف/ خسرناه/ كي لا نقول أراح وارتاحا/ مت كي أراك/ أو مت لكي أكبر/ وتظل ملء البيت فواحاً". غير أن الالتباس الأكثر مأساوية في هذا السياق هو أن الشاعر في القصيدة قد يكون المخاطب بكسر الطاء بوصفه الابن الذي يخاطب أباه العجوز وقد يكون المخاطب بفتح الطاء بوصفه الأب المكتهل الذي يريد ابنه الفتي أن يحتفظ بصورته المثالية الزاهية من جهة وأن يتخلص من سطوته البطريركية من جهة أخرى. تحاول القصائد الأخرى في المجموعة أن تجد لها مكاناً أكثر خفوتاً وأقل احتفاء بالانشاد. والملاحظ ان معظم هذه القصائد تدور في مناخ مائي أو تنتسب الى طبيعة مائية بعكس القصائد الثلاث الأخرى ذات الجذر الترابي الواضح. يكفي أن نقرأ عناوين مثل "سمك في الماء" و"البحر" والغرق" و"موجة" و"صخرة" و"الحصى" وغيرها لكي نتأكد من هذه الفرضية. وهذه القصائد أميل الى القصر وأقرب الى التأمل المشهدي الذي تتصادى فيه الظواهر الطبيعية مع أحوال النفس ونزعاتها الشهوانية أو المأسية أو الجمالية. فالحصى في احدى القصائد "سبحة خيطها الذاكرة"، وفي قصيدة "صخرة" اسقاط شهواني محبب يقوم على مشهد العري والاحتجاب الذي تقوم به الصخرة عبر مد البحر وجزره. وفي قصيدة "الغرق" فانتازيا رؤيوية جمالية عن علاقة الجمال الانثوي بالموت. وفي "سمك في الماء" ايماء بالرمز والمجاز الى السعادة التي تلمع كالسمك في مياه العمر ثم تتلاشى الى غير رجعة. لكن القصائد - الحالات تلك لا توفق جميعها في التحايل على الفكرة أو مراوغتها بنجاح على الصعيد الفني. فأحياناً تقع بعض المقطوعات في فخ القول العادي والاخبار السردي السهل كما في قصيدة "عيني" التي لا ترقى الى لغة المجموعة ومناخاتها التأملية العميقة كقوله "أتمتم كلمة السر التي قد تفتح الأبواب /يا عيني/ واسمع صوتك المهموس يشدو اذ يناديني/ يجيب الحب: يا عيني" وغير ذلك من العبارات المستهلكة والشائعة. وفي "ليلة باردة" تتكرر الجمل الاسمية ذات الطابع الاخباري بشكل نمطي بارد كما أن فكرة القصيدة تقدم نفسها بشكل مباشر وعادي لا يتناسب مع مستوى المجموعة وابعادها الجمالية العالية. وهو ما ينسحب أيضاً على قصيدة "خيانة صامتة" ولو بشكل أقل وضوحاً وحدة. الا أن هذه الهنات الهينات لا تنقص من قيمة المجموعة ولا تمنعنا من اعتبارها احدى أفضل مجموعات الشاعر وأكثرها اقتراباً من روح الشعر وينبوعه. * شاعر لبناني.