اختبار جاهزية الاستجابة لأسلحة التدمير الشامل.. في التمرين السعودي - الأمريكي المشترك    الجمعية السعودية للإعاقة السمعية تنظم "أسبوع الأصم العربي"    الصحة العالمية: الربو يتسبب في وفاة 455 ألف إنسان    إشعار المراسم الملكية بحالات سحب الأوسمة    سحب لقب "معالي" من "الخونة" و"الفاسدين"    تحويل حليب الإبل إلى لبن وإنتاج زبد يستوقف زوار مهرجان الألبان والأغذية بالخرج    الذهب يتجه للانخفاض للأسبوع الثاني    أمطار متوسطة إلى غزيرة على معظم مناطق المملكة    "روشن 30".. الهلال في مواجهة التعاون والاتحاد أمام أبها    "ريمونتادا" مثيرة تمنح الرياض التعادل مع الفتح    محرز: هدفنا القادم الفوز على الهلال    بدء تحقيق مكافحة الإغراق ضد واردات "ستانلس ستيل"    ربط ميناء جدة ب "بورتسودان"    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية    المملكة: صعدنا هموم الدول الإسلامية للأمم المتحدة    "جوجل" تدعم منتجاتها بمفاتيح المرور    بدء إصدار تصاريح دخول العاصمة المقدسة إلكترونياً    " عرب نيوز" تحصد 3 جوائز للتميز    "تقويم التعليم"تعتمد 45 مؤسسة وبرنامجًا أكاديمياً    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    تزويد "شات جي بي تي" بالذاكرة    شراكة بين "البحر الأحمر" ونيوم لتسهيل حركة السياح    نائب وزير الخارجية يلتقي نائب وزير خارجية أذربيجان    أحدهما انضم للقاعدة والآخر ارتكب أفعالاً مجرمة.. القتل لإرهابيين خانا الوطن    «التجارة» ترصد 67 مخالفة يومياً في الأسواق    وزير الطاقة: 14 مليار دولار حجم الاستثمارات بين السعودية وأوزبكستان    سعودية من «التلعثم» إلى الأفضل في مسابقة آبل العالمية    «الاحتفال الاستفزازي»    فصول ما فيها أحد!    وفيات وجلطات وتلف أدمغة.. لعنة لقاح «أسترازينيكا» تهزّ العالم !    ب 3 خطوات تقضي على النمل في المنزل    في دور نصف نهائي كأس وزارة الرياضة لكرة السلة .. الهلال يتفوق على النصر    انطلاق ميدياثون الحج والعمرة بمكتبة الملك فهد الوطنية    لجنة شورية تجتمع مع عضو و رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الألماني    الخريجي يشارك في الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية للدورة 15 لمؤتمر القمة الإسلامي    136 محطة تسجل هطول الأمطار في 11 منطقة بالمملكة    شَرَف المتسترين في خطر !    الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    مقتل 48 شخصاً إثر انهيار طريق سريع في جنوب الصين    تشيلسي يهزم توتنهام ليقلص آماله بالتأهل لدوري الأبطال    تعددت الأوساط والرقص واحد    ليفركوزن يسقط روما بعقر داره ويقترب من نهائي الدوري الأوروبي    كيفية «حلب» الحبيب !    كيف تصبح مفكراً في سبع دقائق؟    يهود لا يعترفون بإسرائيل !    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية ويشهد تخريج الدفعة (103)    قصة القضاء والقدر    من المريض إلى المراجع    أمير جازان يطلق إشارة صيد سمك الحريد بجزيرة فرسان    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    مركز «911» يتلقى (2.635.361) اتصالاً خلال شهر أبريل من عام 2024    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ    مباحثات سعودية فرنسية لتوطين التقنيات الدفاعية    المنتخب السعودي للرياضيات يحصد 6 جوائز عالمية في أولمبياد البلقان للرياضيات 2024    مبادرة لرعاية المواهب الشابة وتعزيز صناعة السينما المحلية    الوسط الثقافي ينعي د.الصمعان    ما أصبر هؤلاء    هكذا تكون التربية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حدود الخصوصية السهلة ومدى قدرة الوعي الكوني على تقديم الاجابات
نشر في الحياة يوم 13 - 04 - 2000

يُعد فريد هاليداي احد القلة الذين يسبحون ضد تيار الخصوصيات والنسبيات الثقافية والجوهريات على انواعها. فبعد كتابه ذي العنوان الدالّ "خرافة المواجهة بين الاسلام والغرب"، يجيء كتابه الجديد "الأمة والدين في الشرق الأوسط" دار الساقي، بالانكليزية والعربية ليستأنف الهجوم المضاد نفسه. فهذا الهمّ مبثوث في كل صفحات الكتاب، مرة مباشرة ومرة مداورة، علماً بأن فصوله كُتبت في مراحل متفاوتة واتخذت هيئة اجناس كتابية عدة: من التحليل الى الريبورتاج الصحافي والوصفي.
فعلى الضد ممن يدرسون المنطقة بمفردات الهويات، يسعى هاليداي الى تبيين ان القومي او الديني خاضعان هما نفسهما للتغيير، خضوعهما لتعدد التأويلات. كذلك يستوقفه تأثير العوامل الخارجية، من دون ان تعني التناحر الازلي بين طرفيها، كما يستوقفه تأثير الترابط مع الماضي الكولونيالي وظروف تشكّل الدول، من دون الوقوع في تفسير كل التطورات بالاحالة الى الامبريالية. وذهاباً معه في تحدي فكرة الجوهرية، يبحث الكاتب عن الامكنة الاخرى التي تشهد صراعات مشابهة، كبلده ايرلندا، رافضاً نفي امكانية القيام بمسعى فكري كوني جامع. ذاك ان ثمة دائما فضاء سياسيا مشتركا هو نتاج انسانية مشتركة وانتماء مشترك الى نظام اقتصادي وسياسي عالمي انجبته الحداثة.
وهو يبدأ بالتصدي لمن يسمّيهم اتباع مدرسة "امتناع الهيمنة" في "الغرب" ممن يرون ان ثمة حدودا لما يمكن ان تعتمده المجتمعات من ادوات ومناهج وخلاصات تم تجريبها في "الغرب". فالفكرة التي ترى ان الحقوق او المُثل ليست قابلة للتطبيق الا على "الغرب"، كانت شائعة في التفكير الكولونيالي للقرن التاسع عشر، مخلوطة بأفكار الداروينية الاجتماعية. واعتناق هانتنغتون وغيره هذا الموقف انما ينتمي الى صنف غير ليبرالي من التفكير. فحينما يأخذ بعض ابناء "العالم الثالث" بهذه الافكار، في معرض رفضهم "الغرب"، يكون موقفهم مشبوهاً، لا يخفف من ذلك طابعه المناهض للامبريالية.
وهذا سرّ الود العميق القائم، ولو اتخذ طابع المساجلة والمهاترة، بين هانتنغتون والاسلاميين، اذ يقول لهم ما يحبون سماعه. لكن التقارب هذا يملك وظائف خطرة اخرى منها اعفاء الدول الغربية والمؤسسات والمعاهد فيها من الاهتمام بحقوق الانسان في "العالم الثالث"، ومنها اعطاء مبررات للانظمة المستبدة في "العالم الثالث" كي لا تعبأ بحقوق الانسان لديها لأن هذا شأن "غربي"! وفي نطاق اضيق يمكن، عملا بنظرية جون راولز عن علاقة المجتمعات الليبرالية بالمجتمعات غير الليبرالية، أن يقتصر ما هو مطلوب من الاولى حيال الثانية على "الاحترام"، بما يعنيه "الاحترام" من غض النظر عن كل ما يجري فيها، وعن المرجعيات الروحية والاخلاقية التي "اختارتها" لنفسها. لكن اذا اعتمدنا حالة الصين مثلاً، كيف لنا ان نقبل أن ما يقوله النظام عن "القيم" هو فعلاً القيم الصينية التي يقول بها الشعب؟ وكيف لنا ان نغض الطرف، في حالة ختان الاناث مثلا، عن اعادة انتاج مثل هذا "الاجماع" وتصنيعه من خلال الضغط الاجتماعي والايديولوجي؟
ف"اختيار" المرجعيات، اذن، ليس عملاً فوق النقد والشك. فهذا الاختيار ربما أملته السلطة، بصورة او اخرى، لاسباغ الشرعية على سلوكها. فكيف وأن المعايير التي يضعها راولز لليبرالية تحرم كل دول الشرق الاوسط المعاصر من ان تحظى ب"الاعتبار" في المجتمع الدولي؟ وكيف يجيز لنفسه الوعي الليبرالي الذي يرتبط تعريفاً بالفردية، أن ينكر حق فرد "العالم الثالث" في رفض ما يُقدّم اليه على أنه "تقليد" عريق؟
اما قضية التميز وافتراض الثقافات والاديان والمجتمعات كياناتٍ ناجزة كلية الاكتفاء والمغايرة، فنموذج كاذب. فالمجتمعات/ الأمم اليوم انبثقت من انهيار كيانات اسبق واكبر بما ادى الى انفصام الاواصر فوق القومية، كما انها تتشكّل باكتساب افكار وتيارات وسكان وتكنولوجيات دولية، وباستخدام هذا كله لاغراضها. فحين تدعي دولة من الدول المتانة لنفسها ورموزها، تكون تبالغ في اضفاء الخصوصية على ما هو عام جداً، كما تبالغ في مدّ التاريخ على حقبة هي في آخر المطاف صغيرة وقصيرة. واستخدام الدين لتمتين الدولة لا يبدو مفارقا كما في الشرق الاوسط: فما من دولة لديها حياة دينية محددة بحدودها، وهذا التفاعل الواسع الانتشار غالبا ما يكتسب شكل التأثّر والتأثير، فضلا عن استحالة الكلام عن تأويل واحد "صحيح" للدين أياً كان.
ويكاد هاليداي ان يقول ان الظاهرات التي نلقاها في "العالم الثالث" هي قفا ظاهرات المجتمع الغربي الراهن. فالشيئان نشآ كجزء من نظام الدولة الحديث ومن تاريخه المشترك الذي اوجد الليبرالي واللاليبرالي على السواء، ما يجعل دول النمطين مرتبطة تاريخيا واخلاقيا واحدتها بالاخرى.
وهذا لا يجري بطريق مستقيمة. فاذا كان الطابع العابر للقومية لا يني يتأكد، الا ان الوجهة هذه تتجسد في شكلين مختلفين: الممانعة الثقافية والاقرار بالتداخل الاقتصادي. وكم هو لافت ان الدول الشيوعية السابقة التي خرجت عن هيمنة موسكو، بكثير من الضجيج القومي والديني أحياناً، كان يحفزها تأمين موقع افضل لها في الاقتصاد العالمي.
ما يبقى ان الرواية القومية المسحوبة على التاريخ لا تقل خطلاً عن باقي تجلياتها. فالصراع الذي صوّره صدام والخميني صراعا ابديا بين بلديهما، مضلل: لأن الشعبين خلال شطر كبير من التاريخ اختلطا وتفاعلا في التجارة والدين، كما ان العداوات الاخيرة وليدة سياسات وصور اشاعتها نخب ثورية ذات اصول حديثة جدا. فالعداوات الحية لا تنشئها الكيانات السابقة على التاريخ الحديث بقدر ما تنشئها الدول التي تصوغ القومية ثم تغرسها في اجيال متعاقبة، عبر الكتاب المدرسي والاختلاط الاجتماعي والطقوس وتحية العلم والخدمة العسكرية. الا ان هذه الدولة حين تسيطر عليها نخبة متعصّبة، تميل الى الانتقائية والاختيار في بناء التراث: هكذا سعت البهلوية الايرانية المعادية للعرب، لدى شخص كأحمد كسروي، الى رفض الحقبة العربية الاسلامية بوصفها فترة انحطاط، بينما اكدت افكار ساطع الحصري وميشيل عفلق على مسؤولية "الشعوبيين" عن كل تردٍ اصاب العرب. وبدورهم رفض الكماليون الاتراك فساد الفترة العثمانية لاختلاط عناصرها ناسبين الكثير من الامجاد الى الحثيين.
في مناخ الافكار هذه أميط اللثام عن ان الكتابة والمفردات الايرانية، لا سيما في ما خص الدين، كلها عربية. واذا غامر المرء بدخول مضمار الخصائص العرقية الصعب والخلافي، بدت له الوجوه والخصائص البدنية ولغة الجسد في طهران واصفهان غير مختلفة عنها في بغداد والبصرة. كذلك لا يفوتنا ان العراق عاش طوال قرون مشرعا على التأثيرات الايرانية، لا سيما ابان الحقبة العباسية المتأثرة بالفرس. فثقافة سكانه الناطقين بالعربية هي ذاتها تعكس التأثر الايراني. وما على واحدنا الا ان يستمع الى اللهجة العراقية المحكية، او ينظر الى قباب المساجد الزرقاء في مدن العراق ليرى قوة هذا التأثير. وهذا من دون اغفال الوزن الشيعي بين سكان العراق، فضلا عن الوزن الكردي فيما الاكراد ينتمون الى الدائرة الثقافية الايرانية من حيث اللغة والثقافة.
كذلك لم يهبط التراث من سماء الخصوصية الصافية، اذ كانت انتكاسات الحداثة هي التي تستحضره كما تزيده توترا ورجعية. ففي مصر مثلا يمكن تعيين تعاظم الاهتمام به بصدمة 1967. ذاك ان البحث عن الجذور نمطي في بدئيته، الا انه يمتثل للطراز الحديث. وبالقدر نفسه يتم توظيف اللغة وتشكيلها لتلبية حاجات حديثة، فتُنحت كلمات للأمة والدولة والجمهورية والثورة، كما يجري احياء مصطلحات اقدم لحاجات راهنة. لكن الخدعة هنا ان هذه المصطلحات - المفاهيم انما هي جزء من سياسة كونية حديثة تجد تجسيداتها في ما لا يُحصى من هيئات ومؤسسات دولية.
اكثر من هذا، فان نفي الكونية هو نفسه رد فعل كوني. فهذه الحصرية البريئة ظاهراً تستخدم حصريتها لانكار دعوى الشعوب التي ليست لها دول مستقلة في الحصول عليها، او لنزع الشرعية عن الطرف الخصم. وتواريخ الاكراد والفلسطينيين والاسرائيليين والاتراك، في مقابل بعضها، توفّر امثلة ساطعة على ميول النفي هذه.
وقد يميل الدينيون في اندفاعتهم القومية الى التوكيد على الطابع الديني المتجاوز للقومية والدولة. لكن سريعاً ما يتبين ان هذه لا تعدو كونها اضافة وربحاً خالصاً الى الدعوة القومية وبناء دولتها. فاذا كانت الثورة الايرانية ترفض القومية بوصفها ايديولوجيا علمانية وغريبة، الا ان اي تدقيق في ما قاله الخميني وفعله، قبل وصوله الى السلطة وبعده، يُظهر برنامجه برنامجا قوميا مألوفا. ولئن دعمت ايران شيعة لبنان ضد اسرائيل، الا انها دعمت ارمينيا المسيحية ضد اذربيجان الشيعية، واستأنفت رعاية مصالحها مع الهند الهندوسية دون ان يردعها عن ذلك مسلمو كشمير. ومن موقع غير اسلامي تنقّل المصريون كثيراً في تحديد هويتهم، ما بين مصري وعربي واسلامي حسب حاجة الدولة او ما يتصورونه ذلك. وحين اراد عبدالناصر ضم سورية اكد على "العربي"، وحين اراد السادات مصالحة اسرائىل اكد على "المصري".
وفي المقابل فقضية تعدد الهويات ليست خاصة بالمنطقة، اذ لدى كل فرد بريطاني انتماءان: واحد لوطنيته انكلترا، ويلز، اسكتلندا وآخر لبريطانيا. واذا عاش الالمان التباسا تاريخيا مديدا حول تعريف هويتهم، فان الفرنسيين والطليان والاسبان كبتوا الهويات التي تُعتبر ادنى من رابطة الوطن.
وهكذا كله معطوفا على تبايُن معاني الاصولية الاسلامية نفسها، وعلى تعدد صيغها، وهو ما لا يمكن الا ان يذكّرنا بسجال الستينات حول ما اذا كان الاسلام اشتراكيا ام محافظا، ولو ان مساجلي الأمس اختلفوا عن مساجلي يومنا هذا. فاذا بدا واضحاً ان نظرية "تصدير الثورة" اصطدمت فعلا بالحدود الوطنية لايران والعراق، على ما حصل لثورات اخرى كثيرة في السابق راهنت على توسيع نطاق دولها، فان ملامح الثورة الايرانية المبكرة، اي منذ 1979، كشفت عن ميول فاشية ومعادية للشيوعية لا أثر فيها لأية خصوصية جوهرية او حصرية.
وحتى نشأة اسرائيل بما هي العنصر الاكثر خصوصية في المنطقة، ليست خصوصية: فكونها كيانا استيطانيا او كيان مهاجرين أمر يصح على سائر امم الأميركتين واستراليا وسنغافورة. وعلى المدى البعيد ربما خُلقت كل الامم في العالم من خلال هجرة من هذا النوع او ذاك.
اما المواقع السياسية التقليدية والمحافظة فبدورها لا تعدم شبهاً بمثلاء لها في سائر العالم. فنشوء الدولة المغربية مثلا يحمل أوجه شبه مع انظمة ملكية "عالمثالثية" اخرى قامت في بلدان غير كولونيالية كنيبال وتايلاندا. فهاتان الدولتان الآسيويتان، رغم تميّزهما بعدم الوقوع في السيطرة الاستعمارية، تولى فيهما الدين الهندوسية والبوذية على التوالي توفير الشرعية لاوتوقراطيات عاشت بفضل تحالفات منسوجة مع القوات المسلحة كما بفضل الدعم الخارجي. وبالمعنى نفسه يمكن العثور على اوجه شبه بين بعض الامارات الخليجية وبين سلطنة بروناي.
ورفض الخصوصية يسري على نشأة الحركات القومية واليسارية التي زعمت لنفسها تاريخاً مصدره في الايديولوجيا الصوابية وحدها. فالحدّة التي عُرف بها يساريو اليمن، مثلاً، لم تكن بمنأى عن مشاعر ومخاوف يمنية قديمة تبلورت في مناخ الحرب الاهلية التي عاشها الشمال في الستينات. ففشل القوات المصرية في محاربة الاماميين هو ما مهّد الطريق للأخذ بنظرية "سقوط البورجوازية الصغيرة" في نسختها اليمنية. وهذه العلاقة القلقة بالقومية العربية تتبدى واضحة في وثائق الحركة القومية في الجنوب. ففي الوثيقة التأسيسية للجبهة القومية للعام 1965 يشار الى العرب على انهم "الشعب" الذي ينتمي اليه اليمنيون، لكن بحلول السبعينات، ومع بناء الدولة حول سلطة المجموعة نفسها، اصبح اليمنيون هم "الشعب" والعرب هم "الأمة" بمعنى فضفاض. ثم اذا ظل اليمن الجنوبي حتى صدور الدستور في 1970 "اقليما" من اقاليم العالم العربي، فانه صار هو "الوطن" بحلول 1978.
لا بل ان "الوحدة اليمنية" نفسها لم تنج من هذا التوظيف: فهي كانت في الخمسينات وسيلة الامامية لتسويق دعواها الأسرية بحق النفوذ على الجنوب الذي كان خاضعا للاحتلال البريطاني. وبعد ثورة 1962 استخدمتها حكومة صنعاء لتعزيز شرعيتها الداخلية وتمتين اللحمة في وجه الحصار وكسب تأييد السكان، فضلاً عن إفعامهم بحس القضية. وبعد قيام دولتين في 1967 صارت الوحدة اداة في علاقات غلب عليها التنافس بين النظامين، فعمل كل واحد منهما على استغلالها في الضغط على الآخر. وفي هذا السياق دعم كل منهما معارضة البلد الآخر، كما نشبت بينهما حربا 1972 و1979. وملأ كل من النظامين الوحدةَ بالمضمون الذي يناسبه: فأكد الجنوبيون الماركسيون طويلا على انها "وحدة الكادحين" وانها "تقدمية معادية للرجعية والاستعمار"، وتمسك الشماليون، الاقوى والاكبر، بحِكَم عامة عن لمّ الشمل والتغلب على البعثرة والتشتت.
وظلت هذه الأداتية الوظيفية مركزية ابان الوحدة وما شهدها طورها الاول من نزاعات حول كيفية بناء الدولة، الى أن كانت الحرب وكُتب الانتصار العسكري لأحد الطرفين.
وما يصح في "خصوصية" الوحدات والثورات يصح في "خصوصية" الارهاب، مع ان الاولى اختصاص مزدهر في "العالم الثالث"، والثانية مهنة معروفة في "الغرب". فالى جانب الارهاب من فوق، وهو الذي تلجأ اليه السلطات، يمكن تقسيم الارهاب من تحت الى ثلاث مراحل تشاركت فيها جميعاً شعوب الارض قاطبة: فهناك ما قبل الارهاب، او اعمال الاغتيال السابقة على العبوات الناسفة، كما سادت حتى نهاية القرن الثامن عشر.
وهو ما مارسه "زيلوتيو فلسطين" من اليهود القدامى كما مارسه الحشاشون، وعُرف في روما واليونان القديمة. ثم كان ارهاب القرن التاسع عشر، وهو ارهاب راديكالي ارتبط باعمال العنف الاوروبية والاميركية الشمالية لا سيما على ايدي الفوضويين فالقوميين. والفترة الثالثة هي الممتدة منذ الحرب الثانية وانطوت على اعمال يقوم بها اليسار العلماني والحركات القومية والاصوليون الدينيون. وهذه القوى موجودة، او انها وجدت، في اليابان والمانيا والولايات المتحدة مثلما وجدت في العالمين العربي والاسلامي وفي اسرائيل.
اما تنميط الاسلام بصفته "ارهابياً" فتساعد عليه اعمال جماعات ك"الجماعة الاسلامية المسلحة" في الجزائر التي تدعو الى استخدام العنف عشوائيا ضد كل من يتعاون مع النظام "المرتد". لكن المسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية عرفت كلها حركات ارهابية. وفي ايرلندا الشمالية وُجد كاثوليك وبروتستانت يستحضرون الدين لتبرير جرائمهم. اما في الدولة العبرية فزعم باروخ غولدشتاين انه، بجريمته في الخليل، ينفذ عمل الله، كما تصاعد في الهند استخدام العنف الشوفيني الهندوسي ضد المسلمين والمسيحيين. واذا كان من العبث البحث عن اسباب العنف، ناهيك عن شرعيته، في نصوص اي دين من الاديان او في تقاليده، فان مماهاة الاسلام مع الارهاب هو ما يوظّف غالباً لنزع الشرعية عن حركات ومطالب سياسية بعينها. ويبقى في النهاية وأياً ما كان القياس المعتمد، أن اكثر ما يدعو الى القلق ليس عمليات الخطف والتفجير واحتلال السفارات على خطورتها وبشاعتها، بل تنامي الارهاب في اوضاع النزاعات الاهلية وفي حالات البلدان المنقسمة.
ولئن كان اي افق عصري وانساني يملي التمييز بين المحاربين وغير المحاربين، بين من قد يكونون هدفا لعنف مشروع ومن لا يجوز ان يكونوا، فان النظرة الكونية هي وحدها التي تملك هذا الافق: فهي وحدها التي ترفض النظر الى الحروب كمنازعات بين خصوصيات ناجزة وتامة جوهريا لا مكان داخلها للتفاوت والخلاف.
ويمكن سحب تحليل هاليداي الرافض للخصوصية على نظرية المؤامرة، حيث يُخيّل لمن يتابع الادبيات العربية اننا، دون سائر اهل الارض، معرّضون لها. والمثل هنا هو النزاع العراقي - الايراني الذي لم يتسبب به التدخل الخارجي او الاعتبارات الجيو سياسية بقدر ما تسببت السياسات الداخلية للبلدين المعنيين، بما في ذلك عدم اكتراث اي منهما بتطوير معرفة جدية بالآخر وثقافته. فالتدخل الامبريالي لا يساعد التحليل اكثر مما يساعده تعادي الاجداد في سالف الزمان.
فالمهم في آخر المطاف ان يتركز النظر على تكوين الدول ومصالحها وعلى مناهج التعليم وتركيب القوات المسلحة وسياسات التسلح وادبيات القوميين وحال الطباعة والاعلام، اكثر مما على الفرس والمجوس والسنة والشيعة والعثمانيين والصفويين، مع ابقاء خانة "الخلفية" لهذه العناصر والاعتبارات الاخيرة.
وفي هذا المعنى لا تصح التحليلات، سواء صدرت عن الغربيين او عن الاسلاميين، حول التحدي الاستراتيجي الذي يشكله الاسلام للغرب، بعد افول التحدي الشيوعي. وذاك لأسباب ليس اقلها ضعف الوضع الاقتصادي للبلدان التي يُفترض انها مصدر هذا التحدي. وهذا فضلا عن ان تلك البلدان غير قادرة اصلا على ابداء تحد منسّق، ناهيك عن اعادة رسم الحدود القائمة. ولذا فالسؤال المطروح على المسلمين ليس تهديد الخارج، بل توفير حل للمشاكل التي تواجهها المجتمعات الاسلامية اليوم. وبالطبع، وفي ما خص المثقفين، فان القليل من النفع هو ما تجنيه ادانة التنوير او البحث عن طرق "خاصة" تجد ما يدغدغها في بغض الدعوات الغربية الى النسبية الثقافية وما بعد الحداثة في نسخها المتطرفة.
وتفسير هاليداي انما يطل على طريقة في التفكير بالسياسة الخارجية ومسائل التدخل: فالقضية ليست النظر الى كل تدخل اميركي على انه سلبي بشكل مؤصّل، ومن ثم شجب كل المعايير الدولية للحقوق بوصفها معايير امبريالية، او متمركزة حول الذات الغربية. بل القضية هي الزام الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين بالمبادىء الكونية التي يعلنونها في اماكن اخرى، من دون التزامها دائماً.
ويمكن الاتفاق مع 95 في المئة مما يقوله المؤلف الا أن ال5 في المئة الباقية ليست قليلة الجدوى. فاذا صحّت حجته المركزية وهي ان النزعات القومية وسائر الايديولوجيات الرسمية في النزاع القومي "التاريخي" نتاجات حديثة، ووليدة العمليات الفكرية والاجتماعية التي ظهرت خلال القرنين الماضيين، خصوصا ظهور اشكال حديثة من الاتصال ومن الدولة، يبقى من المهم التوقف قليلا عند فعل الزمن ودرجة التعوّد على الامة - الدولة طالما انها المحور والناظم. وهنا تستدعي هذه الحلقة السوسيولوجية والثقافية الوسيطة بعض الاكتراث، فلا نقع في انقاص المحلي سعياً وراء كونية ربما بدت بريئة قليلاً وأضعف من أن تتصدى للذين لا يتعبون من ضخّ أفكار الجوهرية الحتمية.
* كاتب ومعلّق لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.