دمشق مدينة عصية على البوح للزائر العادي، والمقيم اللامبالي، فهي تخبىء في أروقتها الكثير من المفاتن والجماليات والحرف النادرة. غير أنها لا تمنحها هكذا من دون عناء، بل تخبئها لمن يمتلك عيناً ثالثة، ففي زقاق ضيق في دمشق القديمة، يفصله عن قلعتها أحد فروع نهر بردى، يستوقفك ضجيج المطارق، ورنين المعادن، فتلفت جهة الصوت لترى عمالاً بثياب العمل منهمكين في عملٍ مضنٍ وشاق، الأمر الذي يثير فضولك للاقتراب وطرح الأسئلة. وبحثاً عن اللامألوف - ان صح التعبير - أو الظاهرة النادرة، لا بدّ من دخول تلك الأزقة، واكتشاف أن هناك حرفة في دمشق تسمى الطّرق على النحاس أو صناعة النحاسيات الشرقية، وهي تبدع قطعاً جميلة. وهذه القطع تجدها في سوق الحميدية أحد الأسواق القديمة في دمشق منسّقة ومرتّبة بصمت وذات بريق أخاذ، ولا تشك مطلقاً أن خلف هذا البريق وذاك الصمت كل هذا الضجيج الذي يصم الآذان، ويرهق العامل، ولعل في ذلك يكمن السر فكثيراً ما نتحدث عن الهدوء الذي يسبق العاصفة، ولا ننتبه للهدوء النقي والشفيف الذي يليها، فهنا وباختصار يصح القول، ان خلف الجمال الغافي في واجهات المحال، ترقد الأزقة الحافلة ب"الصخب والعنف". لقد استعمل الإنسان النحاس منذ القديم، فكان يصنع منه الأواني والأدوات المنزلية، وأحياناً بعض الأسلحة التقليدية ليدافع بها عن نفسه. ثم دخل هذا المعدن في صناعة الحلي، وصك النقود. وتؤكد المكتشفات الأثرية الحديثة الاستخدام الكثيف للنحاس لما يتمتع به من خصائص لا تتوفر - غالباً - في المعادن الأخرى. فهو معدن صلب، ويقاوم العوامل الطبيعية، وغير قابل للصدأ كالحديد مثلاً، ولا يتآكل مع الزمن، كما أن لونه المائل الى الاصفرار حيناً والاحمرار حيناً آخر يكسبه جمالية خاصة، وكل هذه الخصائص جعلته يحافظ على أهميته بين المعادن وجعلت أنظار الصنّاع تتوجه اليه ليبدعوا منه أشكالاً جميلة، ومختلفة تناسب العصور والأذواق في شتى المراحل. يقول حسين المصري صاحب محل لصناعة النحاسيات منذ عام 1950 عن مصدر المادة: "نجلب معدن النحاس من المعامل في مدينة حلب، وهناك نوع آخر خالٍ من الشوائب، يستورده التجار من أوروبا، فنشتريه منهم". وعن صناعته يوضح المصري: "نقوم بقص ألواح النحاس وفق المقاسات المطلوبة، والملائمة للقطعة التي سنقوم بتصنيعها، ثم نلفها آلياً، وبعد ذلك نقوم بعملية "الشق السني" في أحد الطرفين، ويتم تطبيق الطرفين بعضهما على بعض، وتلحيمها بلحام أوكسجين. وكي نزيل آثار التلحيم نقوم بتنعيمها وترقيقها كي لا يبقى نافراً، فتصبح قطعة واحدة متجانسة بعد تجليسها. وبعد الحصول على الشكل المطلوب ننقشه نقشاً يدوياً بالأزميل أو ما يسمى - في عرف هذه الحرفة - بالأقلام وهي ذات أشكال متعددة، وكل شكل لدى استعماله للنقش تنتج عنه رسوم مختلفة عن الشكل الآخر. فهناك "قلم الترميلة، قلم التنفير، قلم الظفر... الخ، وأحياناً تتم عملية النقش بشكل آلي". ويضيف المصري: "ثم يتم تلميع القطعة بالقصدير وغالباً من الأدوات التي تستخدم للاستعمال المنزلي كالأواني والقدر والحلل جمع حلة، أو بالنكل وماء الذهب في لقطع الأخرى التي تستعمل للزينة وما شابه". أما أحمد فتينة - الذي ورث المهنة عن والده - فيقول ان معدن النحاس تصنع منه أدوات كثيرة، وقطع متعددة، نكاد لا نستطيع حصرها ومنها على سبيل المثال: "سماور شاي للمقاهي، صواني حلويات لمحال بيع الحلويات، جرات فول، هلال المساجد، صبابات قهوة، ثريات، أحواض ورد، مناسف، فناجين، أباريق، طناجر، سيوف زينة، صواني للضيافة، اضافة إلى أشكال مستطيلة أو دائرية وتنقش عليها آيات قرآنية كريمة أو أحاديث نبوية شريفة... وغير ذلك الكثير مما يغيب عن الذاكرة". ويرى زهير أبو التوت، صاحب محل لصناعة النحاسيات، ان الأدوات النحاسية قلّ استعمالها في المدن بعد ظهور "التيفال، والألمنيوم، والستانلس ستيل" على عكس الريف الذي لا يزال يعتمد على هذه الصناعة كالقدور والمواعين والطناجر والمناسف،.كما أن المطاعم والمقاهي وبعض المحال الأخرى لا تزال بحاجة الى الصناعات النحاسية، فتعتمد على بعض تلك الأدوات الضرورية في عملها. واشتكى أصحاب الحرفة من أرباحها القليلة نظراً الى الجهد والوقت المستهلكين في صناعتها، الأمر الذي يجعل لسان حالهم يقول: "كثير من التعب، قليل من الربح". ومع ذلك فإن بضاعتهم تحظى بالرواج بين أفواج السياح الأجانب إذ يجدون فيها عبق التاريخ، ومهارة الإنسان ولمساته الإبداعية الجميلة، فهذه الحرفة تتشابه كثيراً مع عمل النحات الذي يبدع مجسّمات فنية مبدعة، ويقال بأنه كلما استطاع النحات أن يخفي آثار ازميله من العمل الفني كأن يزيل أي أثر للجهد المضني الذي بذله، كلما كان ذاك العمل ناجحاً، وكذلك الحال بالنسبة لمهنة الطرق على النحاس. فلا غرابة إذاً أن يقول أصحابها: "على الرغم من الإرهاق والضجيج والتعب، فإن العلامة المضيئة في مهنتنا هي تلك التجليات الإبداعية التي ننقشها على القطعة لتصبح - اضافة الى استعمالاتها - متعة للناظرين اليها". وقد دخلت الآلة في السنوات الأخيرة الى هذه الصناعة - شأنها شأن الكثير من الصناعات الأخرى - فاختصرت الوقت، وسهّلت العمل. لكن الإنسان الذي يعمل بصبرٍ وأناة وشغف، قادر أن يسبغ على القطعة شيئاً من روحه ورؤيته وذوقه. وهو لا ينحني أمام قطعة نحاسية متلهفاً إلا ليبدع منها شكلاً ينطق في دفء البيوت ببصمة حرفي يبحث - أبداً - عن الجمال