نجحت مفاوضات واشنطن... فشلت مفاوضات واشنطن، كيف نجحت، وكيف فشلت، لا أحد يدري. ما هو مقياس النجاح، وما هو مقياس الفشل، لا أحد يدري. هذا إذا أردنا أن نتابع الأنباء يوماً بيوم، من دون أن نبحث عن خلفياتها. أما إذا أردنا أن نبحث عن الخلفيات، وان ندقق فيها، فإن الألغاز ستحل فوراً، وعند حلها نكتشف أن ما يجري في واشنطن ليس مفاوضات، بل فضيحة سياسية يقودها ويخرجها ويهلل لها رئيس أكبر دولة عظمى في العالم، فهذا الرئيس يريد حل أعقد قضية سياسية شغلت العالم ولا تزال منذ اثنين وخمسين عاماً، خلال أيام وعلى أنغام اللعبة السياسية الإسرائيلية الداخلية واليومية، ضارباً بعرض الحائط، بالمنطق، وبالشرعية الدولية، وبسمعة دولته ومصالحها، وبمصير الملايين من الشعب الفلسطيني، وبمواقف ومشاعر العرب والمسلمين جميعاً. فإذا جاءت الأنباء من تل أبيب ان اتفاق سلام مع الفلسطينيين، ينقذ حليفه ايهود باراك، ويؤمن له النجاح في الانتخابات، يدفع ويضغط باتجاه انجاحها. وإذا جاءت من تل أبيب أنباء أخرى مناقضة، تقول إن ايهود باراك سيخسر الانتخابات لأنه تنازل كثيراً !! في المفاوضات، يدفع باتجاه افشالها. وهكذا يضيع المنطق، ويضيع القانون، وتضيع مصالح الشعوب، لأن رئيس أكبر دولة عظمى سيغادر القصر الكبير بعد أيام، وهو لذلك لا يهتم إلا بمصالحه وصورته التاريخية. لقد رددت الصحافة الإسرائيلية طويلاً ان باراك لن ينجح في الانتخابات إلا إذا أنجز تسوية مع الفلسطينيين، وهنا تحرك كلينتون، واستدعى الجميع على عجل، واقترح وضغط وعمل كل ما لا يعمل من أجل انجاز الاتفاق الموعود. ولكن ما أن جاءت استطلاعات رأي جديدة، تقول إن باراك سيخسر أمام شارون في كل الأحوال، وبخاصة إذا تنازل أمام مطالب الفلسطينيين، حتى تحول الجو كله، وتراجع الإسرائيليون عن عروضهم المأخوذة من حقوق الآخرين، وصدرت التعليمات لمادلين أولبرايت كي لا تترأس اجتماعات التفاوض، ووصل الأمر إلى حد احتمال التشابك بالأيدي، وهنا سيكتفي الرئيس الأعظم بالقول المألوف: لقد بذلنا كل جهدنا، ولكن الاتفاق مرهون برضى الطرفين. إن الرئيس الأميركي الأعظم يرفض حتى الآن أن يتفوه بالكلمة السحرية التي تقول بأن مرجعية المفاوضات هي قرارات الشرعية الدولية، ولأنه لا يفعل ذلك فإن اقتراحاته كلها، تبدأ متفائلة وتنتهي بالفشل والتشاؤم. فهو يبدأ بالحديث عن سيادة فلسطينية على القدس، ثم يوافق على أن القدس هي غير القدس، وتصبح القدس ما رسمه الإسرائيليون لها من مساحات خارقة لا يقبل الفلسطينيون بها، وهي مساحات تستلب الضفة الغربية باسم ضم المستوطنات، أو التعديلات "الطفيفة" على حدود 1967. وهذه التعديلات الطفيفة جريمة أخرى. إنهم يعرضون على الفلسطينيين تبادل أراضٍ، فيأخذ الإسرائيليون الأراضي المحيطة بالقدس، ويتنازلون عن منطقة في جنوبغزة يسمونها "حلوتسا" وهي بالعربية "خلوصة"، وهي منطقة كثبان رملية، لا تصلح للعيش أصلاً، وبالإضافة إلى ذلك، فقد دفنت إسرائيل فيها نفاياتها النووية، فهل هناك فضيحة سياسية أكبر من ذلك، فضيحة سياسية يمارسها رئيس سيغادر قصره بعد أيام؟