المؤسسات تغطي كافة أسهم أرامكو المطروحة للاكتتاب    أمير تبوك يعتمد الفائزين بجائزة المزرعة النموذجية    السعودية و8 دول: تمديد تخفيضات إنتاج النفط حتى نهاية 2025    الطائرة ال51 السعودية تصل العريش لإغاثة الشعب الفلسطيني    عثروا على جثة امرأة في فم تمساح    اكتمال عناصر الأخضر قبل مواجهة باكستان    الخريجي يشارك في مراسم تنصيب رئيس السلفادور    «التعليم» تتجه للتوسع في مشاركة القطاع غير الربحي    «نزاهة»: إيقاف 112 متهماً بالفساد من 7 جهات في شهر    20 شخصاً شكّلوا أول فرقة كورال سعودية خاصة    إعادة كتاب بعد 84 عاماً على استعارته!    عبور سهل وميسور للحجاج من منفذي حالة عمار وجديدة عرعر    نوبة «سعال» كسرت فخذه.. والسبب «الغازيات»    معرض الكيف بجازان يسدل الستار على فعالياته بعد حضور فاق التوقعات واهتمام محلي ودولي    زلزال بقوة 5,9 درجات يضرب وسط اليابان    في بطولة غرب آسيا لألعاب القوى بالبصرة .. 14 ميدالية للمنتخب السعودي    الاحتلال يدمر 50 ألف وحدة سكنية شمال غزة    مزايا جديدة لواجهة «ثريدز»    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 51 إلى مطار العريش لدعم غزة    نقل تحيات القيادة وأشاد بالجهود الأمنية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يدشن مشروعات «الداخلية» في عسير    تبريد الأسطح الإسفلتية في عدد من المواقع.. المشاعر المقدسة تستعد لاستقبال ضيوف الرحمن    انضمام المملكة إلى المبادرة العالمية.. تحفيز ابتكارات النظم الغذائية الذكية مناخيا    الأزرق يليق بك يا بونو    المملكة تستضيف بطولة العالم للراليات تحت مسمى "رالي السعودية 2025"    الكعبي.. الهداف وأفضل لاعب في" كونفرنس ليغ"    رونالدو يغري ناتشو وكاسيميرو بالانضمام للنصر    القيادة تهنئ الشيخ صباح الخالد بتعيينه ولياً للعهد في الكويت    الصدارة والتميز    أوبك+ تقرر تمديد تخفيضات الإنتاج الحالية حتى نهاية 2025    وزير العدل: دعم ولي العهد اللامحدود يضع على أفراد العدالة مسؤولية كبيرة    حجب النتائج بين ضرر المدارس وحماس الأهالي    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    سائقو الدبَّابات المخصّصة لنقل الأطعمة    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج دون تصريح    حجاج الأردن وفلسطين : سعدنا بالخدمات المميزة    الحجاج يشيدون بخدمات « حالة عمار»    هذا ما نحن عليه    هنأ رئيس مؤسسة الري.. أمير الشرقية يدشن كلية البترجي الطبية    إطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق مدينة الرياض    جامعة نورة تنظم 20 حفل تخريج لطالبات كلياتها ومعاهدها    ..و يرعى حفل تخريج متدربي ومتدربات الكليات التقنية    توبة حَجاج العجمي !    "فعيل" يفتي الحجاج ب30 لغة في ميقات المدينة    "الأمر بالمعروف" تدشن المركز الميداني التوعوي بمكتبة مكة    ماذا نعرف عن الصين؟!    تقرير يكشف.. ملابس وإكسسوارات «شي إن» سامة ومسرطنة    أمير نجران يشيد بالتطور الصحي    نمشي معاك    أمير الشرقية يستقبل رئيس مؤسسة الري    11 مليون مشاهدة و40 جهة شريكة لمبادرة أوزن حياتك    الهلال الاحمر بمنطقة الباحة يشارك في التجمع الصحي لمكافحة التدخين    مسبار صيني يهبط على القمر    «طريق مكة».. تقنيات إجرائية لراحة الحجيج    «إخفاء صدام حسين» يظهر في بجدة    فيصل بن مشعل يرعى حفل تكريم معالي رئيس جامعة القصيم السابق    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    إرهاب «الترند» من الدين إلى الثقافة    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عشية مؤتمرها السادس في عمان ... "الحياة" في بعض أطوارها منذ نشأتها وبعد استئناف صدورها 2 من 2 . اغتال دعاة الحروب الاهلية كامل مروة وأحيا الصحيفة السعي في مصالحة العرب مع العالم المعاصر
نشر في الحياة يوم 20 - 11 - 2000

تحدثت الحلقة الأولى عن فترة التأسيس. وهنا الثانية عن اغتيال المؤسس وتوقف "الحياة" وعودتها.
ولعل هذه الحال هي السبب الأول في اغتيال كامل مروّة، منشئ "الحياة"، الإثنين في 16 أيار مايو 1966 ووافق 20 محرم 1386 ه - وكان عدد الصحيفة الأول، قبل واحد وعشرين عاماً وثلاثة أشهر ونصف الشهر تقريباً، و6165 عدداً، نشر يوم إثنين كذلك - بسلاح شاب بيروتي، ناصري الهوى و"الدافع" أو الباعث على القتل. فالصحيفة المستقلة الرأي، والمتينة الركن المعنوي والمالي، والموثوقة الخبر والرواية، والكثيرة القراء على اختلاف طبقاتهم، كانت استثناءً، أو أقرب إلى الإستثناء، في وسط صحافة عربية انقلب معظمها، منذ نيف وعقد من الأعوام، إلى "ألسنة" دعاوة، ثناءً أو هجاء. فلما انفجرت المنازعات العربية واحتدت - غداة التخلي عن تنسيق الرد على تحويل الدولة العبرية روافد مياه الأردن في مؤتمر قمة الدار البيضاء، قبيل منتصف أيلول / سبتمبر 1965 والإخفاق في الإتفاق على حل لليمن، وعودة "الحرب الباردة" إلى العلاقات العربية، واستيلاء الجناح العسكري في حزب "البعث" السوري على حكم سورية، وبسطت جناحها القاتم على البلدان العربية كلها، وحملت كل الأطراف على الإنحياز والإمتثال، ظهرت "الحياة"، بلبنان، وهو مسرح تصريف المنازعات العربية خلافاتٍ أهليةً وداخليةً، مظهر الصوت الناشز.
وكان منشئ "الحياة"، ورئيس تحريرها، كتب في افتتاحية الصحيفة الصادرة في 29 كانون الثاني يناير 1965، ووافق العددُ عشرين عاماً تامة على صدور عددها الأول، منوهاً ب"الخط المستقيم" الذي انتهجته الصحيفة، وبإسهامها في "النهضة الصحافية العربية في جميع حقولها". وأسف كامل مروّة لما أصابه، وأصاب عمله، من "تجن ظالم"، و"فتح نار"، وترك المناقشة و"قرع الحجة بالحجة" إلى سبيل التشنيع والطعن والأذى".
أما حصاد هذه الأعوام السياسي فوصفه الكاتب فكتب: "في هذه السنوات العشرين ... ضاعت معالم القضية العربية، ومعها الأماني العربية". وفي "السنوات العشرين" هذه إحدى عشرة سنة "ناصرية"، على أضعف تقدير، رفعها مريدو الرئيس المصري، وكانوا جماهير لجبة وقوة سياسية مرهوبة، إلى أعلى مرتبة، وفوق كل حقبة ووقت. فرأي "الحياة" في هذه الأعوام - بينما السياسة الناصرية في ذروة أزمتها، وتتعثر في 1966، إن بتجدد الحرب الأهلية باليمن أو بانتهاج المملكة العربية السعودية طريق "حلف إسلامي" أو أخيراً باستيلاء حزب "بعث" عسكري ومناوئ لعبدالناصر على السلطة بسورية - يطعن رأي "الحياة" هذا في مُسَلَّمة ناصرية و"تقدمية" عامة وشائعة تعظِّم مكانة العقد المنصرم، وتنسب المكانة العظيمة إلى سياسة جمال عبدالناصر وأجهزته، وتسند شرعية الزعيم المصري إلي إنجازات سياسته.
وتفند مقالة كامل مروّة علل رأيه في العقدين. فيعزو ضياع "معالم القضية العربية"، أولاً، إلى "جهل السواد العربي الأعظم للحقائق والتبعات السياسية والإقتصادية والدولية التي جاءت مع الإستقلال" - وتستعيد الجملة، كلمة بكلمة، تعليل الكاتب، قبل عشرين عاماً، إقدامه على إصدار صحيفته آن كانت الصحافة تشكو "فيض" الصحف" ومسوغُ إصدار "الحياة" كان التبصيرَ بحقائق العصر ووقائعه، وبالتبعات المترتبة على دخول بلدان ومجتمعات، كانت قبل أقل من ربع قرن رازحة تحت تبعية وتسلط طويلين وثقيلين، "مجتمعَ الأمم" السيدة والمستقلة. والحكُم في "السواد العربي الأعظم" بالجهل يخالف مخالفة صريحة التمجيد الناصري لل"جماهير" وتزلفها من غير اعتدال. أما السبب الثاني في الأزمة التاريخية المتطاولة، بحسب كامل مروّة، فهو "تمسك الغرب بالكيان الإسرائيلي مهما دفع العرب ثمناً". والتنديد بتبعة الغرب عن إنشاء الكيان الإسرائيلي لم يستتبع من الكاتب ولا من صحيفته يومذاك، لا تحميل الغرب كل التبعة - فالشطر الأكبر منها يقع على عاتق العرب أنفسهم، ولا الإنحراف عنه ولا استعداءه والإنقاطع منه - وهو، أي الغرب، معظم "الحقائق السياسية والإقتصادية والدولية" المعاصرة والقائمة. والسبب الثالث هو "اندفاع الشيوعية الدولية إلى اكتساح الشرق الأوسط عبر الحركات الإنقلابية العسكرية والثورية". وتوحيد الحركات الحزبية والعسكرية المحلية بالشيوعية الدولية احتجاج سجالي وخطابي، وينبغي ألا يؤخذ على حدةٍ من السبب الأول أو من السبب الثاني. ولعل الغاية منه هي التنبيه على رسوخ الإنقسامات العربية الذي لا بد من أن يؤدي إليه الإستقطاب الدولي، والتحذير من تسلل الإختلاف على السياسات الدولية إلى صلب المجتمعات العربية ومبانيها الداخلية كافة.
والحق أن مقالة كامل مروّة هذه، إلى معظم مقالات هذا الوقت الذي طال نيفاً وعقداً من السنين، هي بيان في الرد على "الناصريين"، إبان انقلاب الناصرية إلى لواء جمع تحته كل دعاة الإنقطاع، القومي والإجتماعي، من الغرب، على اختلاف مشارب هؤلاء الدعاة وتباين أغراضهم. ولا ريب في أن منشئ "الحياة" توجس خوفاً من جموح السياسة الناصرية، غداة إخفاق الرئيس المصري في تنسيق الرد العسكري والديبلوماسي على تحويل الدولة العبرية بعض روافد نهر الأردن. فكان التنسيق العربي امتحاناً قاسياً لم تعد له السياسة الناصرية العدة اللازمة. فهي انساقت وراء الفتن الداخلية، في الدول العربية وبمصر قبل غيرها، وانحازت الى شطر من الأهالي على شطر آخر، ومدت حزبها حيث قدرت بالمال والسلاح و"الخبراء"، وانضوت تحت سياسة دولية كانت تبطن وجهاً "إيديولوجياً" تنكره كثرة عربية وإسلامية غالبة، وزعمت لنفسها قوة وريادة لم تملك فعلاً مقوماتهما. ولما بدت طلائع الإخفاق، في أواخر عام 1965، عالج الزعيم المصري الامتحان على نحو لم يخلُ من التسرع والتهور. فبادر الى الاعتراف بألمانيا الشيوعية، وأحرج المانيا الفيديرالية الغربية وحلفاءها الأوروبيين والاطلسيين، وحاول حمل الدول العربية على مساندة سياسته هذه مهما كانت تكلفتها باهظة، وأحرج عاهل المملكة الأردنية الهاشمية من طريق بعث بعض المعارضة الفلسطينية على الأعمال العسكرية و"الكفاح المسلح" المولود في أواخر عام 1965 مع "فتح"، واستأنفت القوات المصرية حرب اليمن واستعملت الغازات السامة المحظورة، وخاضت أجهزة الدعاوة الناصرية حرباً كاسرة على الحبيب بورقيبة، الرئيس التونسي، وعلى اقتراحه اخراج القضية الفلسطينية من الميزان العسكري غير المتكافئ الى تأليف الأحلاف والمصالح السياسية والاقتصادية، وساندت السياسة المصرية الناصرية انقلاباً أهلياً على الميثاق الوطني اللبناني، وأقحمت الدولة اللبنانبة في اختبارات اقليمية وداخلية لا طاقة لها عليها، وسابقت السياسة السورية على ما سمي "رفضاً" غداة حزيران يونيو 1967... وكان إغلاق مضيق شرم الشيخ بوجه الملاحة الاسرائيلية، بعد طلب مصر سحب القوات الدولية المرابطة بالمضيق، في أيار مايو 1967، تتويج التسرع والتهور الزاحفين، والايذان بكارثة حزيران يونيو من العام نفسه.
وكان كامل مروة على علم واف بنهج خصومه، وب"ظلمهم" و"تجنيهم"، وتقديمهم التجريح والتهمة على الاحتجاج. فختم مقالته في بلوغ "الحياة" العشرين بالقول: "وستظل الحياة تسير في نهجها هذا، الى أن يقضي الله - في من يشاء! - أمراً كان مفعولاً!". وحقق الخصوم رأي صاحب "الحياة" فيهم، و"ردوا" على الصحيفة، وعلى مقالات صاحبها، بالقتل. وفي 4 شباط فبراير 1967، قال عبدالحميد السراج، "رجل" الرئيس المصري على المخابرات السورية في أثناء الوحدة السورية والمصرية وبعدها، وآخر نائب رئيس سوري للجمهورية العربية المتحدة، للصحيفة المصرية، "أخبار اليوم": "كان الحلف الاسلامي مخططاً شرساً، ولكنه مات قبل أن يولد بسبب محاصرة القاهرة له ونسفه، ولقد فقد الحلف الرأس الذي اختاره الاستعمار للاشراف على انفاق الأموال السعودية". ويعني الناصري السوري ب"الرأس" كامل مروة، على ما فهمت وكالات الأنباء والصحف التي تناولت التصريح المأزون، ويعني ب"فقدان" الحلف رأسه اغتيال صاحب "الحياة" بتدبير وتنفيذ ناصريين معروفين. وكان الاغتيال ضرباً من إقرار سلطة سياسية عظيمة النفوذ المعنوي، ومطلقة اليد في الانفاذ ووسائله، بمكانة صحافي فرد. ونهض الاغتيال دليلاً جلياً على مشكلة مزمنة لابست سياسات الأنظمة "التقدمية"، أو أنظمة "الحزب - الدولة" العربية، وما زالت ملابسة لها، هي مشكلة القبول بكثرة مصادر القوى السياسية والاجتماعية، وباحتكام هذه الكثرة الى علانية عامة، الصحافة أحد أركانها وهيئة من هيئاتها.
دوام "الحياة" وانبعاثها
ولكن اغتيال كامل مروة، وهو في الواحدة والخمسين، لم يؤد الى موت صحيفته. ففي اثناء العقدين المنصرمين على انشاء "الحياة" لم يقتصر عمل منشئها على اذاعة اسمه وصيته، بل أرسى جسماً صحافياً عضوياً. وأثبت الجسم الصحافي العامل، طوال عقد من السنين، قدرته على الاستمرار، وعلى تطوير الصحيفة، والمحافظة على خصائصها ومقاييسها المهنية. فبقيت "الحياة"، الى حين توقفها عن الصدور في أوج الحروب الداخلية والعربية والاقليمية في لبنان في 1976، مصدراً ثقة للأخبار العربية. وأقامت على النهج الذي اختطه منشئها، وهو نهج تمييز الخبر من الرأي ، وتكثير مصادر الخبر رواية وتأويلاً، وتخليص دلالات متماسكة ومركبة من ركام الأخبار الجزئية في مقالات مستفيضة وواضحة، على أن يكون ميزان هذا كله الاحتكام الى "الحقائق والتبعات السياسية والاقتصادية والدولية" التي لا غنى للمجتمعات والدول الناشئة من الاحتكام اليها، على ما لم ينفك كامل مروة يقول.
فاحتفظت الصحيفة - بإشراف أرملة منشئها، وبمعاونة زهدي الجافر، الصحافي السعودي، ثم بمعاونة بكر أولاد كامل مروة عند بلوغه الواحدة والعشرين، في 1973 - بمحرريها، وتمسك محرروها بعملهم في الصحيفة، ولم يحملهم الترهيب على تركها. وكان إصدارها على السوية التي كانت عليها، على خسارتها من كان مدبرها وبمنزلة لحمتها الجامعة، مراهنة وَرَثتها، من محررين وإدارة. وربما أدى شغور محل المنشئ، وهو صاحب الدالّة الكبيرة، الى تعاظم حصة الصحافة الخالصة في ميزان الصحيفة. ولم يتخل عنها لا قراؤها، ولا المعلنون: فأقامت على طباعة نحو عشرين ألف نسخة يومية أو أقل بقليل، وثبت توزيعها في السوقين الأوليين، لبنان والسعودية، وفاض عائد "دار الحياة" "الحياة" الى "دايلي ستار" الانكليزية من الاعلان عن العائدات "السياسية"، وبقيت مطبعة الدار مصدر عائد مستقلاً. فلم تفقد الصحيفة استقلالها المادي ولا السياسي. وآية ذلك أن ادارة الصحيفة اقترضت، في 1969، مليون ليرة لبنانية نحو 420 الف دولار اميركي، صرفتها الى تجديد بعض مرافق الصحيفة وتحسينها، وسددت القرض في 1975، على ما نص عقد القرض، من غير أن يرهقها التسديد أو يرهق العاملين فيها.
ودخلت الصحافة في النصف الأول من العقد الثامن، وهو جاء بعقب "حركة 1968" الشبابية، الأوروبية والأميركية، تغييرات عميقة. وكان محصلة التغييرات هذه توسيع ميدان الصحافة اليومية الى ميادين جديدة مثل الشباب، والطلاب، والمرأة، والموسيقى، والمسرح، وتخطيط المدن، والاستهلاك، والتسلية، والعمل، والتيارات السياسية والاجتماعية والفكرية غير المتبلورة في هيئات ظاهرة القسمات. وآذنت هذه التظاهرات بدخول المجتمعات الأوروبية والاميركية - في غمرة الحرب الفيتنامية، ومع بلوغ فئة المولودين في أثناء الحرب الثانية وغداتها سن العشرين، واستنفاد الحياة الاقتصادية طاقتها على تعميم العمل والرخاء - طوراً جديداً من أطوارها. ولم تبق الصحافة اللبنانية بمنأى عن التوسيع هذا ومن نتائجه. فإلى الأخبار السياسية والاقتصادية عمدت الصحف الى زيادة حصة الأبواب المحدثة. وعمد بعضها الى تخصيص هذه الأبواب بملاحق وقفها عليها. واحتلت الصور الملونة مكاناً عريضاً.
وأدت وجوه التجديد هذه، الى ملابسات الحوادث السياسية العربية عشية حزيران / يونيو 1967 وغداته والمحلية اللبنانية، أدت الى ترتيب الصحف اللبنانية على مراتب مختلفة عن المراتب السابقة. فتقدمت الصحف التي ماشت وجوه التجديد، من غير قيد قراد عرب غالبين، ولا قيد تحفظ عن السجال السياسي والعصبي الداخلي. وهذان القيدان لم تشأ "الحياة" التخفف منهما، وهما بعض من تراث منشئها، ومن عوامل ثباتها واستمرارها. فأقامت على سمة الرصانة والاحتراف اللذين عرفت بهما، والتزمت التجديد من غير الخروج عن سمتها هذا. فنجم عن التزام "الحياة" ما التزمته، وعن تبلور التظاهرات الجديدة وانتشار أثرها، بعض الضمور في دورها، واقتصار قراءتها على نخب ناضجة، سناً وخبرة، تميل الى الثبات والمحافظة، وتقدِّم السياسة المحض، وأخبارها وفهمها، على سائر الوجوه التي تكتنفها وتلابسها.
فلما انفجرت الحروب المحلية والعربية والاقليمية التي اتخذت من لبنان مسرحاً، ومن اللبنانيين والفلسطينيين أدوات طائعة أو متحمسة، كان تغير الصحافة اللبنانية من حال الى حال، دوراً وصورة، بلغ نهاية شوط من أشواطه. وجاءت مراحل الانفجار الأولى - وهي اتسمت بمشاركة الشبان، والطلاب، والحزبيين، والقريبي العهد بالاقامة بالمدن وضواحيها، وضعفاء الاستقرار سكناً وحرفة وتعليماً - جاءت سماتها هذه تحقق امتحان الصحافة في العقد الذي أعقب اغتيال كامل مروّة، وأدى، في ما أدى اليه، الى ضمور الصحافة السياسية المعتدلة ودورها. وليس من قبيل المصادفة والاتفاق اضطلاع أهل السياسات الذين اغتالوا منشئ "الحياة"، أو سوغوا اغتياله، أو سكتوا عنه، بدور كبير وحاسم، في تمهيد الطريق الى حروب لبنان، ثم في قيادة هذه الحروب والنفخ فيها. أما جمهور الصحيفة المحتمل، وهو على ما سلف القول من ناضجي الخبرة ومن النخب الاجتماعية والسياسية المستقرة والمختلطة مذهباً وإقامة وثقافة، فترك شطر كبير منه لبنان الى المهاجر الآمنة، القديمة والجديدة، حيث استأنف معاشه وعمله. وكانت المواصلات، على أنواعها، بين لبنان وبين العالم ودوائره، من أولى ضحايا انفجار الحرب. فلم يكن بد لصحيفة يومية و"سيارة"، على ما كانت الصحف توصف في ابتداء صدورها، يقيم معظم قرائها خارج بلدة ادارتها وتتقدم أخبار البلدان العربية مشاغلهم، لم يكن بد لها، بعد انقطاع المواصلات، من التوقف، وانتظار أيام أحسن حالاً من تلك الأيام.
وكان على الصحيفة أن تنتظر نيفاً واثنتي عشرة سنة. فلما استأنفت الصدور بلندن، في الأيام الأولى من تشرين الثاني نوفمبر 1988، كانت، حقيقة وليس مجازاً، تستأنف صدورها، - وعلى رأس تحريرها ابن منشئها، جميل كامل مروة، وبعض أصحاب كامل مروة - وتستعيد الشيء الكثير من صورتها السابقة. فغلب على أخبارها ومادتها الشاغل العربي والدولي، وأمكنها مراسلوها في البلدان العربية، وفي بعض الدول الأوروبية والاميركية والافريقية والآسيوية، الى مراسليها في الهيئات والمنظمات الدولية، من علاقة مباشرة بمصادر الأخبار المختلفة والمتناقضة، واستقبلت صفحات المناقشة والمطارحة والتحقيق الرأي، القضايا، الأفكار، المجتمع، والمقابلات الكثيرة، ومعظمها استحدثته هي أو أرسته تقليداً متصلاً، استقبلت الآراء على رحب وسعة، والمشارب المتفرقة من غير رمي رأي "الخصوم"، مثل وزراء خارجية العراق أو غلاة الاسلاميين أو بعض الكتّاب الاسرائيليين، بالحرم أو تبديعهم تبديعاً سياسياً.
وكان ركنا استئناف الصدور على المثال الأول أمرين: الاستقلال المالي والاداري والسياسي، وجسماً صحافياً مجرباً. أما الركن الأول فوفرته شركة ناشرة عاد 70 في المئة من أسهمها الى الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز آل سعود، و25 في المئة الى نجل كامل مروة البكر، جميل مروة، وضمنت شراكة الناشرين، "القديم" والجديد، رعاية استمرار "الحياة" على ما كانت عليه، واستقر من أعرافها وسننها، وهو مراعاتها الدقة والأمانة في نقل الخبر، وتعمد تكثير المصادر والآراء ومقارنتها بعضها ببعض. ونجم الركن الثاني عن اختيار نحو مئة صحافي محترف، عملوا كلهم محررين أو مراسلين أو مخبرين أو معلقين، طوال عقد أو عقدين، إما في "الحياة" نفسها قبل تعليق صدورها، أو في بعض الصحف العربية الكبيرة، أو أخيراً في وكالات أنباء دولية. وكان عدد مكاتب الصحيفة، حين استئنافها الصدور، أربعة، كلها في عواصم عربية. وبلغ عدد مراسليها ثلاثة عشر، راسلوها من عواصم الدول الكبيرة، الأوروبية والاميركية، ومن بعض الدول العربية. أما عدد الكتّاب الذين أسهموا، على نحو أو آخر، في الكتابة في "الحياة" فبلغ في أثناء السنتين الأوليين ألفاً وستمئة. ولعل هذا العدد قرينة على كثرة مصادر الرأي في الأبواب المختلفة التي تولت الصحيفة استدراج المناقشة فيها.
وبلغ عدد النسخ المبيعة، في اليوم الواحد من أيام الصدور السبعة في الأسبوع من غير يوم عطلة، أقل من ثلاثين ألفاً بقليل. وتصدرت بلدان السوق الأوروبية، وهي مَهاجِر النخب العربية، المبيع. فبلغت مبيعات "الحياة" اليومية فيها نحو عشرة آلاف نسخة الى اثني عشر ألفاً. وحلت السوق السعودية، وهي سوق عربية كذلك، ثانية، وبلغت مبيعاتها ثمانية آلاف نسخة الى عشرة آلاف. وجاءت الثلاثة آلاف نسخة في السوق المصرية في المرتبة الثالثة. وكانت بلغت المصروفات من ميزانية "الحياة" في غضون السنوات 1987، وهي سنة ابتداء الاعداد للصدور، الى 1990، وفي تشرين الثاني نوفمبر منها انتقلت رخصة نشر الصحيفة الى يدي ناشرها الحالي، الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز، نحو اثني عشر مليون دولار اميركي. وعادت الاعلانات على هذا الباب من الميزانية، في السنوات الثلاث نفسها، بنحو أربعة ملايين دولار اميركي.
وفي ختام هذه المرحلة من سيرة الصحيفة، واتفق ختامها مع اجتياح الجيش العراقي بأمر من السيد صدام حسين دولة الكويت، وتصدي قوات التحالف الدولي للعدوان - وكان الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز قائد القوات العربية المشاركة في التحالف - وسع صاحب رخصة "الحياة" الجديد أن يكتب الى رئيس تحريرها، جهاد الخازن، في 24 تشرين الثاني نوفمبر 1990 نشرت "الحياة" الرسالة في 3 نيسان / ابريل 1993 بياناً بمبادئ عمل الصحيفة وأصوله: "1 - إن مفهومنا للصحافة ورسالتها أنها نقل للمعلومات الصحيحة الصادقة ... مع تقديم التحليل العلمي ... 2 - وحتى تستمر هذه الجريدة عربية حرة مستقلة وهو شعارها، و.ش. يجب ألا تقبلوا بمقالة تفرض عليكم، أو هبة أو معونة مالية ... فنحن نريد جريدة يحترمها الناس، كل الناس، الأعداء والأصدقاء ... 3 - إننا ... لا نغض البصر عن أخطاء أحد خشية غضب أو مصادرة، ولا ننافق أحداً طمعاً برضا أو مساعدة...". وتشبه وصايا الناشر الى رئيس التحرير، في غمار أزمة سياسية وعسكرية واقتصادية عاصفة كان من الجلي أن نتائجها المتوقعة ترقى الى مرتبة الكارثة العربية العامة، تشبه ما كتبه كامل مروّة في مبتدأ أمره وحين بلوغ الصحيفة العشرين عاماً، وبعضها يتعمد استعادة عبارات منشئ "الحياة" الأثيرة.
ويوم نشرت رسالة الناشر، وبذيل الرسالة، نشرت نتائج استطلاع رأي فيها ملخص لأحكام القرّاء في الصحيفة، وكان انقضى على استئنافها الصدور ثلاث سنين ونصف السنة وانقضى عام ونصف العام على صدورها في عهدة الناشر الجديد. وجاء في نتائج استطلاع الرأي هذا ان 86 في المئة من القراء يرون في "الحياة" صحيفة "مستقلة"، ويرى 91 في المئة "الحياة" أن أسلوبها "موضوعي"، و90 في المئة أن مستوى التغطية "عميق"، ويكاد القرّاء المستفتون يجمعون على أن الصحيفة "معتدلة" أو "محافظة" 97 في المئة: 60 في المئة رأيهم فيها أنها "معتدلة" و37 في المئة رأيهم أنها "محافظة". ويتفق تقويم القرّاء وإرادة منشئ الصحيفة وقصده، ويتفق وتوصية ناشرها الى رئيس تحريرها.
ومنذ انتقال رخصة إصدار "الحياة" الى ناشرها، الى آخر صيف 1999، بلغ عدد مكاتبها اثني عشر مكتباً فيها المكتب الرئيسي بلندن. وخمسة من هذه المكاتب أوروبية لندن وموسكو وباريس وأميركية واشنطن ونيويورك، وسبعة عربية، فيها مكتب مغربي الرباط، ومكتب القاهرة، ومكتبان مشرقيان بيروت ودمشق، واثنان في المملكة العربية السعودية الرياض وجدة، وواحد في البحرين. أما المراسلون فيعدون بالعشرات، ويراسلون الصحيفة من معظم العواصم العربية والافريقية والآسيوية والأوروبية. ودرجت "الحياة"، منذ 1994، على عقد مؤتمرات سنوية، إذا استثني عام 1996، تجمع مسؤولي الأقسام والصفحات والمكاتب. وتدل زيادة عدد المشاركين فيها - من 39، في المؤتمر الأول بلندن في منتصف أيلول/ سبتمبر 1994، الى 41 في المؤتمر الثاني بالقاهرة في 12 و13 كانون الأول/ ديسمبر 1995، الى 48 في المؤتمر الثالث بالدار البيضاء في 24 و25 و26 شباط/ فبراير 1997، الى 56 في المؤتمر الرابع بدبي في 3 و4 و5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1998 - على زيادة عدد المكاتب وعدد الصحافيين، وهي مرآة كثافة التغطية الصحافية المتعاظمة.
وسعت "الحياة" طوال العقد المنصرم في تكثير دوائر الأخبار وأبوابها، أكانت الأخبار سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو علمية أو رياضية. وكانت الملاحق الأسبوعية، والملحق السياسي "تيارات" والملحق الثقافي "آفاق" فاتحتها، الى صفحات اقتصادية ورياضية يومية، وتبعتهما بعد نحو ست سنين ملاحق "الشباب" و"المجتمع" و"المرأة" و"السينما"، كانت آية هذا السعي. فارتفع عدد صفحات الصحيفة اليومية الى ثمان وعشرين صفحة، وهو كان اثنتي عشرة صفحة حين استئنافها الصدور. فاستدركت الصحيفة على ما كان فاتها بعضه في الأعوام التي أعقبت اغتيال منشئها، في أواخر العقد السابع وأوائل العقد الثامن، ونسبها الى فئة سن، والى نخبوية اجتماعية ومحافظة سياسية، لازمتها، وربما ما زالت تلازمها.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.