"دله البركة" تعلن توسعات نوعية في منظومة خدمات الحج والعمرة بإضافة 400 حافلة جديدة وتجديد كامل لفندق "دله طيبة"    مجلس الوزراء: الموافقة على نظام حماية المؤشرات الجغرافية    الهيئة السعودية للتخصصات الصحية تعتمد برنامج جراحة الفم والوجه والفكين في تجمع تبوك الصحي    المنتخب السعودي على مشارف التأهل في مونديال الناشئين    بيان في الشباب بشأن أزمة الحارس بوشان وقرار الفيفا    تمديد مهلة تصحيح أوضاع العمالة المنزلية المتغيبة لمدة 6 إضافية    المشهد السياسي العراقي في ضوء الانتخابات البرلمانية الجديدة    أمير الشرقية يكرم مدارس المنطقة بدرع التميز والاعتماد المدرسي    القيادة تهنئ رئيس جمهورية بولندا بذكرى إعلان الجمهورية لبلاده    مجموعة شركات SAMI تحصد ثلاث جوائز للتميز في توطين الصناعات العسكرية    ب "رؤية ما لا يُرى".. مستشفى الملك عبدالله ببيشة يُفعّل اليوم العالمي للأشعة    أنت أيضا تحتاج إلى تحديث    الفقد والادعاء.. حين يساء فهم معنى القوة    قصيدة اليقين    هجوم روسي بمسيرات يوقع قتيلا شرق أوكرانيا    لماذا دخل الشرع البيت الأبيض من الباب الجانبي؟لأنها زيارة خاصة لا رسمية    سعر برميل النفط ينخفض إلى 63.93 دولار    تعليم الطائف يعقد الاجتماع الأول للجنة الشراكات والاتفاقات    «الشورى» يدعو مركز المناطق الاقتصادية في الرياض لاستكمال البناء المؤسسي والخطة الإستراتيجية    «التواصل الحضاري» ينظّم ملتقى التسامح    95 مليون ريال لصيانة ونظافة وتشغيل 1400 مسجد وجامع في المملكة    ضبط 21647 مخالفاً للإقامة والعمل وأمن الحدود    استبعاد تمبكتي من معسكر الأخضر.. واستدعاء الشهراني وكادش    علامات تكشف مقاطع الفيديو المولدة بال AI    أمريكي يبحر 95 كيلومتراً داخل يقطينة    الديوان الملكي: وفاة وفاء بنت بندر    تعاون سعودي- إماراتي لمكافحة جرائم الفساد    خادم الحرمين يدعو لإقامة صلاة الاستسقاء الخميس    تحت رعاية ولي العهد.. تنظيم المؤتمر العدلي الدولي الثاني بالرياض    موجز    الذكاء الصناعي سلاح ذو حدين    لجان الكرة وقرارات غائبة أو متأخرة    يوثق التحولات التاريخية والحضارية للمشاعر.. «الدارة» تطلق ملتقى تاريخ الحج والحرمين    وعكة صحية تدخل محمد صبحي المستشفى    1.7 مليون دولار تعويضاً على تنمر النظارات    شلوتربيك أولوية لبرشلونة في يناير    يتباهون بما لا يملكون    تقديراً لجهودها في إبراز خدمات المملكة لضيوف الرحمن.. نائب أمير مكة يكرم وزارة الإعلام بمؤتمر الحج    النصر يتصدر بالمحلي    وسط ضغوط على المرحلة الثانية من اتفاق غزة.. الاحتلال يمنع خروج المحاصرين في أنفاق رفح    ممرض ألماني يخدر المرضى ليهنأ بليلة هادئة    موانع حمل للرجال (1)!!؟    الأخضر تحت 19 عاماً يدشن تدريباته في معسكر الأحساء استعداداً لكأس آسيا    خديعة القيمة المعنوية    تداول 197 مليون سهم    أزمة الأطباء الإداريين    "مسام" ينزع (1.044) لغمًا من الأراضي اليمنية خلال أسبوع    البنيان يرعى «التعليم المنافس» في «الملك سعود»    «الرياض الصحي»: البحث العلمي شريكٌ محوري في التحول الصحي    رئيس جامعة جازان يطلق منصة "ركز" للاستثمار المعرفي    القصيم: فرع الشؤون الإسلامية يُتعامل مع 1169 بلاغًا خلال الربع الثالث    رجال أمن الحرمين قصص نجاح تروى للتاريخ    نائب أمير المنطقة الشرقية يستقبل مدير فرع الهيئة العامة لتنظيم الإعلام بالمنطقة    إنفاذاً لأمر خادم الحرمين الشريفين.. منح رئيس «الأركان» الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز    إنفاذًا لأمر خادم الحرمين الشريفين.. رئيس هيئة الأركان العامة يُقلِّد رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الممتازة    فهد بن سلطان: هيئة كبار العلماء لها جهود علمية ودعوية في بيان وسطية الإسلام    أمير نجران يلتقي مدير فرع «عقارات الدولة»    أمير تبوك يستقبل عضو هيئة كبار العلماء الشيخ يوسف بن سعيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاب عبداللطيف وليندا المجهولة في اكثر من صباح بارد ... في اكثر من سجن
نشر في الحياة يوم 18 - 01 - 2000

عبداللطيف، الشاب العربي اللاجئ الى بريطانيا، اعتقلته الشرطة بتهمة اغتصاب امرأة لا يعرفها اسمها ليندا وفي انتظار المحاكمة أودع السجن.
وتحولت حياة عبداللطيف الى سلسلة من التنقلات بين سجن وآخر كأنه جاء الى لندن للقيام باستطلاع لسجونها، حتى وصل في النهاية الى سجن "وود سكراب" وهو عبارة عن مبتلع بشري لأنواع المجرمين من مرتكبي الاعتداء والسرقة الى القتل والتنكيل. وليحذر السجين الجديد في وود سكراب ان يقول انه متهم بالاعتداء على امرأة فالمحتجزون معه في الزنزانة سيجربون قبضاتهم في وجهه ويفرغون في جلده ما تجمّع لديهم من القسوة والعقاب. فهم بعيدون عن النساء، وقد يتحولون فجأة الى قضاة يحكمون بالعقوبة لمصلحة النساء.
أدرك عبداللطيف ان قضاء ليلة واحدة في هذا السجن يبرر التهمة ويثبتها في عيون الناس مهما كان بريئاً. وفي مقابلته الاخيرة مع المحامي عرف كيف وصفت المرأة الغرفة التي زعمت ان الاغتصاب تم فيها. لقد صنعت غرفة اخرى من خيالها، ولم يكن في وصفها غير قطعة واحدة حقيقية هي التلفزيون. لعلها شاهدت الاغتصاب في التلفزيون.
لم تصف المرأة غرفته كما هي. لا شيء ثبت ضده فماذا يريدون منه. ما هو البرهان الذي يبحثون عنه ليطلقوا سراحه اكثر من كذب المرأة. هل يبحثون عن حجج سرية دامغة لا يعرف هو نفسه عنها شيئاً؟ الشرطة تريده ان يعترف بالجريمة، ان يسهل عملها من دون تضييع للوقت، او تشتيت للطاقة البشرية كما يقولون. ماذا عن وقته وحياته هو. انسان مدفون حياً. لكنهم لا يستطيعون ان يتابعوا كل جريمة حتى النهاية. تكفي الملامح الأولى والدوافع الأولى، وفي الاغتصاب توجد تلك الدوافع في اصل الجريمة. نصحه المحامي بالاعتراف ايضاً وقال له: "سوف نحصل لك على حكم لمدة اقصر. وقد تخرج من السجن بعد سنتين أو أقل من دافع السيرة الحسنة". خطر لعبداللطيف ان يصيح بأعلى صوته، يرفض جريمة لم يرتكبها. وعاد يطلب من المحامي ان يعمل على اطلاق سراحه بكفالة حتى يحين موعد المحاكمة.
قابل عبداللطيف المدعية ليندا في مواجهة امام القاضي. كانت امرأة نحيفة زائغة البصر، شعرها كستنائي وترتدي سترة زرقاء اللون وتنورة سوداء. اخذت تصف ما زعمت انه حدث لها. فقالت انه التقى بها في سوبرماركت. ثم بدأت تصف اللباس الذي كان يرتديه فاذا بها تصف هيئة المترجم الذي كان يساعد عبداللطيف على فهم ما يجري في القاعة حتى شاربه وصفته بدقة مع ان عبداللطيف لم يرب شارباً في حياته.
تشبث عبداللطيف بما قاله للشرطة وللمحامي امام محكمة اقليمية كانت تنظر في طلب الافراج عنه بضمانة او تمديد مدة سجنه حتى يحين موعد محاكمته في المحكمة الجنائية الكبرى. وقال انه تعرف على نساء في لندن وربطته مع بعضهن صداقة. ولم يحدث ان أساء الى امرأة من قبل. لماذا يحوّرون كل شيء تجاه تثبيت التهمة. لماذا يضعون من كلمات المرأة سلاسل وأغلالاً تقيده. ألا يكفيهم ما جاء في شهاداتها الخاطئة... التلفزيون وألوان الستائر والسوبرماركت والشارب.
ناقوس الخطر بدأ يدق في قلبه. فلا مجال للإفلات من قبضة هؤلاء الناس. يفاجئونك هنا كل يوم بوجه وبقناع وبتدابير وقوانين. يخافون على المرأة من المتهم، يخافون ان يطلقوا سراحه حتى لا ينتقم منها. يجوز ان يكون هذا تدبير سليم، لكنه لا يعرف اين تسكن المرأة. كيف يحمي نفسه من هذا التزوير.
اما في السجن فقد واجه عبداللطيف حقيقة اخرى وهي عداوة المساجين الآخرين له فعندما علموا انه متهم بالاغتصاب اخذوا يستفزونه. وكثيراً ما اعتدوا عليه بالضرب ومنعوه من الانضمام اليهم، وضيّقوا المجال عليه في نشاطاتهم. الاغتصاب كان بالنسبة اليهم جريمة دنيئة. أدنى من أن يوضع صاحبها في السجن. يجب ان يذهب معترفها مباشرة الى المقصلة. هددوه اكثر من مرة بقطع اعضاء من جسده. يا ترى، هل كل هذا بسبب التهمة ام انه مجرد تفريغ للقسوة التي يعانون منها. يجب ان تكون جريمة الشخص اقل من جريمة الآخرين الذين يسجن معهم حتى يقبلوه بين اركانهم. وهنا انتقل عبداللطيف الى الجهة المخصصة للقتلة في السجن. الى معتقل المجرمين الأقوياء. يا ترى هل يساعده هؤلاء على مواجهة ضعفه. انها اشياء للتفكير تماماً. يحتقر بها نفسه احياناً، ويسلي بها نفسه في اغلب الاوقات. حتى المجرمين الخطرين عادوه. ولم يتخذوا منه موقفاً سلبياً فقط، بل اشبعوه ضرباً، وتسلوا بتعذيبه نفسياً. كم يعرفون التعذيب بالجفاء.
شيء من الانتباه حالياً في ذهنه. خياله يرتجف بأجنحة من الشمس والقذارة. حرام ان يتذكر امه في هذه الحالة. حرام ان ينبس باسمها، ويسأل في سره عن حالها. لم يستطع ان يتصل بها منذ ان قرع رجال الشرطة باب غرفته وأخذوه في سيارتهم البيضاء الى المركز. واليوم لا يستطيع ان يقول لها انه يقوم بسياحة في غياهب سجون مدينة لندن. ويسأل عن امه في خياله. سوف يكتب اليها. ثم تجمدت الخاطرة في قلبه. فقد اخبره الحارس امس ان بريد السجن يطبع الرسائل بخاتم خاص قبل ان يبعثها. ورأى صورة اخيه وهو يقرأ ظرف الرسالة لأمه في اشارة حمراء تقول: "من سجن وود سكراب" فوضع رأسه بين ركبتيه وبكى في صمت لأول مرة... تقريباً لأول مرة، فكثيراً ما احس بدموع ساخنة في عينيه.
حيثما تقف متهماً تداهمك عاصفة الشك حتى ليخيل اليك انك ارتكبت الجريمة فعلاً. لقد مرت شكوك كثيرة عليه حتى الآن، فلن يقف متهماً يائساً. سوف ينضم الى مدرسة السجن ليتعلم اللغة الانكليزية. لا احد سيمد اليه البراءة هكذا على طبق مثل أكلة ساخنة. سوف يدافع عن نفسه بالصمود، لا دموع. سيتعلم الطريقة التي يفكرون بها حتى في السجن.
من يدري؟ لعل المحكمة الاقليمية تقبل اطلاق سراحه موقتاً. ليس هناك صعوبة في ان يقبل صديقه حسن ضمانته. قال المحامي انه قدم طلباً مرة اخرى وعليه ان يستعد للذهاب الى المحكمة في الصباح. لقد تعلم ان لا يترك الأمل يسيطر على نفسه ولذلك ظل صامتاً لأنه يدرك ان للشرطة الكلمة الاخيرة في اطلاق سراحه الموقت. وظل جامداً في المحكمة ينظر الى القاضي وهو يقلب اوراقاً... الحكم اليوم وغداً، من سجن الى سجن، ومن ملف الى آخر. هل يستمع الى المدعي؟ هل يستمع الى ما تقوله الشرطة عن سلامة المرأة؟ ام يغلق نفسه حتى تعيده السيارة السوداء الى الزنزانة من جديد.
لا يستطيع ان يتبع ما يجري حوله من لغط. حركة الايدي والافواه تقول كل شيء. معاني تلك الحركات تظل غامضة، لا يعرفها الانسان الذي لا يفهم اللغة. غير ان عبداللطيف يدرك كيف ستنتهي مسرحية المحكمة. جهاز القضاء يأخذ بعين الاعتبار رأي الشرطة وموقفهم من أي متهم مسبقاً. انه يعرف عنوان ومكان الضحية، ولذلك يجب ان يعود الى الزنزانة حتى يحين موعد المحاكمة. وما دام يرفض ان يقبل التهمة ويضحي ببراءته فالانتظار سيكون طويلاً. ليس هناك موعد اصلاً وقد مرّ عليه شهور يتنقل من زنزانة الى اخرى.
الكلمة هي العدالة والتصور هو روحها. عدالتك ليست هي عدالتي. ويمكن ان نختلف في تحرير القضاء من سجن الكلام والتصورات. الصداقة هي ايضاً لحن آخر، موسيقى خافتة يطغى عليها صوت مدافع الكلام، لا يجوز ان يحتج على احد. افكاره ليست خالية من الاتهام ايضاً. وكيف يواجه هذا العالم حوله من دون كلمات او اتهام. هل معقول ان يتخلى صديقه حسن عنه بهذه الطريقة. لم يسأل عنه منذ فترة. ويجد عبداللطيف عذراً، لا يستطيع صديقه ان يتتبع كل السجون التي يأخذونه اليها. ثم انه يستحي ان يرى حسن أيضاً ويقرأ في وجهه المجعد الصعوبات التي سببها له بمجيئه الى لندن. وهو الآن يفهم كيف ان ابناء الوطن الواحد يتجنبون بعضهم بعضاً دائماً. كل اجنبي يحمل في خياله صورة عن مشاكل اجنبي آخر. وإذا هرب من ابناء بلده فكأنه تجنب مشاكل متوقعة. لكن حسن صديق الطفولة، وبإلحاحه جاء عبداللطيف زائراً الى لندن لشهرين او ثلاثة. وبعد فترة تحول فيها الى مريض. جاء يبحث عن علاج وربما ليشفي نفسه ومستقبله من اضغاث احلام. انظر اليه الآن، لقد تجاوز كل التوقعات. في حين جاء صديقه حسن الى لندن بحثاً عن احلام. هل من المعقول ان يختلط الأمر في نفس الانسان هكذا فيتحول الى سجين اوهام، لا يقوى على النظر أبعد من افكاره المحاصرة بحلم ما. حسن يتعاون مع الشرطة ضد صديقه. لم يجبروه على اعطائهم معلومات عن عبداللطيف ولكنه تطوع ان يمدهم بكل ما يعرف عن حياة صديقه في الرباط. لم يكن ما قاله حسن للشرطة شهادة ضده بالتحديد. ولكنهم كانوا يبحثون عن صور من الماضي تؤكد لهم حقيقة شخصية المغتصب. فهم يعتقدون ان بذور الاغتصاب تنمو مع الانسان في جو الحرمان. وتترعرع في اعتقاد الرجل بقوته وسيطرته على الجنس الآخر.
هذه التبريرات واجهه بها المحلل النفسي الذي قابله في السجن لتقويم شخصيته واستخلاص بيانات عن افكاره الباطنية. لا يمكن تجريمه بتلك التحليلات. انها غريبة عنه وعن ثقافته. في بلده يخافون من مثل هذا المحلل. انه بمثابة الشرطة السرية. وهكذا عرف ان حسن تحدث الى الشرطة عنه وعن علاقاته بالنساء في الرباط وغيرها، وكيف خدع خطيبته مع فتاة مراهقة. تلك العلاقات ليس لها تأثير على قضيته الحالية لكنهم يتسلحون بافتراضات لتسهل ادانته... هذا تحليل قصير في ذهنه لما يجري حوله. انه مجرد احصائية في ظاهرة الاغتصاب التي تغزو الإعلام والأذهان. الانتصار على تلك الاحصائية في مخيلته. فهل سيأكل نمل التخاذل تلك الحقيقة.
من أي جهة تناول الطبيب قضيته، من أي جهة سعى هو الآخر الى اقناع الشرطة ببراءة المتهم؟ لقد مرت على الطبيب أنواع من الشخصيات مثل عبداللطيف التي لا يستطيع أصحابها التعبير عما يجول في خاطرهم بسبب الشعور أن الجهاز سواء كان حكومياً أو غيره يعرف أكثر مما يستطيعون التعبير عنه بأنفسهم. وذلك الاعتقاد يؤدي بهم في النهاية الى تسليم أنفسهم والتخلي عن مصيرهم.
لم يترك الطبيب حالة عبداللطيف تطغى عليه فقد استفسر منه كثيراً عن التدريبات الرياضية التي كان يزاولها كثيراً في مسقط رأسه وأدت به الى الاصابة في ظهره. لكن صحة عبداللطيف لم تكن هي غرض الطبيب الأول، كان يريد أن يتثبت ما اذا كانت هناك علاقة جسدية مع المدعية. فقد أجرى الطبيب عليها تحليلاً أيضاً. وعندما قارن النتيجة لم يستطع الحصول على قرار. أو لم يستطع أن يجزم أن هناك اتصالاً بينهما. لكن المدعي العام فسر ذلك على أنه اصابة واضحة ضد المتهم.
يبدو من خلال كل هذا ان عبداللطيف غارق في بحر من الشك العميق، وربما كان أفضل له أن لا يحاول النجاة والسباحة الى شواطئ البراءة. كل البراهين تشير الى انه مجرم فما عليه إلا أن يصير مجرماً ويعترف بخطيئته، وبذلك يجنب البوليس ضياع الوقت في البحث والتحقيق. لقد طلبوا منه ذلك مراراً مؤكدين انه سيحصل مقابل اعترافه على تخفيض في مدة السجن، لكنه عنيد وسيطاوع كل الشبهات سواء كانت فحوصاً أو شهادات ملفقة.
ومن يدري فهناك أخطر من تلك الشبهات والبراهين ضده، وهم اليوم يقولون له انه ليست مصادفة ان المرأة التي اتهمته باغتصابها أقرت أنها تعشت معه سباغيتي في بيته في الليلة المشؤومة، وتبين من استنطاقه أنه اشترى سباغتي في اليوم نفسه. وهذا أكد للشرطة ان عبداللطيف عرف المرأة واستدعاها للعشاء معه ولهذا الصقوا به كثيراً من الشبهات، وجعلوا منها أحجاراً قانونية تشده الى قعر بحر التهمة العميق.
عبداللطيف يدرك أنه سجين القدر، لا حكمة في استدرار الدموع، لا قيمة في أن ينهش الانسان ما تبقى من سلامة قلبه، هناك تضحية بالألم واستسلام للعذاب، ويوم تصير إرادة الانسان مطوقة بأفكاره المظلمة فإنه يتحول الى شبح من الأحياء. استغفر عبداللطيف خالقه، واهتم بالخبر الذي تلقاه من الادارة ان رسائله التي يبعث بها الى أمه لن تحمل خاتم السجن على الظرف. فما أقسى على أمه ان تعرف انه مسجون في مدينة غريبة سافر اليها من أجل العلاج. انها صدمة قد تودي بحياتها، يستطيع الآن ان يتحدث الى أمه عن الحياة التي كان من الممكن أن يعيشها خارج جدران هذه الزنزانة التي تحمل توقيع أسماء مئات مروا بها. لن يكتب اسمه عليها أبداً لأنه لا ينتمي الى المكان.
كان عبداللطيف يعاني من مرض في جلده. جرب كل أنواع العلاج التي كانت معروفة في مدينة الرباط. ولكن المرض كان يعود بعد فترة وجيزة من الشفاء. كان الألم يعود ويستفحل في أثناء ممارسته رياضة حمل الأثقال. كتب الى صديقه حسن في لندن يستفسر عن امكانية العلاج في لندن في وقت كانت ظروف حياته في الرباط تتشعب كثيراً. لم يكن يدري هل كان يسعى الى العلاج أم يريد الهروب من المشاكل التي صارت تحاصره في كل مكان. كان جلده ينتفخ عندما يأخذ دوشاً بعد التدريبات الرياضية، وهكذا استقرت في ذهنه فكرة الانطلاق الى أي مكان كأن الحركة هي التي ستزيل الآلام أو تفتح مجالات أو أبواباً جديدة... انه في حالة محاصرة الآن كما حدث في مدينته. "لن تسير الا في ما أراده لك القدر" هكذا يفكر باستمرار وكأن المشاكل التي هرب منها لاحقته في مدينة أخرى حتى تكتمل مدة الآلام التي كانت مقدرة له. لقد خسر متجر الفيديو الذي كان يشرف عليه. وباع بيته ثم قصد المطار وفي جيبه رسالة من طبيب اخصائي لعلاجه. كانت الخواطر التي تجول في نفسه في تلك الفترة ان فائدة الآلام والمشاكل هي أنها تحرك الشخص في اتجاه جديد، وقد تنتشله من الضياع أو تفتح أمامه مجالات أخرى، لكنه لم يكن يدري في أي اتجاه ستدفع به المشاكل القديمة...
قضى عبداللطيف اسبوعه الأول في لندن يتنقل بين غرفته في الفندق وبين المصحة في حي بادينغتون حيث قرر الطبيب أن يجري له عملية جراحية. ورغم ان العملية تكللت بالنجاح فإنه وجد أن العزلة المضروبة حوله تكاد تتحول الى مرض آخر، فقد كان يرى حسن في المساء من حين لآخر. لكن يومه يظل فارغاً يملأه الشوق والحنين الى أمه وبلده. اللغة لا تسعفه والتجارب التي مرت به حتى الآن لا تشير الى أن لندن قبلت به وفتحت له يدها، وأعطته ما تبقى فيها من حسنات في أيامه الأولى كأجنبي فيها. عادة ما تغدق لندن على هؤلاء شعوراً من الأمل الشديد فيتصورون أن المدينة تغمرهم بالعطف والحظ.
الهجرة تطغى على أحلام الكثيرين في مدينته. الحديث عن الصعوبات يؤدي دائماً الى الحديث عن الهجرة الى أوروبا. وأخبار المهاجرين فيها تكون عادة مثل البسكويت مع شاي الظهيرة. لكن لا يدركون أعباء المهاجر في أوروبا ولا المعاناة التي يعيشها. خطيبته فاطمة كانت ضد سفره للعلاج في أوروبا. طبعاً أخفى عنها الحقيقة هي الأخرى، لم يستطع أن يقول لها انه يريد أن يبتعد عن كل شيء الى أرض أخرى وليس بامكانه غير التعلل بنية أخرى. على الأقل لن يصارحها انه لن يعود اليها سواء نجح في مسعاه وظل في لندن، أم رجع الى مدينته خائباً.
كان يحلم ببداية جديدة، لقد انتهت فترة من حياته، وتحول تفكيره من الهروب والاختفاء في مدينة قاسية الى الاستقرار فيها نهائياً. ربما بدأ فيها من جديد مغامرة متجر الفيديو. لندن تسبغ عليك القسوة وتوفر لك الوسائل لنسيانها.
كان مشروع زواجه من فاطمة سيتحول الى وسيلة اخرى للنسيان، وعندما اتهمته بعدم الوفاء التجأ الى الهروب. انه يواجه المشاكل بالهروب منها دائماً. هذا أدى الى تراكم مشاكل المتجر. والهروب مرة اخرى الى المطار. ويتذكر آخر نصيحة من أمه ان لا يتزوج امرأة اجنبية. كانت تضحك وهي ترمي بكلماتها في أذنه وكأنها كانت تحثه على الزواج. لو استطاع التوافق مع انكليزية لحققت له اقامة دائمة في البلد. تحول هذا الى حلم يغذي خياله باستمرار. عندما ينكب الرجل على بحث مضن عن امرأة فإنه لا يحصل عليها. وكان عبداللطيف يمارس هواية الحديث مع نساء غريبات. وقد جلب عليه ذلك مشاكل عدة، لكنها لم تكن في حجم المفاجآت التي لا تزال تنتظره. وعاد يحاسب نفسه لماذا تخلى عن خطيبته بتلك الطريقة، غير انه في حاجة الآن الى من يضمنه في اقامة مستمرة حتى يتأكد من مصيره الجديد. انه لا يتجرأ ان يسمي هروبه مصيراً. لقد اشعلت شهوته النار، وها هي المدينة تتحول الى حطب وتحرق آماله. لا حديث فيها الا عن الاغتصاب، الكل يغتصب الكل. لا حديث فيها إلا عن مرافعات الاغتصاب في المحاكم وفي الجرائد. وكأن لندن في حاجة الى شهوة من العنف الخيالي تقابل موجات العنف الحقيقي. وكلما زادت أخبار عنف الاغتصاب في الجرائد كلما زاد اهتمام الناس بتلك الجريمة. واختلط في الاذهان ما هو حقيقي منها وما هو مزيف ومزور. لكن ما الذي يدفع امرأة مثل ليندا ان تدعي ان عبداللطيف اغتصبها. هل هو مجرد انتقام من رجل يمثل كل الرسوبات ضد الجنس الآخر. أم أن تلك المرأة كانت في حاجة الى رعاية واهتمام، فإذا بها تخلق قضية للحصول على اهتمام الشرطة والمحاكم وغيرها. لا ينكر عبداللطيف ان هناك اغتصاباً في كل المجالات، وان انتشار أخباره في وسائل الاعلام هو دليل الى وجود كبت عميق الجذور في المجتمع. لكن لماذا يتحول هو نفسه الى خبر والى احصائية في ذلك الوجود. لقد اعطت ليندا شهادات متناقضة، واختلطت براهينها، ومع ذلك لم تجد الشرطة في تناقضاتها دليلاً الى انها لا تقول الحقيقة. ومع ذلك لم يفقد عبداللطيف الإيمان ببراءته.
لا أحد يزور عبداللطيف في السجن غير المحامي والمترجم. أما صديقه حسن فقد ابتعد عنه كأنه لا يريد ان يتورط معه ومع القضاء منذ ان أدلى بشهادته للشرطة عن سيرة صديقه. وهكذا وجد عبداللطيف نفسه يكتب الى سفارة بلاده يشرح فيها الحصار المضروب حوله ويشتكي من ان المحامي لا يدافع عنه بقدر ما يريده ان يعترف بجريمة لم يقترفها. لقد تشابهت الظروف، المجرم كالبريء. المهم ان تنحل التهمة في جهة الإدانة. وإذا دانته المحكمة فإن مدة سجنه لن تقل عن سبع سنوات. وهكذا قضى ستة عشر شهراً في الاعتقال ينتقل من سجن الى آخر في انتظار محاكمته. هناك تعرف على الانكليز من سجونهم. انها سياحة في قلب الجريمة. يقول عبداللطيف ان الحضارة الموجودة في الشوارع ما هي الا حالة سطحية، ما هي سوى صورة مضطربة ومشوشة. وقد ينفع وصفها بالقناع الحضاري. يسقط ذلك القناع في الأماكن المغلقة. وينتفي التظاهر في المناسبات التي لا تتساوى فيها العقول، لا تتساوى فيها الرقاب أصلاً: "وعندما تقع في يد الشرطة فإن المجتمع يظهر لك وجهاً آخر، لم تكن تحلم انه لا يزال موجوداً في أوروبا... كل المجتمعات تتساوى في الحضيض".
استقبل عبداللطيف زائرة جديدة لم تكن من الشرطة أو من جهاز القضاء. كانت مساعدة اجتماعية ارسلتها السفارة المغربية لتفقد احواله. وعندما انتهت المقابلة اقتنعت المساعدة ان المحامي لا يقوم بواجبه كما هو مطلوب منه، وكأنه يتفق مع الشرطة في إدانة عبداللطيف، فاقترحت عليه ان يوكل محامياً جديداً هو ميشيل عبدالمسيح الذي بدأ للتو في البحث في ملف عبداللطيف للعثور على الثغرات في القضية. على الأقل لم يعد هناك داع لمترجم، فالمحامي عربي ويتقن الفرنسية. لكن الطريق أمام ميشيل لم تكن معبدة، فالملف منتفخ بالحجج والأوراق التي تدين عبداللطيف بصورة أو بأخرى. أما الاتصال بالشهود فقد كان مستحيلاً. الا ان بداية هجوم المحامي كانت في تحدي استنتاجات الفحوص الطبية التي اجريت على المرأة والمتهم. وهنا قام الدفاع بنفي الحجج السابقة ضد عبداللطيف. ومع ذلك لم تسمح المحكمة بإطلاق سراح المتهم بكفالة حتى يحين موعد المحاكمة بحجة انه قد يهرب من البلد. وكان على المحامي في هذه المرة ان يتبع خطاً آخر، ويقوم ببحث في خلفية ليندا وشخصيتها وماضيها. وما عثر عليه الدفاع في ذلك الاستقصاء كاد يطيح القضية كلها. ولم يصدق عبداللطيف ما سمعه عندما أخبره ميشيل ان ليندا تعمل مومسياً، وكان رجال الشرطة توصلوا الى النتيجة نفسها غير انهم أخفوا تلك المعلومات ولم يدمجوها في ملف الدعوة. الا ان شهية الدفاع ازدادت الآن. فما بالك اذا عثر على سوابق اخرى في ماضي ليندا أو حاضرها.
فترة البحث تلك لم تكن سهلة. بدأ يظهر كأن رصاصة تهمة اغتصاب طائشة أصابت عبداللطيف. والسؤال الآن هو لماذا؟ ولولا ان عبداللطيف يؤمن بالقدر لأصابته انتكاسة وأودت بعقله أو جمدت قلبه. لا بد ان هناك بشراً مثله يعيشون التهمة ويعانون من سياطها ولا يستطيعون ان يحرروا أنفسهم منها. النساء يعانون من تلك الجريمة التي ظلت ترتكب ضدهن في صمت. واليوم تفتح وسائل الاعلام الباب على مصراعيه فيكثر الساقطون ويختلط الحابل بالنابل حتى لم يعد الرجال يعرفون متى أحبوا النساء ومتى اغتصبوهن.
كان وجه براءة عبداللطيف ينكشف يوماً بعد آخر من بين ضباب الحجج الواهية التي كانت تغلفه. انطلق المحامي يبحث في جهة اخرى، في ماضي المرأة، لعله يعثر على الدوافع والأسباب التي جعلتها ترمي بسهام تهمتها الخطيرة. فاكتشف ان ليندا كانت تعالج في مصحة للامراض العقلية، وهكذا عزم على الحصول على شهادة الطبيبة التي كانت تعالجها. ومع ذلك أصرت ليندا على ان عبداللطيف اعتدى على شرفها، ولم تبخل بتزويد المدعي العام بأوصاف خصبة لمعاناتها في تلك الليلة المشؤومة.
كان المحامي يدرك انه لا خلاص لعبداللطيف من تلك الكماشة الا إذا أقنع الطبيبة بتقديم شهادتها على حالة ليندا النفسية والعقلية، غير ان الطبيبة رفضت حفاظاً على أسرار المريضة. لكن ماذا عن مستقبل انسان مهدد بالسجن، حياته ستضيع هكذا هباء. وعندما التجأ المحامي الى القانون ليجبر الطبيبة على اعطاء شهادتها اكدت ان ليندا كانت مصابة بهواجس الاغتصاب، الشيء الذي أدى بها الى اتهام رجل آخر باغتصابها في الماضي.
لم يبق أمام الشرطة غير اغلاق ملف الدعوى واطلاق سراح عبداللطيف بعد ان قضى ستة عشر شهراً في السجن مظلوماً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.