البعيد عن العين بعيد عن القلب... ومع ذلك لا يسري هذا القول على صالح النعيمة قائد الهلال ومنتخب السعودية لكرة القدم، ليس لأنه لم يمض وقت طويل على اعتزاله، بل لان نسيان الكبار والمشاهير لا يتم بسرعة. سألت زميلي عايض الحربي وانا في الرياض: اين صالح؟ فأجرى اتصالاته بسرعة، ثم توجهنا معاً الى قطعة ارض تقام عليها "فيلا" سكنية... ذلك ان قلب الدفاع العملاق صار مقاولاً. لنقل انه كان مهندساً داخل الملعب وهذا ما اصبح عليه خارجه "اشرفت يوماً ما على العمل في الفيلا الجديدة لوالدي، وما ان قررت الاعتزال حتى فكرت بدخول ميدان المقاولات مباشرة". سألت صالح لقاءً، فسألني: من أي عيار تريده؟ الثقيل او الخفيف؟ والحال ان الحديث "الثقيل" قد يتسبب بمشكلات... ولطالما كانت الحقيقة مرة! ومع ذلك، لم يبن ابن الرياض، الذي ولد عام 1959، مجده بفنياته ولياقته البدنية بقدر ما بناها بصراحته وموضوعيته، وهما من سمات شخصيته، ربما بسبب تربيته العسكرية والدينية في كنف عائلة رزقها الله 8 ذكور. ولأنه صريح وموضوعي، لم توفره المشكلات والمطبات... فكان لها بالمرصاد. رسالة عبر "الحياة" اللقاء بدأ في الرياض، وانتهى في لندن. لماذا حضر الى لندن: "بعثت برسالة عبر الفاكس الى الرئيس العام لرعاية الشباب الامير فيصل بن فهد بن عبدالعزيز استأذنته فيها السفر لاجراء عملية منظار في ركبتي المصابة منذ مباراة الكويت عام 1986 في الكويت، لكن يبدو ان الرسالة لم تصل وارجأ الطبيب العملية لانشغاله وأكد انه سيحدد لي موعداً آخر في اقرب فرصة... كنت اود بالتأكيد وصول الرسالة لايماني بتقدير الامير فيصل ومحبته لكل من خدم الوطن ولم يبخل بنقطة عرق واحدة في سبيل مجده ورفعته. لم تصل الرسالة عبر الفاكس، وانا واثق انها ستصل عبر هذا اللقاء". الهلال "عاشق التحدي" بدنياً، يملك صالح حتى الساعة قواماً نموذجياً... ساقان طويلتان وصدر منفوخ ومشية ولا مشية كارل لويس. سألته: لماذا لم تمارس العاب القوى؟ اجاب: "مارستها وكنت بطل مدرستي عمر بن الخطاب المتوسطة في الوثب الطويل وانت الوحيد الذي عرّج على هذا الموضوع حتى اليوم، لكن كرة القدم وحدها خطفتني على غرار ما فعلت بغيري". فنياً، كان صالح صاحب مدرسة في مركز قلب الدفاع، تماماً كفرانتس بكنباور في منتخب المانيا... يحسن توجيه زملائه، من حارس المرمى الذي يقف خلفه الى لاعبي الميدان التسعة الذين ينتشرون امامه. كان ضابط الايقاع ومفتاح الخطة وهمزة الوصل بين المدرب واولئك الذي يزرعون الملعب زرعاً. صالح فنان، والفنانون كثر... والاهم من ذلك ان صالح قيادي، والقادة قلة! وهنا تحديداً بيت القصيد. هل تذكرون اسماء كثيرة للاعبين عينوا قادة لمنتخبات بلادهم قبل ان يكونوا قادة لفرق انديتهم؟ الجواب: "الكثيرون، وربما الجميع، لا يذكرون سوى واحد هو صالح النعيمة". كيف؟ "كان ذلك وانا في سن الثانية والعشرين عام 1980 خلال دورة حبية في سنغافورة شاركت فيها منتخبات سنغافورة وماليزيا وتايلاند. كان المدرب هو البرازيلي مانيللي ومساعده مواطنه ميدينا". ويتساءل صالح: "لماذا اخترت انا بالذات مكان ابراهيم تحسين؟ لأن المدرب وجد عندي صفات القائد... لست مغروراً في اجابتي، وانا اكتسبت الكثير من شخصية والدي العسكرية، رحمه الله، ومن تربيتي في الهلال... دخلت معركة مع نفسي فإما اكون او لا اكون ومع لاعبين عمالقة... تربيت في بيت الهلال اي في بيت يعشق وجمهوره التحدي وانا جزء من هذا الكيان، ففرضت نفسي... أعترف بأنني تغيرت كلياً وصرت منتظماً من الالف الى الياء بعدما كنت اميل الى الشغب والى اهمال جري المسافات الطويلة... احسست فعلاً بأنني صحوت من حلم... كان ابراهيم اليوسف قائداً للهلال في ذلك الوقت وصرت قائداً للهلال بعد ذلك بسنتين عام 1982 وبقيت كذلك في الهلال والمنتخب حتى اعتزلت عام 1991". وأسال صالح كيف كانت علاقته بزملائه لاعبي الفرق الاخرى، فيجيب: "كنا كالاعداء داخل الملعب، واحباء خارجه، وتكمن المشكلة في ان الجماهير لا ترضى بمثل هذه العلاقة لغيرتها على لاعبيها". صار صالح قائداً للمنتخب ثم الهلال، وويل لأي من اي لاعب اذا ما تقاعس في حضور ابي فهد... فنصيبه سيكون "دشاً" ساخناً على ارض الملعب او في غرف الملابس او في اي مكان آخر. ويعترف ابو فهد: "عبادي الهذلول لاعب وسط الهلال والمنتخب سابقاً قال لي يوماً: اذا لم اسمعك تتحدث اليّ داخل الملعب لا اعود اعرف كيف العب". ويستطرد: "من واجب قائد الفريق ان يعرف المعطيات النفسية لكل من زملائه. سبب الدش هو انني حريص على اللاعب وسمعته وعلى ولاءي للفريق الذي ادافع عن الوانه... قائد المنتخب، اي كان، هو شمعة مضيئة للآخرين... واعترف هنا بأن هناك من يحتمل الكلام الثقيل وهناك من لا يحتمله كخالد الغانم وسعيد مبارك و... يوسف الثنيان". ويعتبر صالح "ان كرة القدم تصميم وإقدام وروح قتالية قبل ان تكون مهارات فنية وبدنية وخططية... وهذا هو الفارق بين جيل الامس وجيل اليوم. كنا باقة ورد متناسقة، تجمعنا وطنيتنا ومحبتنا للاخضر، وباتت تطغى العوامل المادية على جيل اليوم... وهذا هو الفارق ايضاً بين هلال الامس وهلال اليوم، ومنتخب الامس ومنتخب اليوم". ويوضح: "كان هناك ولاء، والولاء اختفى. الامير فيصل بن فهد أمّن الاحتراف للسعوديين وقام بواجبه، لكن الذين لم يقوموا بواجباتهم هم اللاعبون الذين لم يعرفوا المعنى الحقيقي للاحتراف... هناك تخلف معنوي وعدم انضباط وتملق للجماهير والصحافة... كان يفترض بهم ان يردوا الدين باخلاصهم وجهدهم، وهذا ما لم يحصل حتى الآن". المنتخب كان باقة ورد ووحدة واحدة: "لا أنسى ابداً مباراتنا ضد سنغافورة عام 1984 عندما اصبت في رأسي فسال الدم واجريت لي 6 غرز، وبادر ماجد عبدالله الى الطلب بعدم تغييري... اعطتني كلماته قوة جبل لا يهتز، وانا أحفظ هذه الذكرى لماجد لأنه وثق بي وبقدراتي... الاخضر كان قلباً صاخباً حتى لو اختلفت الوان اندية لاعبيه". قائد منتخب العرب...لماذا؟ وما من انسان معصوم عن الخطأ بالتأكيد، ويعترف ابو فهد بأن ظُلم يوماً ما لكنه يوافق في الوقت ذاته على الدرس الذي لُقن له هو درس لاجيال بكاملها... وهذا ما سيرد لاحقاً. ولم يتم اختيار صالح قائداً للهلال والمنتخب الخضر وحدهما بل لمنتخب العرب ايضاً "ندرت نفسي للمنتخب وللهلال على مدى 15 عاماً... ومن ذكرياتي الحلوة انني عينت قائداً لمنتخب العرب عام 1984 الذي لعب ضد منتخب جنوبهولندا مع انه كانت هناك اسماء يسيل لها اللعاب امثال المصري محمود الخطيب والجزائريين الاخضر بللومي ورابح ماجر والمغربي محمد التيمومي والقطري منصور مفتاح. يومها قال رئيس الاتحاد القطري في ذلك الوقت سلطان السويدي: "اخترت النعيمة لأن المملكة هي الأم بالنسبة الى الوطن العربي". انت لاعب أو فيل؟ ويعترف صالح: "فرحت كثيراً بالاختيار ثم تألمت كثيراً لأنني اصبت في الحوض في الدقائق السبع الاخيرة... وللاسف الشديد اجمع الاطباء انني مصاب بالتهاب، ولا اعرف كيف حصلوا على شهاداتهم... ومضت ست سنوات وانا العب بعدما تناول مهدىء فولتارين الى ان عرضت نفسي يوماً على طبيب سوري في مستشفى القوات المسلحة بالرياض، وبعد الفحص بالتصوير الصوتي سألني: انت لاعب أم فيل؟ انت مصاب في الحوض، إما ان تخضع لعملية ثم تستأنف التدريب بعد سنة، وإما ان تعتزل ويلتحم العظم. كان ذلك في 1991، فقررت الاعتزال، واجمل ما لدى المرء ان يقدر على الخروج من الباب بدل ان يضطر الى الخروج من الشباك". ويروي صالح: "عندما قررت الاعتزال ذبحت زوجتي 10 ذبائح وقالت: "اخيراً وجدنا صالح"، وقد ولدت ابنتاي اشواق وأضواء وانا في معسكرات خارجية مع المنتخب، والطريف انني لم ابق مع زوجتي في بداية حياتنا المشتركة سوى اسبوعين ثم توجهت الى معسكر في البرازيل لمدة 50 يوماً والى دورة ازمير بتركيا لمدة 3 أسابيع". سر يذاع للمرة الاولى وحكايات صالح في الملاعب وخارجها تحتاج الى مجلد، منها غيابه عن اولمبياد لوس انجليس 1984 لانه اصيب في معسكر تدريبي في البرازيل... وقد أبى في حديثه الا ان يذيع سراً للمرة الاولى: "كنت مصاباً بضعف في البصر عندما العب تحت الاضواء الكاشفة، لم اعلن ذلك لأحد حتى لا يتم التركيز عليه من قبل الفرق الاخرى... والله ستر"! اغلى ثلاث ذكريات وبعد الاعتزال ايضاً "حضنتي والدتي لان ابنها الذي غاب عن الدارة طويلاً عاد سالماً... وهذه ثالث اغلى ذكرى عندي... اما الاولى فهي عندما فاز الهلال على الاتحاد 3-1 عام 1982 في نهائي كأس الملك وقد تسلمت الكأس من الملك فهد الذي قبلني وسألني عن والدي... واما الثانية، فهي تسلمي كأس امم آسيا عام 1984 في الدوحة قبل ان اقدمها الى الامير فيصل بن فهد". حلقة ثانية مع النعيمة غداً.