بعد أن اكتملت ثلاثية الكاتب الروائي خيري الذهبي "التحولات" بأجزائها الثلاثة: حسيبة، فياض، وهشام، وهي تعالج مرحلة مهمة من تاريخ سورية المعاصر، تبدأ من الثورة على الاستعمار الفرنسي والاستقلال وصولاً الى ما بعد هزيمة 1967... وتطرح - في ما تطرح - ما يسميه ب"منفيستو مدن الواحات"، وتتناول تناسخات ميتامورفوزيس المجتمع الساكن منذ مئات السنين بعد أن صنع حضارة كبيرة وباهرة، تبدو آثارها في مظاهر عدة... وتقيم الثلاثية علاقة صراعية على مستويات عدة بين العربي المعاصر وأجداده تاريخه من جهة، وبين الغرب قديماً وحديثاً من جهة ثانية، وتوقفنا الرواية التي تجاوزت الألف صفحة أمام جماليات مدينة دمشق القديمة والبيت الشامي كما لم تفعل رواية من قبل. وتبني الثلاثية عدداً من الشخصيات الروائية، بناء يقوم على توظيف امكانات اللغة وعلم النفس والفلسفة والاجتماع... لتنقل عبرها حياة اجتماعية وسياسية وثقافية ثرية بالتفاصيل ومركبة ومعقدة. ولعل إمكانات التصوير للشخصيات والأماكن والعلاقات، هي من أبرز ما يلفت الى هذا المشروع الروائي الذي يشتبك ابداعياً وجدلياً مع مشروع فكري. أمام اكتمال هذا المشروع المزدوج في الثلاثية تحديداً، بمحاوره المتعددة، ومقولاته الفكرية، جاءت فكرة إقامة هذا الحوار مع صاحب الثلاثية، فكان هذا الحوار الذي ظل - على رغم كل محاولات أن يكون شاملاً - مفتوحاً أمام مزيد من الأسئلة التي تبدو بلا نهاية. في ثلاثيتك "التحولات"، يحمل كل جزء اسم الشخصية الأولى: حسيبة، فياض، وهشام. وهي شخصيات تبدو كل منها ذات بعدين، رمزي وواقعي، هل تحدثنا، أولاً، عن هذه المسألة؟ - يجب أن أعترف بداية بأنني لم أفكر، حين كتبت الرواية، بأي بُعد رمزي على الإطلاق. ما فكرت به تحديداً هو كتابة رواية تعالج تحوّلات المجتمع في سورية. وحين أقول "تحوّلات"، لا أعني التغيرات والتبدلات، بل التناسخات الذي تترجمه الميتامورفوزيس، أعني تناسخات هذا المجتمع الساكن منذ مئات السنين. بدءاً، هنالك فهم خاص لكلمة سورية نفسها. فأنت تعرف أن من وضع هذا الإسم هو الغرب، وتحديداً لويد جورج. فهو حين فكر في تقسيم المنطقة، نظر الى الخارطة وتذكر أسماء كلاسيكية من العهد الهلنستي وأسماء توراتية، فأطلق أسماء سورية وفلسطين... وأنت الآن، تجد الإنسان السوري قلقاً في سورية. فهي تبدو له دائماً وكأنها وطن موقت. فهي ليست ما تمثله مصر للمصريين، أو العراق للعراقيين. هي مكان موقت. قطر موقت، على طريق الوصول الى وطن آخر، أكبر أو أصغر. لذلك، أنت ترى العروبيين يرونها خطوة على الطريق الى الوطن العربي الكبير، والقوميين السوريين يجدونها خطوة على طريق سورية الكبرى، والإسلاميين الى الوطن الإسلامي/الدولة الإسلامية. الكل يسعى، ضمن هذا المنظور، الى رفض المفهوم السياسي لسورية المعاصرة. وفي الأدب، ظل هذا المنظور هو الغالب. ولهذا فإن انعكاس المكان السوري في الأدب ظل ضعيفاً أو غير موجود. وربما كان هذا سبباً من أسباب التعميم والإصرار من قبل السلطات الأدبية في سورية على الكتابة باللغة الفصحى. ففي سورية لا تنشر دور النشر الرسمية ما يكتب بالعامية، وأنت تعرف أن العامية هي شكل من أشكال الاعتراف بالمكان وتأثيراته على اللغة. أتذكر أنه، قبل سنوات، كان في التلفزيون برنامج لواحد من عجائز اللغة يقول لك: قل هذا، ولا تقل هذا. إنه الإصرار على تنقية اللغة. ما المقصود من تنقية اللغة؟ العودة بهذه اللغة من تلامسها مع اليومي الى جذر متخيل عن لغة كان العرب يتحدثون بها قبل أربعة عشر قرناً. المهم أنه لا يجوز المساس بهذه اللغة. وقد صادفتني مشكلة مع روايتي "حسيبة" حيث هناك جملة ترد على لسان "خالدية" المرأة التي تعرضت الى حالة حب مع فتى يصغرها بعشر سنوات، فأذلّها وحطمها، وأرادت أن تعبر عن هذه العلاقة فقالت "الحب كلبين علقانين ببعض، ما بيفرقهن إلا ضرب العصي وسطل المي". ولقد هاجمني كثيرون لاستخدامي العامية، وأنا أؤكد أنني لا أستطيع أن أجعل هذه المرأة تتكلم باللغة الفصحى. بل أرى أن الكتابة بالفصحى تغيّب المكان والزمان. كأنك تكتب بلغة غير واقعية. ولو تذكرنا كيف تعامل مسرحيّنا الكبير سعد الله ونّوس، في رأس المملوك جابر، مع اللغة، لرأينا كيف اضطر - مثل كثيرين من المبدعين الذين أجبرتهم اللغة على التعامل مع الزمان والمكان - الى نقل بطله الى زمن ومكان آخرين، حتى يعبر عن فكرة سقوط أولئك الذين يبيعون المستقبل من أجل اللحظة الراهنة، إذ كان من المستحيل أن يجعل بوّاباً يتحدث باللغة الفصحى. أعود الى سورية التي عاشت سنوات ما بعد الاستقلال باحثة عن كل أشكال الوحدة... انها غير مستقرة. فهي تحتاج الى بحر حيث بحرها أعطي للأتراك أو لبنان أو فلسطين المهوّدة. لم يبق للسوريين ساحل يوازي مساحة المائتي 200 ألف كم مربع. هذا الإحساس يجبرها على البحث عن شكل من الوحدة، وقد فشلت محاولات الوحدة كلها، وظل السؤال: ما هي سورية؟ ومع إلحاح السؤال أخذت تتشكل القناعة بما هو قائم، بالكيان المحقق، وأخذ هذا الكيان يحضر في الأدب. مدن الواحات كأن "التحولات" تسعى، من بين أهداف أخرى، الى تحديد ما لسورية، هل أردت ذلك، وهل استطعت تحديدها في صورة نهائية؟ - في "حسيبة"، ومنذ البدايات، وضعت نوعاً من المنفيستو يتحدث عن "مدن الواحات". فسورية كلها، من أنطاكية، الى عسقلان، هي مدن الواحات. ليس فيها سهول عظيمة كما في مصر أو العراق. لذلك كانت حياتها قائمة على القوافل: تجيء هذه حاملة البركات والرسالات والأفكار، فتنتعش البلاد مثلما انتعشت تدمر وايبلا وماري و... مدن كثيرة. وتبتعد طرق القوافل فتتكيس هذه المدن منتظرة عودتها. وأمامنا مثل حديث. فحين مرت قافلة النفط من سورية رأينا كيف ازدهرت اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً... وحين ابتعدت هذه القافلة، عاد السوريون الى التكيس وانتظار الخلاص. حديثك هذا يجعلنا نرى مشروعاً لسورية في الثلاثية، أية رسالة تريدها وأي مشروع تحمله ثلاثيتك؟ - أنا أرى أن سورية صنعت حضارة كبيرة. ولكن هذه الحضارة توقفت، منذ القرن الرابع، عن العطاء، وتحولت الى التناسخ. إنها تنسخ ما صنع الأجداد، ولا تقدم جديداً. وكل ما فعله مثقفونا، طوال الألف سنة الماضية، هو شرح لما أبدع الأجداد. خذ، مثلاً، عالماً مثل ابن خلدون، وهو مبدع نظرية، فهو لم يؤثر في معاصريه ولا في لاحقيه. وهو حين مرّ في مصر، علّق عليه المقريزي بجملة واحدة "ومرّ في مصر مغربي تيّاه اسمه ولي الدين". لم يقرأ نظريته أو مقدمته، ولم تعرف عنه الأجيال التالية شيئاً؟ هذه العلاقة مع الأجداد اتخذت في ثلاثيتك أبعاداً وأشكالاً تعكس النظرة الى الذات من جهة، وتعكس العلاقة مع الغرب من جهة ثانية. وكأن الإنسان العربي الآن واقع بين عبء الأجداد وبين هيمنة الغرب. يستنجد بالأجداد حيناً، ويلجأ الى الغرب حيناً، ويظل ممزقاً، كيف وقعنا في هذا التناقض؟ - في "التحولات" كنت أحاول أن أرى كيف تناسخ عالمنا، في الألف سنة الماضية، من دون أن يصنع جديداً. أنت تعرف أنني، في "فياض"، كتبت روايتين متداخلتين: رواية فياض الفتى الراعي الفقير الذي يعيش في خرابة قلعة شيزر، ويلتقي القومندان الفرنسي روجيه لوبلان الذي يتبناه ويصنع منه مثقفاً غربياً، لكن فياض ينقلب عليه، حين يتعرف - عن طريق لوبلان نفسه - الى عالم أسامة بن منقذ. والرواية الثانية هي رواية أسامة هذا الذي يعيش في لا وعي فياض، والصدام الحضاري بين الشرق والغرب ممثلاً في الحروب الصليبية. هذا الصدام الذي عبر عنه أسامة في كتابه "الاعتبار" وحاولت الإفادة منه، وإحياء عالم أسامة في تلك الفصول المتداخلة مع عالم فياض. فياض الصوت وأسامة الصدى. فياض الذي لا يرى نفسه إلا من خلال أسامة. لأننا لا نرى أنفسنا إلا من خلال الأجداد. كثيراً ما أحسد الأفريقيين لأنهم يعيشون غير مثقلين بتاريخ الأجداد وانجازاتهم. الأجداد حاضرون عندنا دائماً كي يشعروك بضآلتك. فمن أنت أمام خالد بن الوليد، المأمون، الجاحظ، التوحيدي... أنت قزم أمام جد أسطوري تحس بضغطه عليك، لا بكونه معيناً لك. وأنت لا تحاور هذا الجد، بل ترضخ أمامه محاولاً إرضاءه. هذا كله لأننا لم نقدم شيئاً للبشرية. وحين استدعينا الأجداد لنحتمي بهم، أركبناهم على ظهورنا. وهذه المأساة يعبر عنها هشام، في الجزء الثالث، حين أصبح عبداً لهم يحاصرونه بالأسئلة: من أنت، ما صنعت؟ إنها لعنة الأجداد تلاحقه. بين الغرب والأجداد دعنا نتوقف هنا لنرى علاقة كل من فياض وهشام بالأجداد وبالغرب. لقد رأينا فياض يستدعي أسامة بن منقذ لمواجهة الفرنسيين ومحاولة "فرنسته"، وينجح في التحول الى ثائر، وعلى العكس من ذلك فإن استنجاد هشام بالأجداد حين جاء هارباً من الغرب لم يمنحه الخلاص، بل وجدنا الأجداد عبئاً آخر يلاحقه ويزيد في تمزقه. كيف ترى كلاً من العلاقتين؟ - فياض عاش في الثلاثينات من هذا القرن، في ظل صدام حضاري وعسكري مع فرنسا/الغرب. فكان الأجداد بمثابة منارة له. وهنا، دعنا نعود الى بدايات القرن حينما خرج العرب على العثمانيين مطالبين بالاستقلال. لقد قامت، فجأة، حركات قرر أصحابها إلغاء ألف سنة من تاريخنا، فقالوا: إننا أحفاد الأمويين والعباسيين. وماذا عن الألف سنة من حكم الأتراك بدءاً بالسلاجقة وانتهاءً بالعثمانيين؟ كيف يمكن الغاء ألف سنة من تاريخ أمة؟ نحن نلعب مع التاريخ لعبة التزوير. وأنت حين تسأل المثقف العربي المعاصر ولا أعني المختص بالتاريخ، عن تاريخه، تجده يعرف شيئاً عن الخلفاء الراشدين وعن الأمويين، ثم لن يتذكر واحداً من الخلفاء الأربعة عشر الذين جاءوا بعد المتوكل، حتى أنه لن يذكر اسم الخليفة الذي ضيّع بغداد. ليس لديه سلم تاريخي كما لدى الأمم التي تقرأ تاريخها قراءة صحيحة. أنا حاولت أن أقرأ كيف صنع هذا التاريخ. وكما قلت، فإن فياض الذي هو ابن تلك المرحلة، حاول الاستنجاد بأسامة بن منقذ لأنه يعيش في قلعة شيزر/القلعة التي حارب فيها أسامة الصليبيين. لهذا جاء فياض صدى لأسامة؟ - بالتأكيد، مع اعتبار الفارق بين زمنيهما. فزمن فياض هو زمن الانهيار. لاحظ أن العلاقة بين أسامة والقائد الصليبي أندرونيكوس كانت ندية. بل تميل لصالح العربي حامل الحضارة في وجه الفرنجي الهمجي والمتوحش. بينما اللقاء بين لوبلان وفياض جاء على العكس تماماً. فروجيه لوبلان هنا يمثل فرنسا حاملة الحضارة والتكنولوجيا، وفياض راعٍ يعيش في خرابة قلعة. فياض قزم أمام الغرب وقزم أمام الأجداد، فكيف يمكن أن لا يحس بالدونية؟ عليه أن يجد سنداً من الأجداد. أما هشام فعلاقته مع الأجداد مختلفة لكونه ابن مرحلة أخرى، وثقافة وعي مختلفة. وقد حاول استخدام الأجداد بانتهازية، كما يفعل كثير من الكتاب العرب الآن حين يكتبون روايات ترضي الغرب... فوقع تحت وطأة الأجداد. وسط حصارهم له. فرواية هشام لقاء بينه وبين أشباح الأجداد. شخصية هشام بما هو مثقف عاش مرحلة الشعارات الكبيرة والاعتقال والتمزق والهروب الى الغرب وما حققه من نجومية الكاتب، ثم صدامه مع تقاليد هذا الغرب... وعودته ممزقاً... كل ذلك يشير الى البعد التمثيلي لهذه الشخصية، فماذا تمثل لك شخصية هشام؟ هل يعبر عن مرحلة محددة؟ - مع بداية الاستقلالات العربية، حكم المنطقة أناس تثقفوا في الغرب حيث حرية الرأي والتعبير وحرية تشكيل الأحزاب والنقابات و...الديموقراطية الغربية. فما مدى ممارستهم لثقافتهم العربية هذه؟ خذ خالد العظم ونوري السعيد ومصطفى النحاس... وسواهم، كلهم حملوا أفكاراً من الغرب. ولكن هذه الشريحة التي حكمت بعد الاستقلال كانت قشرة على سطح المجتمع الذي ظل ابناً حقيقياً للعهد المملوكي الذي أسَّس لقدوم العثمانيين، ولإلغاء المواطن أمام الحاكم، فكل شيء للحاكم، والمواطن صفر. هذه الشريحة هي التي حكمت بالعقلية نفسها، وسيطرت على المجتمع بعد القضاء على "الرجعية". هشام وجيله اصطدموا بهذه الشريحة الحاكمة، ومرت المنطقة في مرحلة من السجون وإلغاء شخصية الإنسان، حتى جاءت هزيمة 1967، التي حطمت أحلام ذلك الجيل بأن في إمكان هذه الطبقة الحاكمة صنع شيء إيجابي كبير. وحين هزمت، ليس في المنطقة العربية فقط، بل إن العالم الثالث كله قد هزم في تلك الهزيمة. ولنذكر سقوط نكروما وسوكارنو وقوى العالم الثالث. حينئذ، قررت شريحة كاملة من ذلك الجيل الالتحاق بالغرب، وإلغاء ماضيها المملوكي، ولكن هل استطاعوا؟ هشام تجاوز ماضيه، ومضى الى الغرب وصار نجماً روائياً، ولكن... في لحظة، يأتيه رسول الوطن متمثلاً في ذلك الكاتب المغمور الذي يشارك معه في ندوة أدبية في إيطاليا، فيرى فيه ماضيه كله، ويستيقظ فيه العش القديم، ويبدأ يرى العالم من خلاله. ولهذا سيرى ابنته ناديا المدمنة على الكوكايين وهي تمارس علاقتها مع صديقها بحريّة، سيرى العار بعين الماضي، وسوف يصفعها، تحت وطأة هذا الماضي، وفي لحظة شكر، تلك الصفعة القاتلة. لنقف قليلاً أمام هشام في الغرب. لقد نجح في تجاوز ماضيه وفي خلق ذات جديدة، ولم يصطدم بالغرب إلا حين جاءه رسول الوطن، وتحديداً عبر علاقته بإبنته، ماذا أردت أن تقول عن هذه العلاقة؟ - طبعاً هشام مضى الى الغرب لاجئاً ومسلّماً ومتخلياً عن ماضيه، ظناً منه أنه حين يفعل ذلك سيحصل على اعتراف الغرب به. وبالنسبة الى هذه العلاقة سأخبرك بشيء، كانت علاقة هشام بالغرب موضوعاً لرواية فكرت بكتابتها قبل فترة من البدء ب"التحولات". ولكني توقفت إثر حوار مع صديقين عاشا في الغرب طويلاً، إذ جمعهما - وهما أستاذان جامعيان كبيران - على أن العربي الذي يعيش في الغرب فترة ويندمج فيه، يقبل بمفاهيمه عن العلاقات الجنسية، وأنه لذلك، لا يمكن أن يقتل ابنته حين يكتشف أنها تقيم علاقة خارج مؤسسة الزواج، وكما يحدث في الشرق. هذا الرأي أحبطني حينئذ فتوقفت عن كتابة الرواية. لكن حين اشتغلت على "التحولات". عادت الفكرة وفرضت نفسها، فوضعتها في شخصية هشام. والآن، وأنا أتابع تقارير وبرامج الفضائيات تتحدث عن علاقة العرب والأكراد، والمشارقة عموماً، مع الغرب هناك، أسمع وأرى كثيراً عن مشاكل الاندماج في هذا العالم الذي طوّر علاقات بين الفرد والمجتمع مختلفة عن علاقاتنا. فكثيراً ما تسمع عن تدخل الدولة بين الأب وأبنائه عندما تحدث مشكلة، فهي قد تأخذ الولد أو البنت من أسرته وتعطيه لأسرة أخرى تعتني به وتمنع أي اتصال بينه وبين أسرته الأصلية خوفاً من التأثيرات الضارة. عندها اكتشفت أنني على حق. ما أردت قوله هو وجود مستويين وفهمين للعلاقة بين الفرد وأسرته: المستوى الأول هو الذي نعرفه في الشرق، حيث هيمنة الأب المطلقة من جهة والتضامن الأسري من جهة ثانية. والمستوى الغربي الذي يعتبر الإنسان فرداً له كامل الحرية بصرف النظر عن رغبة الأسرة. الصدام بين هذين الفهمين، والذي شكل واحدة من موثيقات الرواية، هو ما أردت أن أطرحه. في الثلاثية احتفاء بالمكان يجعله يظهر كواحد من أبطال العمل الروائي. وهناك ارتباط وثيق بين المكان والشخوص الروائية. ما هي فلسفتك لهذا الاحتفاء أولاً، وللعلاقة بين الشخوص والأماكن التي جعلتهم يعيشون فيها، وكيف يؤثر المكان فيهم، والى أي حد يساهم البيت العربي الدمشقي في بلورة هذه الفلسفة؟ - لنقل ان هنالك نوعاً من الباطنية يعيشها سكان الشام، بالإضافة الى الفرق الإسلامية التي اضطرت الى التقية للهرب بثقافتها من جور السلطان. فبلاد الشام لم يعرف التاريخ غازياً من الغزاة لم يعبر بها هي والبلقان. ولهذا كان لا بد لها من شكل من أشكال الدفاع، وكانت التقية. هناك طبعاً الباطنية الثقافية والباطنية المعمارية. فأنت حين تمر في حارة من حارات دمشق أو القدس أو حلب، وأنت غريب، سترى حارات ضيقة وشبابيك وأبواباً كابية، وستشعر بالأسى لهؤلاء الناس. لكنك إذا دخلت الى بيت منها، ستكتشف أي جنات يحتوي هذا البيت، لكنها لصاحب البيت ولساكنه، وليست للآخر. هنا العمارة المنكفئة الى الداخل، ترى الخارج ولا يراها. وهي لا تريد الاختلاط به، لأنه عدو أو غازٍ أو مجتاح. هذا البيت للمرأة. الرجل يكون في الخارج، في العمل، في الحرب... والبيت لراحته ومتعته الخاصة: الأشجار، البحرة، طيور الزينة، المكتبة... هذا البيت - كما لاحظت بعد الانتهاء من كتابة الثلاثية - يتكون من مستويات ثلاثة: الفرنكة، أي المكان العالي في البيت، والباحة وهي المستوى الأرضي، وبيت المونة القبو. وبحسب التقسيم الفرويدي للنفس فإن المستوى الأعلى يمثل الأنا الأعلى، بينما تمثل الباحة الأنا، ويمثل القبو عالم الهو. في الرواية سنلاحظ أن صياح وفياض عاشا في الفرنكة، بينما عاشت حسيبة ومريم وزينت وحمدان في المستوى الأرضي. وفي الجزءَين الأول والثاني من الثلاثية لم يرد ذكر القبو، ثم اكتشفت - وهذا اجتهاد - أن التقسيم الفرويدي للنفس ينطبق على البيت. ففي الأنا الأعلى عاش صياح وفياض اللذان عاشا في عالم من المثل العليا والقيم النضالية، وكان لا بد أن يلتحقا في زمنين مختلفين بالنضال في فلسطين، ويستشهد صياح ويعود فياض مهزوماً ويعتكف. وفي المستوى الأرضي الذي تمثله الأنا عاش الناس العاديون. نبقى في الثلاثية وعلاقتها بالتأريخ، هل يمكن اعتبارها، في صورة ما، رواية تاريخية؟ - أنا أزعم أنني لا أكتب لرواية التاريخية. لأنه إذا اعتبرنا الثلاثية هكذا، علينا أن نعتبر "ذهب مع الريح"، مثلاً، التي تناولت فترة تاريخية معينة، رواية تاريخية... وغيرها كذلك. لكن، ليست كل رواية تستخدم التاريخ هي تاريخية. أنا أستخدم التاريخ كما استخدم علم النفس والفلسفة والعلوم الإنسانية كافة. أما الرواية التاريخية فهي التي تتحدث عن مرحلة تاريخية معينة وتلزم نفسها بها زماناً وشخصيات. أي تنزع شخصيات من التاريخ وتجعلها أبطالاً لها، وتلتزم بتفاصيل حياتها، ولا تستعمل الخيال كثيراً، ولا تخرج عن الوقائع الموثقة، بل تلحق بالوثائق... فتتحول الى كتابة ميكانيكية. أنا أؤمن بحرية الكتابة، بأن تترك الشخصيات تعيش حياتها. فأنا لم أرسم مصير أي شخصية من شخصياتي، طبعاً حاولت أن أصمم شخصيات لتقول مقولة معينة، لكنها كانت تتمرد وتصنع عالمها. بل ان بعضها - كشخصية الشيخ بهجة في "هشام" تمرّد عليّ وتحول من شخصية شريرة، كما أردتها، الى شخصية لا يمكنك إلا أن تتعاطف معها بعد أن طهّرها الحب. شرق غرب تحتل علاقة شرق/غرب حيزاً في ثلاثيتك، لكنها علاقة تبدو ملتبسة ومعقدة. أريد أن أعرف شكل التواصل الذي تراه أنت. كيف تنظر الى هذه العلاقة، من خلال الرواية أو في معزل عنها؟ - بدءاً، لنقل ان هويتنا - كما قلتُ آنفاً - ملتبسة. هل نحن شرق؟ بالنسبة الى من؟ بالنسبة الى الصين واليابان، نحن غرب. نحن شرق نسبة الى أوروبا فقط. تاريخنا ملتبس ومختلط مع الغرب منذ 5 آلاف سنة. كان - للأسف، في أغلب حالاته - تاريخ صدام عسكري. ولعل الاختلاط بين الإسلام والمسيحية هو ما يصنع تاريخ هذه المنطقة. وإذا نظرت الى الشرقيين في الصين وكوريا واليابان، فأنت لا تستطيع التمييز بينهم. وهم كذلك لا يميزون بيننا. ثم ان هناك عناصر كثيرة متفق عليها بين شرقي المتوسط وغربيه، مثل مفاهيم الله، إبراهيم، عيسى، موسى، الدينونة... لكنها ليست كذلك مع الياباني. هذه الثقافة المشتركة صدرناها نحن للغرب، ثم أعادها الينا، فصنعت جدلاً حضارياً. وظل الصراع يأخذ شكلاً عسكرياً حيناً، وثقافياً حيناً آخر، ولم تخل مرحلة في التاريخ من هذا الصدام الحضاري. الآن، مشكلتنا هي إن صدامنا مع الغرب يتم في ظروف انهيار حضاري عندنا. نحن نبحث عن هويتنا، فإما أن نستسلم تماماً أمام الحضارة المتطورة والعدوانية في آن، وقد عبرت عن عدوانيتها في تصدير دولة اليهود الى فلسطين، وإما أن تقاوم. ولكن ما مدى قدرتك على المقاومة وأنت معطل القدرات ومكبّل ومحروم من أدنى حقوقك؟