"بيكنيك على خطوط التماس" عنوان المسرحية الجديدة للمخرج اللبناني، من جيل الرواد، ريمون جبارة، بدأ تقديمها منذ يومين على "مسرح المدينة" في بيروت وتستمر عروضها حتى منتصف الشهر المقبل. اقتبس جبارة فكرة مسرحيته عن قصة للكاتب والشاعر الإسباني فرناندو آرابال، وشحنها بكل ما لديه من سخرية وتجربة ومراس في اللعبة المسرحية، فجاءت النتيجة مبهرة، قبضت على أنفاس الجمهور منذ الشهقة الأولى وحتى الزفرة الأخيرة. وتروي حكاية البيكنيك قصة أبوين جاءا يزوران ابنهما المقاتل - في الحرب اللبنانية - على خطوط التماس، وهو فتى مرتعد، خائف، متوتر، مرتبك، تلبسته كل التباسات الميليشيوي الذي فقد معرفة "كوعه من بوعه" كما يقول اللبنانيون. ولعلّ بداية السخرية أن الوالدين جوليا قصّار وغبريال يمّين أتيا بسلة تحتوي مازة متكاملة وارتديا ملابس "الزيارة": الأب في زيّ الجيش الفرنسي حيث خدم وقاتل أيام الجنرال ديغول، والأم في فستانها الأوروبي الخمري اللون وقبعتها ذات الدانتيل المخرّم. الصبي خائف من رئيسه طنبوز ومن القصف العشوائي ومن والده وحتى من أسيره الذي كان بدوره خائفاً من الجميع. إلا أن الخائف الأكثر "بسالة" هو الأب. ذلك الجندي المغوار الذي لم يتوقف عن تهديدنا بسيفه وحصانه، الى أن بدأ القصف ففعلها في ثيابه من شدة الرعب! تعودنا من ريمون جبارة ضرباته السوداوية المفرقعة ونقده الذي لا هوادة فيه، كما ألفنا لديه سوريالية تجلت في الأعمال المشهودة له خصوصاً "تحت رعاية زكور". ومع أنه في السابق لم يتردّد في توجيه الصفعة المباشرة من ضمن السياق المسرحي المحكم، رأيناه "يفشّ خلقه" هذه المرّة بإسراف. فالحرب وويلاتها ما زالت شوكة عالقة في حلقه، وما يختلج في عقول وقلوب اللبنانيين، بالإحرى سوادهم الأعظم من ذوي العقول والقلوب السليمة، أخذه جبارة على عاتقه، فهو، بخلاف التيار النسياني السائد، يريد تذكير اللبنانيين، خصوصاً جيل الشباب، بأن الحرب الأهلية ليست سوى جريمة بحق الوطن يرتكبها كل من يحمل سلاحاً ضد مواطنه، بصرف النظر عن موقع متراسه... وهوية "قضيته"، ذلك أن القضية الوحيدة في تلك الحرب هي "قضبان الطنابيز"، ولا شيء غير. ومع أن هذه المقاربة على قدر كبير من التبسيط الخطابي وربما على قدر أكبر من السذاجة، فإن الجمهور ميال الى التصفيق لها بحرارة، واعتبارها مقاربة "بالجملة" لا تغوص في تفاصيل النسيج المعقد لما يسبب حرباً أهلية مروعة كالتي عصفت بلبنان وأعادته قرابة قرن الى الوراء. فالمهم هو ادانة الحرب من موقع الاعتراض عليها في الأساس، واعتبارها في الجوهر مهزلة التاريخ الإنساني برمته. وقد تكون مسرحية جبارة الأخيرة امتداداً لمقالاته اللاذعة، المغمسة بدسم سخريته. فهي صادحة بالقول، يهب ساخناً، متأججاً بالسخط والتهكم والفكاهة والهزء. حتى الشتيمة لا تغيب عن النص، بل لعلها ترصعه في العطفات المناسبة، منعكسة ضحكات عالية على أفواه الجمهور. من جهة الإخراج بدا جبارة أقل جنوناً مما عهدناه في أعماله السابقة، مباشراً يخلي المدى لممثليه كي يملأوا الفضاء الدرامي بخطوات شديدة الاختزال، ربما تعبيراً عن اختناق المكان وضيقه، لكن الممثلين الناشئين في دوري المقاتل والأسير لم يتمكنا من ملء أدائهما بما يكفي من الحركة التعبيرية اللازمة ناهيك عن أن تمثيلهما بقي أحاديّ الأبعاد أقرب الى ما يسمى بالدرجة الأولى، علماً بأن داني بستاني في دور المقاتل بذل جهداً كبيراً لتكثيف عطائه، ونجح في لحظات خاطفة، إلا أنه ورفيقه الأسير بطرس حنا، بدوا أقرب الى عالم آخر، أو مسرحية أخرى قياساً الى أداء جوليا قصّار وغبريال يمّين. جوليا قصّار شكّلت دور الأم ببراعة مستمدة من تجربتها الطويلة وموهبتها المتوقدة وطاقتها الفذة على الابتكار. أما غبريال يمّين - المخرج المساعد لجبارة والقائم بدور الأب - فأبدع في تلبّس دوراً تحتشد فيه التناقضات الى حدّ العبث، بل شخصية تعكس ملامح الذكورية المنافحة، بكل ما فيها من فصاحة في القول وقصور في الفعل، علماً بأن خطابه مليء بحقائق يلهج بها الناس كل يوم، ثم يغايرونها في تصرفاتهم، كل يوم. عودة ميمونة لريمون جبارة الى كرسيّ الإخراج في بداية موسم مسرحي يبدو واعداً وخصباً ومليئاً بالتحديات.