ترى هل كان مصطفى كمال حزينا حقاً، حين راح في ذلك الحين يتنقل هارباً من مدينة عربية الى أخرى، والمدن تتساقط أمام زحف القوات البريطانية ومن معها من قوات عربية يؤطرها لورانس؟ ان هذا السؤال يتخذ مشروعيته من كون مصطفى كمال، في ذلك الحين، واحداً من الذين يعملون من أجل انهاء الامبراطورية العثمانية لصالح انبعاث دولة تركية لا علاقة لها ب"الملحقات" العربية. من هنا ما يمكن افتراضه من ان تلك الهزائم المتلاحقة اتت لتصب ماءً في طاحونة ذلك القائد التركي ورفاقه "الاتحاديين" من الناحية السياسية. ومع هذا يمكن القول ان الهزيمة، بالنسبة الى العسكري، هزيمة مهما كانت الأبعاد السياسية الناتجة عنها متلائمة مع تطلعاته. وهذه الهزيمة وصلت، في سورية، الى ذروتها في مثل هذا اليوم من العام 1918، حين كان مصطفى كمال في حلب، ومهمته تنظيم المقاومة ضد زحف الحلفاء، لكنه ايقن ذات لحظة عقم محاولاته، فأمر قواته بإخلاء المدينة التي كان يعرف، حقا، ان القوات الانكليزية والعربية، سوف تدخلها بعد ساعات. كان مصطفى كمال وصل حلب قبل ثلاثة أسابيع، وذلك في طريق تراجعه مع قواته. وهو وصل حلب قادماً من دمشق التي دخلتها القوات البريطانية والعربية في الأول من تشرين الأول اكتوبر من ذلك العام. وكان مصطفى كمال قد وصل قبل ذلك الى دمشق مع عدد من ضباطه لتنظيم المقاومة فيها. ومن المعروف ان مصطفى كمال كان يعرف دمشق جيداً، لأنه عاش ونشط فيها ردحاً من الزمن، غير انه لم يكن يتصور ان فرح سكان المدينة بوصول الانكليز سيكون كبيراً وصاخباً الى تلك الدرجة التي ستصفها له أجهزة مخابراته بعد ان اضطر الى اخلاء المدينة. فبالنسبة الى السكان، كان الانسحاب التركي ودخول الحلفاء يعنيان نهاية قرون من السيطرة العثمانية على هذه البلاد العربية. وكانت سورية الطبيعية في السنوات السابقة قد عانت الكثير من قمع الاتحاديين والعثمانيين بشكل عام، بحيث كانت تتطلع الى من يخلصها منهم. من هنا حين دخل الحلفاء دمشق، استقبلهم الناس بالرياحين والزغاريد، وراحت النسوة يغنين ويهتفن من خلف نوافذ البيوت. وبدا من الواضح ان عصراً بأسره قد زال. وكان من الطبيعي في خضم ذلك ان ينقض ابناء المدينة على من بقي فيها من جنود ومسؤولين اتراك. وهذا ما جعل مصطفى كمال يفرّ الى الكسوة حيث كانت قواته قد تجمعت، ومن هناك توجه الى رياق ومنها الى حلب، حيث كان عليه ان ينظم صفوف القوات التركية هناك للمقاومة، أو للانسحاب. اذن، لم يكن مصير الوجود التركي في حلب بعد اسابيع، أفضل مما كان في دمشق، اذ بعد ان استكملت القوات الحليفة احتلال هذه الأخيرة تابعت تقدمها شمالاً، فيما كان الجيش العثماني السابع بقيادة عصمت باشا وعلي فؤاد يتراجع، فاحتلت حمص ثم حماه. بالنسبة الى مصطفى كمال لم يكن ثمة أدنى شك في ان حلب سوف تسقط بدورها. من هنا لئن كانت القيادة في اسطنبول راحت تحثه على تشديد المقاومة وتعبئة المشاعر الدينية لدى مسلمي شمال سورية، راح هو يتصرف ببطء في هذا المجال، متيقناً، ان النهاية سوف تكون قريبة. وهو كان همه - على أية حال - ان ينقذ ما تبقى من قواته، لايمانه بأن الجيش الحليف بقيادة اللنبي، من الممكن ان يلتف على هذه القوات قاطعاً عليها طريق التراجع في وقت تتحدث فيه انباء مؤكدة عن انزال للحلفاء في الاسكندرون. ونذكر هنا انه في الوقت الذي امضاه مصطفى كمال في حلب، بين احتلال دمشق واحتلالها من قبل الحلفاء، كانت المدينة تعرف حرارة خانقة اثرت بدورها سلباً على القوات التركية. ومع هذا بذل مصطفى كمال بمساعدة عصمت باشا وعلي فؤاد، جهوداً كبيرة في سبيل اعادة تنظيم القوات وعلى الأقل لتمكينها من الانسحاب بهدوء. في الوقت نفسه كلف مصطفى كمال وحدة خاصة بمهمة مراقبة الطرق المؤدية الى الاسكندرون… في جميع الأحوال، الذين التفوا بمصطفى كمال في ذلك الحين، لم يلمحوا على وجهه أي أثر لتعاسة او قلق: كان يتصرف بهدوء وهو عالم ان ذلك كله انما يؤذن لنهاية الامبراطورية العثمانية، تلك النهاية التي كانت، بالنسبة الى مصطفى كمال وأصحابه، تعني تحديداً، ولادة دولة تركية مستقلة بذاتها، تدخل العصر بعيداً عن حل الامبراطوريات. الصورة: جنود أتراك أسرى في ايدي الانكليز