كان للسيد رفيق الحريري الدور الأكبر في إعمار لبنان بعد 17 سنة من الدمار، واذا قمنا بجردة حساب وراجعنا الأصول والخصوم، لوجدنا ان الأولى تفوق الثانية اضعافاً. الغريب جداً في الموضوع ان هذا كان رأيي ورفيق الحريري رئيس الوزراء، وبقي رأيي بعد ان أصبح رفيق الحريري رئيس الوزراء السابق. وأصر على صواب رأيي هذا، على الرغم من أنه رأي أقلية في مقابلة فئة كبيرة ارفضت من حول السيد الحريري عندما غادر الحكم، لأنها لم تكن ملتفة حوله أصلاً، وانما التفت حول مصالحها. هناك الآن سجال في لبنان لتقويم تجربة رفيق الحريري وانجازاته، فبعض يدافع عن الرجل بالمطلق ولا يرى سوى ما أنجز مع ان السيد الحريري نفسه اعترف بحصول أخطاء عدة أدت الى الهدر، كما اعترف بعدم تحقيق الإصلاح الإداري. بعض آخر يعترف بما تحقق على صعيد الإنماء والإعمار، واعادة تأهيل البنى التحتية، غير انه يضيف ان الانجازات هذه كانت مكلفة. ثم هناك بعض لا يعترف لرئيس الوزراء السابق بدور أو انجاز من أي نوع، ويتحدث مع كل هذا عن الفساد، وهو موجود فعلاً، إلا أنه كان موجوداً في كل عهد سابق، وعلى عهدنا جميعاً، مواطنين ومسؤولين. وبين هذا البعض وذاك، هناك تلك الفئة التي تؤيد أي رئيس وزراء يخدم مصالحها، وتتركه عندما لا يعود في مركز يخدم منه هذه المصالح. ولو بقيت خيمة رمضان التي كانت تنصبها "سوليدير" في شهر الصوم المبارك، لاستطعنا فرز أصحاب الاخلاق من أصحاب المصالح. أهم من هذا أنني أتابع محطات التلفزيون اللبنانية بشكل غير منتظم، ولاحظت مع ذلك شيئاً مؤسفاً هو ان تقويم تجربة الحريري أخذ في بعض الأحيان طابع الانقسام المذهبي والطائفي، وهذا يلمس من خلال عدد من البرامج السياسية التلفزيونية التي تبث مباشرة، فبعض طارحي الأسئلة يدخل في نزاع مع مقدمي البرامج والضيوف، حتى ان المشاهد يعرف فوراً، من اسم السائل، مدى التأييد أو المعارضة. أتوقف هنا لأسجل ان بعض الناس عارض رفيق الحريري منذ أول أيام حكومته الأولى، وبقي على المعارضة مع الحكومتين الثانية والثالثة، وحتى الاستقالة. ومثل هؤلاء ثبتوا على موقفهم لأسباب مختلفة، ولا اعتراض لي على معارضتهم لأنهم عارضوا الحريري وهو رئيس للوزراء. غير ان عندي اعتراضاً، كمراقب مستقل من على بعد أربعة آلاف كيلومتر من بيروت، على التطرف في المعارضة، أو الهجوم على عهد الحريري، فالتطرف في أي موضوع يفقد المتطرف حجته، ويثير علامات استفهام حول مدى موضوعيته وحقيقة أهدافه. وكنت قرأت بعض كتاب "الأيادي السود" للنائب نجاح واكيم، ووجدته يركز بشكل أساسي على رفيق الحريري والوزراء والموظفين المؤيدين له أو الموالين. غير ان الكتاب خلا من وثيقة واحدة تثبت صحة التهم. وقد سمعت ان النائب واكيم وعد بكتاب ثانٍ يتضمن مصادر معلوماته. ننتظر لنرى، أما اليوم فنلاحظ ان النيابة العامة، التمييزية أو المالية، لم تلاحق أياً من التهم الواردة في الكتاب، مع ان بعضها يتحدث عن سرقة أموال عامة. وقد بادر بعض الذين وردت اسماؤهم الى نفي المعلومات عنهم، مثل النائب السابق محمد قباني، وعضو المكتب السياسي السابق لحزب الكتائب الفرد ماضي الذي طلب من محاميه التقدم بشكوى الى القضاء ضد النائب واكيم. وننتظر مرة اخرى لنرى ان كان بعض معلومات الكتاب سيصل الى المحاكم، وماذا سيكون الحكم. أما الآن فأسجل للسيد الحريري، وهو خارج الحكم طالما انني لم أسجل له شيئاً وهو بداخله، انه قام بجهد موفق جداً في إعمار لبنان بعد دمار الحرب، واستطاع بعلاقاته العربية والدولية ان ينفذ عدداً من المشاريع الكبرى ما كان تنفيذها ممكناً من دونه. وعلى صعيد أبسط، فقد رأيت السيد الحريري في زياراته لفرنسا أو بريطانيا أو الولاياتالمتحدة، وكان يجتذب السياسيين ورجال الاعمال على حد سواء، فهو في النهاية بليونير معروف عالمياً، واسمه يسجل كل سنة ضمن قائمة أثرى أثرياء العالم في مجلة "فوربس" وغيرها، ما يعطي لبنان الصغير الخارج من حرب منهكة حجماً أكبر من حقيقته. وقد رأيته في الاممالمتحدة في أواخر ايلول سبتمبر وأوائل تشرين الأول اكتوبر على رأس وفد كبير يعطي لبنان صفة دولة مهمة فعلاً. لكن إذا كان من ايجابية في ترك رفيق الحريري رئاسة الوزارة، فهي انه لا يجوز ان يرتبط مصير بلد كامل برجل واحد. وقد خلفه في رئاسة الوزارة الدكتور سليم الحص، وهو يجمع بين المعرفة والنزاهة، ما يطمئن الى ان ادارة البلد في أيدٍ أمينة. وما أذكر من آخر جلسة لي مع الدكتور الحص في منزله هو ان حديثه كله كاد ان يقتصر على الاقتصاد والدين الخارجي والأرقام، وهي كلها في صلب اختصاص الدكتور الحص الاكاديمي وتجربته العملية. ومع وجود اميل لحود رئيساً، فإن لا سبب البتة للقلق على مستقبل لبنان. أقول هذا وأسجل مرة أخرى رأيي الخاص ان رفيق الحريري لعب الدور الأول، والأكبر، في إعمار لبنان، وإيصاله الى نقطة يصبح إكمال المسيرة منها ممكناً لغيره.