في فيلم محمد سويد الجديد تعبر جملتان في الحوار المتقطع عن فيلم "سينما باراديزو"، الايطالي الذي أثار في حينه موجة حنين عارمة. وقد استعار المخرج سويد، لمصاحبة الجملتين، صورة لمقاعد سينما تياترو الكبير، المحطمة المغبّرة والمتروكة من دون ان يفتح عليها الباب من زمن ربما بلغ سنوات. صالة تياترو الكبير هذه لا تُصدر الحنين نظيفاً بسيطاً إذ هي، لمشاهدها، قطعة من مجال فسيح سبق ان ذُرفت له مشاعر شملته كله. وهذه المشاعر ليس قوامها الحنين الخالص حيث لا بد ان المقاعد العتيقة المغبرة تلطخت بوسخ السنوات وبدمها، وليس بريش مروحتهاها الناعم. ليس ما ينزفه عاشق السينما اللبناني حنيناً خالصاً، شأن بطل الفيلم الايطالي، إذ تنضاف الى مشاهد السينما المتروكة المهملة مشاهد لسينمات كثيرة لم يبقَ منها الا صور لافتاتها وقد تدلّت من أماكنها وطارت منها حروف أو ثقبها الرصاص. ثم ان هناك مشاهد مماثلة لا تتصل بالسينما ايضاً، فالأرجل، حين يصورها الفيلم سائرة في الطرقات، تبدو كما لو انها تذرع ارضاً مفلوحة ربما كانت قبل حالها الاخير هذا شارعاً من شوارع المدينة. لن يكون الحنين خالصاً إذن، ولن يكون قاصراً على السينما برغم الولع الذي يميّز علاقة رجالها بها. في أحد مشاهد الفيلم يروي رجل كيف انشأ صالة سينما في ذلك الحي الشعبي جاعلاً مواقيتها موزّعة بين الرجال والنساء. ذلك تدبير مناف لمعنى السينما حيث من المعتاد في ذاكرة المولعين بها، ان تستدعى، للتذكر، في صور متفرّقة تجمع كل منها صورة رجل وامرأة، عاشقين وناظراً كل منهما للآخر من ذلك القرب الغرامي. لقد رضي رجل السينما ذاك، الجالس، متذكراً ومتكلماً، على شرفة بيته، ان يقيم سينماه هناك، حيث لا ينبغي لها ان تكون. لقد رضى بذلك طائعاً قبل ان تتلقاه يد المدينة بضربة اخرى إذ هدمت صالته ورفعت في مكانها بناية انشأها بناتها من أرخص المواد. وفي مكان ما كانت الصالة، السينما، أقصد في نقطتها ذاتها، تكومت البطيخات وتراكبت مالئة الغرفة كلها. ربما كان هذا، لرجل السينما المتذكر على شرفة بيته، الموت الاخير لعصره السينمائي. وعلى هذا الرجل منذ الآن ان يزداد التصاقاً بجيله الذي جعل هو، أو سواه ربما، يعدّد رجاله المتوزعين بين من رحمه الله في الدار الآخرة وعنايته الشافية لمن زال حياً منه في دار الدنيا. لقد اصبحت السينما في أيدي جال آخرين يقيمون لها صالات من دون ان يحتاجوا لذلك ذاكرة حارة. بل بحسب مُشاهد فيلم محمد سويد ان استئناف المدينة عصر صالات جديدة في مناطقها الجديدة منفيّ من ذلك التاريخ الشخصي - السينمائي لمخرجنا. السينما انتهت هناك حيث انتهت، ابتداء من 1975 وعلى مدى السنوات التي أعقبت ذلك. لقد تهدمت الصالات، أو تخرّبت، ولم يبقَ منها الا لافتاتها. وقد حدث ذلك في مسار موت شاءه محمد سويد تراجيديا. لا يمكن التعويض عن سينما انهدمت هناك باخرى جديدة قامت هنا. كأن السينما، لتكون كما يصورها محمد سويد، تحتاج الى متذكّرين لا الى مشاهدين. الى رجال باتوا كهولاً وحين يشرع الباقي حيا منهم في تعداد اسمائهم يبدو، مع كل إسم، كأنه يضيء لمبة حمراء اللون احمراراً باهتاً لكونها من ذلك الطراز القديم الذي كان يُرصف مزنراً، أو مؤطراً، لافتات السينما المشعة، وإن في زمنها ذاك. يؤرخ محمد سويد للسينما الذاهبة تأريخا تراجيديا إذ يجد ان عهد السينما قد انقضى على رجاله وها ان واحدهم، إذ يتكلم، تطلع كلماته ثمينة، إذ هو ما بقي من زمن السينما ذاك. هو أو من كان مثله رجال ثمينون ما دام انهم شاهدون على ذلك الزمن الذي يبدو، الآن، كما لو انه متألف من صور وأغنيات. كاميليا، الممثلة التي ماتت في يوم عيد ميلادها الثامن والعشرين حملت الى الآخرة نوع العاطفة الغرامية الذي لن يتكرر من بعدها. ينقل محمد سويد صورتها ذات الجمال والشباب الخالدين اللذين نكاد نلمس وقعهما في الكهول المتذكرين. لقد ولّدت السينما عالماً وهمياً ظنّه مولعوها عالماً حقيقياً. كان عالما أكثر رقة وانسجاماً، وحتى أكثر منطقية بحسب ما كتب إيتالو كالفينو في يومياته التي يصف نفسها فيها بأنه مجرد "متردد الى السينما". محمد سويد الأصغر سناً بين الرجال هؤلاء، أو هو متأخرهم وحيث لا يزيد عمره عن ان يكون إبناً لهم، امتلأ بما هم ممتلئون به. أخذته السينما تلك اليها. منذ سنتين أو ثلاث أصدر كتاباً أرّخ فيه لصالات لبنان جميعها وكتب عن علاقته بالسينما كلاماً ربما كان الاعذب بين ما كتب حول ذلك. الآن، في فيلمه يبدو كأنه يعود الى موضوعته تلك لكن مضيفاً الى ما سبق منها تجربته في العمل بالسينما، بالتلفزيون، جاعلاً لفيلمه موضوعاً هو مما تتناوله كتب السيرة عادة. عدد من الذين عملوا مع محمد سويد تكلموا عنه من ضمن كلامهم عن التجربة المشتركة معه في التلفزيون. تلك التي أنهاها ميل التلفزيون الى أن يكون ما كانه دائماً، تلفزيون الاعلانات والتسلية والجمهور الكثير. محمد سويد في أفلامه لم يكن لهؤلاء إذ حتى بعض من عملوا معه، تصويراً ثم تمثيلاً في فيلمه هذا، ذكروا انهم كانوا في البداية غرباء عما يفعلونه. لم يستطع محمد سويد ان يوسع تلك الحلقة الضيقة جداً من مشاهديه. كان يلزم ربما ان يرى ان الماضي السينمائي ذاك يجب ان يستكمل بأفلام يسوقها المنطق القديم، المنسجم، ذاك. لكن سويد، بدلاً من ان يصنع السينما كما أحبها، قسّم مشاهده الى وحدات متناهية الصغر ومزج بينها لتبدو، في سياق الفيلم، كأنها ومضات متتالية تتنافس في ما بينها أو تتزاحم على حيّز الفيلم الذي تشترك فيه. أبعده ولعه مسافة شاسعة عما أحبه وما زال يحبه. بل انه، فيما هو يكتب عن ذاك الحنين، يعرف انه يحتاج الى لغة اخرى تخالفه. لا يتعلق الامر بالسينما وحدها، فالحياة ايضاً، لتُعاش، تحتاج الى لغة غير تلك التي للافلام القديمة. هذه لغة يبدو ابتكارها أصعب. * تانغو الأمل، فيلم للمخرج اللبناني محمد سويد، عرض في المركز الثقافي الفرنسي ببيروت في السابع من ايلول / سبتمبر الحالي