الوسطاء يبيعون الوهم    عندما أحرق الأديب كتبه    في العلاقة الإشكالية بين الفكرين السياسي والفلسفي    حصر 1356 مبنى آيل للسقوط خلال 2025م    الدولار يتراجع    تخريج (3948) رجل أمن من مدن التدريب بمنطقتي الرياض ومكة    التحالف الإسلامي يختتم في عمّان ورشة عمل إعلامية لمحاربة الإرهاب    الجيش السوداني يعلن سيطرته على مدينة بارا الإستراتيجية غربي البلاد    150 مستفيدا من مبادرة إشراقة عين بالشقيق    أبحاث أسترالية تؤكد دور تعديل نمط الحياة في خفض معدلات الإصابة بالخرف والزهايمر    الهجوم على الدوحة.. عدوان على مساعي السلام    الفاشر: مدينةُ تحوّلت إلى محكٍّ للمعركة والإنسانية    العالم يترقب «دوري أبطال أوروبا» البطولة الأغلى والأقوى في العالم    د. بدر رجب: أنا اتحادي.. وأدعو جميل وبهجا لمنزلي    قفز الحواجز    ثوابت راسخة ورؤية متجددة    المملكة توزّع (797) سلة غذائية في أفغانستان    إحباط تهريب (53.7) كجم "حشيش" في جازان    فتح مسارات جديدة للنمو    فن التسوق    التكامل بين الهُوية والاستثمار الثقافي    مها العتيبي.. شاعرة تُحاكي الروح وتكتب بوهج اللحظة    القيادة والاستثمار الثقافي    هبات تورث خصاماً صامتاً    سِيميَائِيَّةُ الأَضْوَاءِ وَتَدَاوُلِيَّتُهَا    حراسة المعنى    مجلس الشورى.. منبر الحكمة وتاريخ مضيء    الراية الخضراء    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالمحمدية في جدة يُعيد قدرة المشي لستينية بإجراء جراحة دقيقة لاستبدال مفصلي الركبة    كشف مبكر لمؤشرات ألزهايمر    غداً .. انطلاق الدوريات الممتازة للفئات السنية    تطابق لمنع ادعاء الانتساب للسعودية    خريطة لنهاية الحرب: خيارات أوكرانيا الصعبة بين الأرض والسلام    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الخطاب الملكي يؤكِّد على المبادئ الراسخة لهذه الدولة المباركة    الوفد الكشفي السعودي يبرز أصالة الموروث الشعبي في فعالية تبادل الثقافات بالجامبوري العالمي    امانة القصيم تطلق مهرجان الدليمية بعدد من الفعاليات والأنشطة في الحديقة العامة    أمين القصيم يوقع عقد صيانة شوارع في نطاق بلدية البصر بأكثر من 5,5 ملايين ريال    محافظ وادي الدواسر يستقبل الرئيس التنفيذي للمجلس التخصصي لجمعيات الأشخاص ذوي الإعاقة    بلباو يوضح مستجدات التعاقد مع لابورت من النصر    خلال تدشينه جمعية كافلين للأيتام بالمحافظة محافظ تيماء: خدمة الأيتام تتطلب فكرًا وعملًا تطوعياً    ⁨جودة التعليم واستدامته    أمير منطقة جازان يستقبل مدير عام فرع وزارة البيئة والمياه والزراعة بالمنطقة    الفتح يغادر إلى جدة لمواجهة الاتحاد .. وباتشيكو ينضم للتدريبات    الهيئة الملكية لمدينة الرياض تطلق منصة التوازن العقاري لاستقبال طلبات المواطنين لشراء الأراضي السكنية    غدا..إقامة الحفل الختامي لمهرجان ولي العهد للهجن في نسخته السابعة بميدان الطائف    " كريري" يزور المدخلي للاطمئنان على صحته بعد نجاح عمليته الجراحية    منتدى المشاريع المستقبلية 2025 يثمن دور عين الرياض الرائد في دعم قطاعات الأعمال والمؤتمرات والسياحة والاستثمار    محافظ الطائف يلتقي القنصل الامريكي رفيق منصور    نائب أمير منطقة تبوك يدشّن مشروع السكتة الدماغية الشامل بالمنطقة    الأخضر الشاب يتوج بطلاً لكأس الخليج تحت 20 عامًا بعد فوزه على اليمن    200 شخص اعتقلوا في أول يوم لحكومة لوكورنو.. احتجاجات واسعة في فرنسا    أكد أن النجاحات تحققت بفضل التعاون والتكامل.. نائب أمير مكة يطلع على خطط طوارئ الحج    مخالف الرعي في قبضة الأمن البيئي    منافسة نسائية في دراما رمضان 2026    وزير الداخلية لنظيره القطري: القيادة وجهت بتسخير الإمكانات لدعمكم    وزير الدفاع لرئيس وزراء قطر: نقف معكم وندين الهجوم الإجرامي السافر    السعودية ترحب وتدعم انتهاج الحلول الدبلوماسية.. اتفاق بين إيران والوكالة الذرية على استئناف التعاون    نيابة عن خادم الحرمين.. ولي العهد يُلقي الخطاب الملكي السنوي لافتتاح أعمال الشورى في الدور التشريغي 9 اليوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول مسألة العنف في الجزائر : مسؤولية المعتدلين والقطيعة كمنهج لغزو السلطة ...
نشر في الحياة يوم 22 - 07 - 1998

أصبح من العسير أن تتفهم لغة القلم الحديد والنار، وصار عبثياً أن يتناول الحبر المسال مسألة الدم المسال ساعة بعد ساعة في الجزائر. لقد تخطى العنف كل حدود، وأوضحت الأرقام رتيبة بارتفاعها تنقل البعد الكمي للمأساة بعد أن إنهار كل أساس لتفسير أو تحليل أو تبرير بعدها النوعي.
وعلى الرغم من عدم فرادة الحال الجزائرية في مسألة العنف، يبد ان هذا السلوك بقي ظاهرة ثابتة طبع الحياة السياسية الجزائرية منذ النصف الثاني من هذا القرن. وتحقيبنا الزمني هذا لا يهمل مسلّمة العنف التاريخي منذ أن باشرت فرنسا عام 1830 بإحكام سيطرتها الاستعمارية على البلاد، مصادرة بذلك حاضر الجزائر وثقافة البلاد وثرواتها ووميض المستقبل في عيون أبنائها.
قامت حرب التحرير عام 1954 على قناعة لم تكن تنعم بإجماع كامل آنذاك على حتمية اللجوء إلى العنف المسلح كمخرج وحيد لتحرير البلاد. وقد احتد العنف والعنف المضاد بشكل طبع السلوك اليومي الجزائري، سواء من خلال المواجهات مع القوى الاستعمارية، أو من خلال ما أفرزته الصراعات الداخلية من معارك ومجازر أهلية ارتكبها جزائريون بحق جزائريين آخرين.
غير أن الاستحقاق الاستقلالي لم يدفع البلاد للخروج من محدلة العنف. فجيش الحدود المرابط بقيادة هواري بومدين على الحدودية المغربية والتونسية دخل البلاد فاتحاً، مصادراً الحكم من أيدي مناضلي الداخل، حاملاً إلى سدة الرئاسة أحمد بن بلة بعد ان رفضها محمد بوضياف الرافض سلفاً لحكم العسكر في البلاد.
عاشت الجزائر منذ الاستقلال وحتى عام 1988 تحت حكم الحزب الواحد وذراعه العسكرية. وتم للنظام المتمتع بشرعية تاريخية أن يمسك بزمام الأمور مستخدماً، حين تقتضي الحاجة، العنف وسيلة لفرض هيبته، سيان أكان ذلك انقلاباً أو اعتقالاً أو اغتيالاً. بالمقابل، فإن الشرائح الاجتماعية تربت على العنف درساً في التاريخ ونمطاً يقتدى في صراعها مع السلطة. وحين تفاقم الوضع الاقتصادي وإنهارت صورة الدولة - النموذج لجأت الجموع خريف عام 1988 إلى العنف سبيلاً للخروج من عنق الزجاجة.
القمع، وهو الوجه الآخر لعملة واحدة، كشف من جديد مدى استعداد النظام لإخراج مخالبه حتى ضد أبنائه، صوناً لهيمنة لا لبس فيها. ودفاعاً عن امتيازات لا سبيل للتراجع عنها. وما بين العنف الشعبي الذي كثيراً ما تواطأت به "الأجهزة" وما بين القمع السلطوي، خرجت المعارضة الإسلامية كالمارد من قمقمه تدير دفة الصراع، تقطف معاناة الناس، تؤجج احتجاجاتهم في قنواتها وتعد دون أن يكون لذلك أساس عقلاني بمستقبل متوخى واعد.
اعتمدت المعارضة الإسلامية على غطاء ثقافي شرعي وتاريخي. فالإسلام دين الجل الأعضم من الجزائريين، وهو الذي حافظ على ثقافة البلاد ازاء المصادرة الثقافية الإستعمارية لهوية البلاد. كما ان رجالات الإسلام من الأمير عبدالقادر مروراً بين باديس والإبراهيمي وبن نبي... الخ، رافقوا الرحلة الجهادية لشعب الجزائر حتى تسليمها إلى جيل جبهة التحرير الوطني، حرباً إسلامية الهوى تجمع الجزائريين بعربهم وبربرهم.
وحين تم للبلاد استقلالها، انتفت الصفة الإسلامية للصراع لصالح وجه علماني وحتى ماركسي للنظام. لقد شعر أصحاب المشروع الإسلامي بخيانة القادة الجدد، لا سيما بعد أن أتى هواري بومدين بمشروعه الاشتراكي واصلاحاته الصناعية والزراعية. وعلى الرغم من مهارة بومدين في حسن استخدام الإسلام والإسلاميين لتمرير مشاريعه، إلا أن الاسلاميين بدأوا يبدون امتعاضاً علنياً، فألف الشيخ عبداللطيف سلطاني كتابه الشهير "المزدكية أصل الاشتراكية"، كما أعلن أن كل صلاة على أراضٍ مؤممة هي صلاة غير مقبولة.
تنوعت وجوه الصراع بين الإسلاميين والسلطة، فتارة برزت الاحتكاكات بين المتعربين والمتفرنسين، وتارة أخرى بين حراس اللغة والقيّم وتكنوقراط السلطة، غير أن المعارضة الإسلامية أخذت أشكالاً أشد عنفاً من خلال حركة مصطفى بويعلي في الثمانينات. فالرجل كان من مجاهدي الثورة القدامى، لم يستطع ابتلاع مصادرة عسكر بومدين لمنجزات حرب التحرير، ولم يقبل بالخيارات الاشتراكية، وبنى معارضة مسلحة ذهب بها في صدام مباشر مع السلطة حتى قتل عام 1987. والظاهر أنه عقب مقتل بويعلي، انقسم الإسلاميون في الجزائر، كما حدث للأسلاف المصريين عقب موت سيد قطب، حول الطريقة الأنجع للسيطرة على الحكم. فقد بقي رفاق بويعلي مقتنعين بأنه لا يمكن هزم النظام إلا باستخدام القوة، في حين يعتقد الاسلاميون الجامعيون ان الاسلوب الأفضل هو انتهاج استراتيجية متدرجة لتجنب الصدام مع جبهة العسكر الجاهزة دون كلل ولا تردد لقمع أية معارضة أو عصيان.
لم يدبر إسلاميو الجبهة الإسلامية للانقاذ أحداث تشرين الأول اكتوبر 1988، بل استوعبوا الانتفاضة الجماهيرية وعملوا على تأطيرها وحسن إدارتها، وعندما لاح استتباب للأمور وعودة إلى السلم، عملوا على إعادة تأجيج حركة الشارع عبر الدعوة الشهيرة التي أطلقها الشيخ علي بلحاج في العاشر من الشهر نفسه للتظاهر. تظاهرة صدامية أودت بحياة العشرات، ظهرت بعدها أول علامات شرخ في الصف الإسلامي من خلال انتقادات وجهتها شخصيات عدة إسلامية لتهور بلحاج ولاعقلانيته.
قاد عباسي مدني وعلي بلحاج المعارضة الإسلامية نحو هدف واحد: السلطة. وكأن تناغماً ما حكم علاقة "الشيخين". فالأول يقدم وجهاً عقلانياً حكيماً، والثاني يحمل مشروعاً ثورياً يسوّقه خطاب ناري لا هوادة فيه. وإن تنوعت مواطن التعبير، فإن الهدف واحد: أسلمة النظام. فعباسي مدني يعتبر أن حرب التحرير لم تنته بعد. وهو بذلك الدعائم القاعدة الشرعية للنظام عامة ولجيش التحرير الحاكم للبلاد عامة. فالرجل الذي كان عضواً في حزب جبهة التحرير ونائباً في البرلمان ومكلفاً متابعة تطبيق الاصلاح الزراعي في الوقت الذي كان يعارضه الإسلاميون، يعتبر في معارضته الجديدة أن "الاستعمار واصل حضوره عبر هجومه الثقافي من خلال ميشال عفلق، سلامة موسة، طه حسين وتوفيق الحكيم الذين عملوا على بث أفكار من شأنها إلهاء جمهورهم عن أفكار المفكرين المسلمين من أمثال مصطفى صادق الرفاعي، حسن البنا، مصطفى السباعي، محمد إقبال، بن باديس ومالك بن نبي". وعليه فإن الصراع مع النظام ليس تنافساً بين السلطة والمعارضة بقدر ما هو تصحيح لخلل شرعي بين أهل الكفر وأهل الايمان.
في هذا السياق، فإن الوصول إلى السلطة بالنسبة إلى علي بلحاج ليس ارتقاءً نحو الديموقراطية، فالرجل لم يتوان عن التنكر للديموقراطية ومهاجمتها والدفع إلى اسقاطها كإبتكار غربي لا علاقة للإسلام به. ويستند بلحاج في نقده الديموقراطية إلى نقد قدمه بعض العلماء المسلمين واعتبارهم الديموقراطية كافرة. يذكر منهم الدكتور فتحي الدبريني في كتابه "خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم" حيث يعتبر أن النظم الديموقراطية الغربية لا تعبر في جوهرها إلا عن سياسة فردية النزعة عنصرية الاتجاه. كما يستند بلحاج إلى المفكر الإسلامي الباكستاني أبو الأعلى المودودي صاحب "الإسلام والمدينة الحديثة" الذي يعتقد أن مفهوم الديموقراطية في المدينة الحديثة هم "حاكمية الجماهير" بدل "حاكمية الله"، ومحمد أسد في كتابه "منهاج الإسلام في الحكم" حيث يرى هذا الأخير أنه من "باب التضليل المؤدي إلى أبعد الحدود أن يحاول الناس تطبيق المصطلحات التي لا صلة لها بالإسلام على الأفكار والأنظمة الإسلامية". ثم يخلص علي بلحاج إلى أن الديموقراطية طريق يؤدي إلى الانحلال الخلقي وهو من "أسباب سقوط الحضارات ما دامت تفسح المجال لهذا الانحلال".
ويضع بلحاج هجومه على الديموقراطية ضمن مفهوم كلي يؤدي إلى نبذ التغرب الثقافي. ففي العدد التاسع من مجلة "المنقذ" التي كانت تصدر عن جبهة الإنقاذ، شن بلحاج حملة يلتقي من خلالها مع مدني على "غزو ثقافي ماكر خبيث هدفه غسل مخ الجيل الجديد من كل ما هو إسلامي صميم ... عبر عصابات من الادباء والإعلاميين والمؤلفين والفنانين وهنا إدانة صريحة ومباشرة للمثقفين الذين لا همّ لهم إلا النيل من الإسلام وأهله". وفي العدد نفسه يرفض بلحاج "تحدي مشاعر الأمة المسلمة بتحكيم شريعة هي من وحي الشيطان بدلاً من شريعة الرحمن التي فيها سعادة الإنسان في الدنيا الآخرة". وربما أكثر مصادر الضرر الذي أصاب الإسلام الراديكالي في الجزائر هي لجوء منظريه إلى اسقاط مبدأ الديموقراطية وتحقيره في عيون الشباب الذين لم يعرفوا طعماً لها من قبل.
واضح مما سبق أن دخول "الانقاذيين" اللعبة الانتخابية لم يكن إيماناً بالمسيرة الديموقراطية، بقدر ما كان منهجاً ماكيافيلياً للوصول الى السلطة. وكانت "الانقاذ" أو زعيميها لا يترددان في اطلاق التهديد تلو الآخر باعلان الجهاد أي العنف إذا ما تلكأت السلطة في تلبية مطالبهم. وقد أصابت حمى السلطة حكمة القيادة حين دفع مدني بالأمور الى حدها الأقصى باعلانه اضراباً سياسياً في شهري أيار مايو وحزيران يونيو 1991 ضد قانون الانتخابات، سرعان ما تحول الى عصيان مدني شعبي أدى الى احتلال أربع ساحات في العاصمة. ولم تنته الأزمة، كما هو معروف، إلا بعد تدخل قوى الأمن وسقوط عشرات الضحايا 500 قتيل حسب رابطة حقوق الانسان التي يترأسها المحامي يحيى عبدالنور واعتقال "الشيخين" الزعيمين.
بعد فوز الاسلاميين في الانتخابات الولائية والبلدية في حزيران يونيو 1990، فازت "الانقاذ" فوزاً ساحقاً بالدورة الأولى للانتخابات التشريعية في كانون الأول ديسمبر 1991، ولم يبق للانقاذ إلا الحصول على مقاعد ضئيلة للفوز بأغلبية ساحقة تخولها دون تردد بتغيير دستوري كان من شأنه حسب مصادر السلطة والقوى العلمانية، تحويل نظام الحكم آلياً ليصبح إسلامياً على مقاس السلطويين الجدد. صارت المسألة مسألة وجود بالنسبة الى الجيش فتدخل العسكر علناً بعد أن كان تدخله من وراء الكواليس ليجبر الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة ويعلق العملية الانتخابية ويعين هيئات قيادية بديلة.
دخلت البلاد بعد ذلك في نفق لم تخرج منه حتى الآن. نفق العنف الأعمى تارة باسم "القضية" ودفاعاً عن الديموقراطية المتنهكة، وتارة باسم النظام ودفاعاً عن الأمن في البلاد. وما بين مطرقة العنف الثوري وسدان العنف القمعي يدفع المواطن الجزائري ضريبة صراع بدأ خلف ظهره وسينتهي يوماً دون شك خلف ظهره.
أتاح العنف ان يكشف هزال المنطق السياسي الذي أسست له المعارضة الاسلامية منذ بداية الأزمة. فالمعارضة لا تملك مشروعاً عقلانياً بديلاً بل خطاباً ديماغوجياً شعبوياً خطيراً، لكونه يدغدغ مشاعر ملايين المسلمين في البلاد ويستغل قدسية الفعل الديني للدفع به أداة من أجل طموحات آنية مادية لا شأن لها بروحية وأزلية الاسلام. وإذا كان لعنف السلطة المدان ما يفسره دون أن يبرره، فإن عنف "الجماعات" لم يكن وليد رد فعل عفوي، بل خلاصة قناعة ايديولوجية قديمة وإعداد دؤوب.
إذا كان الفصل المتعلق بحركة مصطفى بويعلي هو أول اعلان للكفاح المسلح من المعارضة الاسلامية ضد السلطة، فإن مسألة اللجوء الى العنف لطالما طالت النقاشات الداخلية لجبهة الانقاذ أثناء أوج مجدها السياسي السلمي. حتى أن قيادات الجبهة وقفت حائرة أمام تصريحات أحد قادتها سعيد مخلوفي الذي التحق بالعمل المسلح في ما بعد الذي هدد في 8 شباط فبراير 1991 بشن حرب أهلية، لاسيما كتاباته في هذا المضمار من خلال مؤلفه "العصيان المدني: الأسس والأهداف، الوسائل والطرق". ويذكر أن بلحاج قام بتقديم الدعم المالي والمعنوي لمؤسس "الجماعة الاسلامية المسلحة" منصور ملياني. فقد اعترف أحد "التائبين" من قادة الجماعة الأوائل، وهو محمد الأمين مخلوفي، بعد تسليم نفسه في تشرين الثاني نوفمبر 1994، أن منصور ملياني طرح فكرة تأسيس "الجماعة المسلحة" في ربيع 1991 على أعضاء مجلس الشورى، فكان بلحاج الوحيد الذي دعم الفكرة وسلّم منصور ملياني مبلغاً من المال كمساهمة في تمويل "الجماعة". وهنا من المهم التذكير أن أول عملية قامت بها المعارضة المسلحة وقعت في 28 تشرين الثاني نوفمبر 1991، عندما هاجمت مركز قمار الحدودي، وهو تاريخ يسبق اجراء الانتخابات التشريعية ويسبق توقيف مسارها من قبل العسكر.
واستفادت الجماعات المسلحة من مباركة "الشيخين" المعتقلين لا سيما علي بلحاج الذي سرب رسالة من سجن بليدة في كانون الثاني يناير 1993 يقول فيها: "لو كنت خارج أسوار السجن لانضويت تحت لواء الشيخ عبدالقادر قائد الحركة الاسلامية المسلحة آنذاك". وعلى الرغم من أن الرسالة كانت بصيغة كتاب مفتوح موجه الى المجلس الأعلى للقضاء، إلا أن مصالح الأمن الجزائرية لاحظت ان العديد من الشخصيات السياسية التي اغتالتها "الجماعات" المسلحة في تلك الفترة وردت اسماؤها ضمن الذين حمّلهم بلحاج في رسالته المذكورة، مسؤولية تفاقم الأزمة في الجزائر وفي الأخص لأعضاء "لجنة الدفاع عن الجزائر" التي نادت بوقف الانتخابات. وقد اغتيال أغلب أعضائها بدءاً من عبدالحفيظ سنحضري في آذار مارس 1993، وصولاً الى عبدالحق بن حمودة الذي اغتيال في 28 كانون الثاني يناير 1997.
اعتمد الاسلاميون على نظريات فقهية لتبرير لجوئهم الى العنف. فمنهم من اعتبر أن لجوء الأمة الى الكفاح المسلح هو "الفريضة الغائبة". وهو مفهوم نقل عن عبدالسلام فرج منظر مجموعة "الجهاد" المسؤولة عن اغتيال الرئيس السادات. ويعتبر فرج ان "الركن الخفي" يجعل من الجهاد التزاماً دينياً مثل الأركان الخمسة في الاسلام.
واعتبر آخرون ان الدولة ضالة على طريق الجاهلية ودعوا الى تغييرها في العمق. وهم يلتقون في ذلك مع سيد قطب الذي حول الجاهلية من مفهوم تاريخي يبدأ من وقت خلق آدم حتى بداية بعثة النبي الى مبدأ سياسي دائم وضعها كأساس رفضه للمناهج والأفكار غير الاسلامية أو ضد الاسلام.
وحين أثيرت مسألة قتال المسلم لأخيه المسلم، حذر علي بلحاج في احدى رسائله من العلماء المزيفين الذين يجهلون المعنى الحقيقي للقرآن والسنّة، والذين يزعمون أن واجب الجهاد ليس ملزماً إذا كان ذلك يثير فتنة بين المسلمين. ويدحض بلحاج بذلك تهمة الفتنة التي أطلقها المنشقون عن الجبهة على قيادته.
صارت "الثورة" تقتل ابناءها. وامتد سيف العنف الاسلامي ليطال صفوفه الداخلية. واحتارت قيادات "الانقاذ" المهاجرة بين الدفاع عن "الثوار" وبين ادانة أعمالهم. فحين اغتيل محفوظ بوسبسة في آذار مارس 1993، علل أنور هدام أحد ممثلي الجبهة في الخارج من روما ذلك بأنه "تنفيذ لحكم وليس جريمة". وحين وقع انفجار شارع عميروش في الأول من رمضان عام 1995 وذهب ضحيته العشرات من المواطنين اعتبر هدام "أن الضحايا المدنيين هم ضحايا الثورة" على اعتبار - حسب قوله - أن لكل ثورة ضحاياها. وحين اغتالت "الجماعة الاسلامية المسلحة" بقيادة جمال زيتوني الشيخين محمد سعيد وعبدالرزاق رجام مع 150 من أنصارهم، وصف هدام "الجماعة" بأنها عصابة مجرمين.
دخل العنف مرحلة لم يعد يحده رادع ولم يعد يمثل "وجهاً آخر للسياسة". فقد تبدلت شروطه الأولى وتغيرت أهدافه وتعملقت مسافته لتتجاوز بكثير الفضاءات الأولى للجسم الاسلامي المعارض.
* كاتب وصحافي لبناني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.