الحجر بأنواعه هو تلك الإمكانية المحتملة لوجود سيتشكل فيما بعد، وبلغة أخرى هو - بحسب أرسطو- الوجود بالقوة، بمعنى أنه الفكرة الأولية في سبيل تكوين شيء قد يكون موجوداً ذا قيمة، ويحمل في داخله البذور التي تؤهله لهذا الوجود بما يقارب تعبير الروح الكامنة أو الطاقة الكامنة أو الرغبة الحبيسة في التحول. أما الطين فإنه لا يمتلك تلك الإمكانية أو تلك الطاقة الروحية، ومن ثم فإننا نرى دائماً أن الحجر يعطي الأشكال الأقرب للطبيعة، أما الطين فإنه دائماً يمنح ذاته دون فكرة وجود مسبق أو شروط مسبقة. الحجر إذن هو رؤية الطبيعة أمام الطين فهو رؤية الفنان. ربما من هذه الرؤية تنبع أعمال الفنان ناثان دوس في عرضه النحتي الذي أقيم أخيراً في أتيلييه القاهرة، فقد تراوحت الأعمال النحتية المعروضة بين الحجر والطين، بين الطبيعة كما هي "تقريباً" والطبيعة كما تراها ذات الفنان، بين القديم والجديد في فن النحت. ولكن الأهم في جميع هذه الحالات هو وضوح رؤية الفنان سواء في تلبية النداء الصادر من داخل روح الحجر أو في تلبيته لسطوة نداء الذات أثناء تشكيله للطين. وبرغم أنه اختار في النهاية الصيغة التعبيرية ليصب فيها انفعالاته، وبرغم استغلاله لقدرات وحريات الفن التعبيري، إلا أننا نلمح بوضوح إصراراً على عدم الجنوح والغياب في أغوار التجريب الهلامي والغموض. سوف نلمح إصراراً على تصوير الوجه المصري ومفردات الروح المصرية باقتراب شديد من الإحساس الذي يملأ هذه الكائنات بمعنى أننا سنستطيع أن نستمع إلى تلك الموسيقى الخافتة المنبعثة من الأجسام النحتية، تلك الموسيقى التي تنشأ من داخل أي شيء تربطنا به علاقة، العلاقة المصورة بالصدق التعبيري، العين القريبة منا، والأنف القريبة منا، ملامح الوجه وتكوينات الجسد كلها تحيلنا إلى قرابات وصلات أكيدة بالأجسام النحتية رغم تعبيريتها المحكمة أقصد هنا القرابة الروحية. سوى نرى في هذه المنحوتات عودة إلى الجدية التي تعكس مجهوداً وعناءً في العمل وعدم الاستسهال في الأداء، فالفنان ناثان دوس يعرف جيداً ويشعرجيداً بما يريد أن يصوره ولا يترك لغواية وغموض روح الفنان أن تسيطر وتحتل موضوعه الفني بشكل كامل، فهناك توازن وعدالة في أن تكون القطعة الفنية معبرة عن كل من الذات الفنية والموضوع الخارجي المحسوس دون أن تنحاز إلى أي منهما وهو ما يسبب نوعاً من الهدوء الرقيق ينساب من كائناته. لقد أطلق الفنان ناثان دوس على كائناته اسم "تداعيات" لكي يمنحنا هذه المساحة للتأرجح حسب رغبتنا بين واقعية الكتلة وبين خياليتها في الوقت نفسه. والبارز هنا أن الكتلة المتشكلة لا تبدو غريبة عن الغلاف الهوائي المحيط بها، وهو ما نلمحه كثيراً في أعمال نحتية أخرى، حيث تبدو الأجسام المنحوتة وكأنها ناتئة أو شيطانية تضايق العين بحيث تظهر وكأنها بمثابة عيب خلقي في المشهد الذي تراه العين، أما منحوتات ناثان دوس فإنها تبدو متجانسة مع الوجود المحيط بها، وبمعنى أدق: استطاع الفنان أن يجعل منحوتاته قابلة للتصديق بوصفها جزءاً من مشهد حياتي حميم ومتكرر، وليست إضافة مفتعلة تضايق العين. المهم أيضاً هو هذا التركيز على البحث عن روح حقيقية تحل في كائناته، ربما لصلة القرابة التي تربطنا بها، لكن المهم أن هذه الكائنات- بصورة أو بأخرى - لا تبدو منزوعة النفس والروح والحركة.. الحياة وهذا المزيج المصنوع بحرفية شديدة- من الصدق وموسيقى الواقعية وإمكانات التعبيرية والحيوية المختبئة- استطاع أن يخلق لنا العالم الفني للنحات الشاب ناثان دوس، بما يبشر بفنان جاد متميز وحقيقي وسط العبث والتخبط الذي تعاني منه الحياة لتشكيلية المصرية.