شيء ما يبقى من حركة القوميين العرب الآفلة، والتي لم تنته تماماً مع اعلان اصحابها وفاتها بُعيد العام 1968، ذلك "الشيء" هو تمكّن تلك الحركة من امتلاك نازع نقدي، والاحتفاظ بقدر من التباعد عن التنظيمات والاحزاب الشقيقة وكذلك عن الانظمة موضع تأييد الحركة باستثناء تجربة اليمن. النقاش الذي يتجدد حول مسار الحركة على صفحات "الحياة" منذ اسابيع، يكشف، مع تضارب الآراء والمراجعات، الاهمية الباقية لتاريخ تلك الحركة وبعض امتداداتها. فمع الانفصال السريع عن النشأة القومية السلفية التي مثّلتها "كتائب الثأر" وشعاراتها الرجعية والدموية، تبلورت الحركة لاحقاً، كرديف للناصرية، وكشقيق عقائدي للحركة البعثية، لكنها احتفظت بمسافة عن الحركتين وبنازع نقدي تمثل في مناوأة الاوجه السلبية الداخلية ولاحتكار البعث العمل القومي في الستينات في سورية والعراق وهو ما كانت تعكسه مجلة "الحرية" في تلك الحقبة. ومع توجه الحركة الى تمثيل ايديولوجي جديد بالانتقال الى مواقع الماركسية في اواخر العام 1968، اسهم ذلك الانتقال في دفع احزاب شيوعية لمراجعة مواقفها التاريخية، ومع ان الحكم الآن وبمقاييس المرحلة الراهنة يفيد ان تلك الحركة انتقلت من موقع ايديولوجي شمولي الى موقع شبيه في الجوهر، الا ان تلك النقلة تكشف عن الحيوية التي ميزت تلك الحركة، وهو ما اجتذب اليها بمسمياتها الجديدة، رهطاً من المثقلين العرب في فلسطين ولبنان وسورية على الاخص، اذ لأول مرة ينشأ موقع يساري ناشط لا يتبع المركز السوفياتي آنذاك. وكان لامتداد تلك الحركة في الجسم السياسي الفلسطيني، الفضل في زرع بذور الخط الواقعي والانفتاح على اليسار الاسرائيلي، على رغم ان الشيوعيين كانوا سبّاقين الى ذلك لكنهم لم يفلحوا في مخاطبة الهيئة التشريعية والجمهور من موقع الشراكة والفاعلية، لاعتماد هذا الخط. غير انه يؤخذ على "الحركة" تعاطيها مع التجربة اليمنية في الشطر الجنوبي ضمن المفاهيم الانقلابية التي عصفت بذلك الجزء طيلة اكثر من عقدين 1964 - 1986 وما سادها من تحيّزات ايديولوجية لم تكن سوى صراع على السلطة يضمر استقطابات قبلية وبنية عسكرية للنظام. وفي واقع الحال فإن تمركس الحركة، لم يضع حداً لقوميتها المفرطة وانشغالها ومراهنتها على "حركة التحرر العربية وطلائعها" سواء تمثلت في الحركة الناصرية او التجربة الاشتراكية في اليمن، او منظمة التحرير الفلسطينية، او الانجازات الجزائرية في عهدي بو مدين والشاذلي بن جديد حيث تمت الاستعاضة عن المركز السوفياتي في حال الاحزاب الشيوعية، بالمركز القومي في حال التشكيلات اليسارية اللاحقة لحركة القوميين العرب، وان خالط ذلك توجه يساري ودعوات مبكرة وملتبسة للديموقراطية. ومن الملفت الآن وبين الحصاد المتواضع الذي آلت اليه تلك التجربة، انها كانت حركة قوميين وليست حركة قومية، ولذلك فإن مسارها يتمثل كتاريخ او كسيرة لروادها، وقد تضاربت وتقاطعت سيرة هؤلاء في تحركهم القومي والايديولوجي، بأكثر مما هي جماعية سياسية واجتماعية، وأسهم التعلّق بأفلاك قومية من دون جسم وطني ومجتمعي، في تناقض وزنها السياسي تدريجاً فيما سعت تنظيمات قومية اخرى الى اقصر الطرق نحو السلطة. وبذلك يمكن ملاحظة دور حركة القوميين في تنشيط وتحفيز السجل الفكري والسياسي، على مدار ثلاثة عقود حتى منتصف الثمانينات، ربما لأنها كانت في الاساس مجرد فكرة وملتقى حوار، ومشروعاً يغلب عليه الطابع الاعلامي والثقافي، على هامش الانظمة والتنظيمات القومية واليسارية. ولأنها كذلك اتسمت بالحيوية وما يتصل بها من تقلبات ومناوشات وانشقاقات، جنباً الى جنب مع النازع النقدي ومع التآخي بين الشأنين القومي واليساري، ومع ايلاء اهتمام ضئيل بالحضور الوطني والاجتماعي باستثناء التجربة الفلسطينية.