ما زالت قضية تعريب العلوم تواجه بعض الصعاب على رغم تجاوز الخلافات حول ضرورتها، واتساع نطاق المؤيدين لسرعة انجازها. والمتتبع لتجارب تعريب العلوم في مسيرة اللغة العربية المعاصرة يلحظ انها تأثرت بظروف أدت بها الى إشكالية جدلية تقول: نعم للتعريب لما له من دور بالغ الأثر في توطين العلم والتقنية وبناء ثقافة عربية أصيلة تكون امتداداً لتراثنا الحضاري، والحفاظ على هوية الامة وقوميتها. ولكن كيف يمكن تجاوز العقبات القائمة وإنجاح هذه التجارب الوليدة؟ في محاولة للإجابة وفي اطار الجهود المبذولة لتخطي هذه العقبات، انعقد في القاهرة اخيراً المؤتمر السنوي الرابع لتعريب العلوم الذي نظمته جامعة عين شمس بالتعاون مع الجمعية المصرية لتعريب العلوم. ناقش المؤتمر على مدى يومين نحو 40 ورقة بحثية توزعت على تسعة محاور تناولت قضايا التعريب من جوانبها كافة. واكد المؤتمر حتمية إنشاء صناعة برمجيات عربية حتى تمكن الإفادة الفاعلة بهذه التقنية المهمة في عصر الكومبيوتر وشبكات المعلومات. كما شدد على أهمية صدور قرار عربي مشترك من السلطات السياسية العليا صاحبة القرار بتعريب التعليم الجامعي، وإنشاء آليات فاعلة للتنسيق بين الهيئات العلمية في البلاد العربية، لتوحيد المصطلح العلمي وتنشيط العمل المشترك في قضايا التعريب. وألمح الى انه بغير مشاركة القيادة السياسية بقرار حاسم في هذه القضية فإن كل الجهود المبذولة في هذا الميدان ستضيع سدى. وناشد المختصين بدراسة التراث العلمي العربي التنقيب في كتب التراث عن المصطلحات العربية الأصيلة التي يمكن أن يستعان بها في ترجمة المصطلحات العلمية في الوقت الحاضر، وإعداد دليل يرشد الباحثين إلى مصادر المعلومات الموثوقة عن التراث العربي العلمي. ومن أهم الأوراق المقدمة في المؤتمر بحث تحت عنوان "حتى لا يتحول التعريب الى توليد رطانات تهدد اللغة الأم" للدكتور محمد عبدالله الشامي، ذكر فيه ان الظواهر الجديدة في حياة اللغة العربية تحتاج الى تأمين حركتها وحمايتها من الانتكاس أو التعثر اللذين قد يصيبان حركة التعريب اذا لم نحكم ادارة عملية التعريب ذاتها، مثل توحيد المصطلح وفرض تداوله، وتوصيف الحرف والرقم وفرض الالتزام بهذه المواصفات، وتقعيد الكتابة العلمية باللغة العربية وضبط مرجعيتها. واضاف: "ان كل هذه وغيرها تحتاج الى يقظة حتى لا تتحول عملية التعريب الى مشاريع نحرث بها في البحر، وتنتهي بنا الى لغات عدة على حساب اللغة الأم التي هي اساس مهم من اسس وجودنا ووحدتنا". واوضح ان قضية التعريب تشهد حالياً بوادر حركة قد تكون الفاصلة في حياة اللغة العربية، فثمة بلاد تستعد لإحراز تقدم كبير في التعريب مثل السودان وسورية، وبلاد اخرى تشهد بوادر تحفز لحركة ضخمة تهزم بها دعاة التبعية للاجنبي كما في مصر ودول الخليج العربي. وتحت عنوان "لغة برمجة عربية - المنطلق والمثال" قدم الدكتور محمد الحملاوي استاذ هندسة النظم والحاسبات في جامعة الازهر بحثاً عرض فيه نموذجاً لبناء لغة لوغو عربية من خلال استخدام البرمجة المرئية لمحاكاة اوامر تلك اللغة بألفاظ ورموز عربية، تُمكّن المستخدم من التعامل مع الكومبيوتر باللغة العربية بصورة كاملة. واختيرت تلك اللغة للاستخدام في المدارس كمرحلة اولى، وتتميز بتنمية القدرات الرياضية والمنطقية عند الطلبة. واوضح الباحث "ان تعقيد مكونات اجهزة الكومبيوتر المتقدمة يتناسب عكسياً مع سهولة استعمال الكومبيوتر. ويتضح هذا الامر الى حد بعيد في اللغات الطبيعية، فكلما ارتقينا في اللغة كلما استطعنا التعبير بدقة اكبر وبصورة اوضح عما نريد التعبير عنه، ومن هنا يجيء استعمال اللغة العربية كلغة برمجة متسقاً مع هذا الهدف". ومن المملكة العربية السعودية قدم عبدالله سليمان الغفاري، الباحث في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية في الرياض، ورقة عنوانها "المعاجم في التعليم قبل الجامعي" اقترح فيها مشروعاً لبناء معجم موسوعي لمصطلحات العلوم في التعليم العام. وهذا المعجم من شأنه سد ثغرة في مجال نشر المصطلح العلمي العربي في مراحل التعليم المختلفة، فكل الإصدارات المعجمية المتوافرة في مجال العلوم لا تراعي هذه المراحل التعليمية، وتركز فقط على سرد مصطلحات علمية مجردة تتجاهل الاسس التربوية، وربط المفاهيم الخاصة بكل مصطلح على حدة. وتضمنت الورقة اقتراحاً بأن تتولى تنفيذ هذا المشروع هيئة او مؤسسة عربية كبرى مثل الايسيسكو، بحيث تُشكّل لجنة تضم مجموعة من المعجميين والتربويين تكون وظيفتها الإعداد لوضع هذا المعجم حتى يصبح مقبولاً للتداول في مختلف البلدان العربية. وقدم الدكتور عبدالرحمن مصيقر، الباحث في مركز البحرين للدراسات والبحوث، ورقة شرحت تجربة لتعريب علوم الغذاء والتغذية، اعدها المكتب الاقليمي للشرق الاوسط التابع لمنظمة الصحة العالمية بالاشتراك مع بعض الجامعات العربية، وتتمثل في إعداد مرجع علمي لتعريب علوم الغذاء في العالم العربي لخدمة العلماء والباحثين في مجالات الطب والزراعة والاقتصاد المنزلي. وتطرقت التجربة الى محاور جديدة تذكر للمرة الاولى في اية مراجع علمية باللغة العربية، مثل العوامل الاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في استهلاك الغذاء في العالم العربي، والامراض المزمنة المرتبطة بالتغذية وانتشارها، والاغذية التقليدية وتشمل اغذية دول الخليج والمغرب العربي والشام ومصر والسودان. كما تطرقت كذلك الى وضع دلائل خاصة بالتغذية الصحية للمواطن العربي وذلك لعدم وجود مثل هذه الدلائل في المنطقة العربية مقارنة بالدول الاجنبية الاخرى. وعلى هامش المؤتمر أقامت الجمعية المصرية لتعريب العلوم ندوة حول موضوع "الخطوات العلمية لإقرار استخدام الأرقام العربية"، خلُصت الى تأييد استمرار بلاد المشرق العربي في استخدام الارقام المشرقية وعدم العدول عنها الى الارقام المغربية. وأشارت الى أن تمسك المشرق بالارقام المشرقية فيه حفاظ على تواصل التراث العربي القديم في زمننا الحاضر، ومحافظة على هويتنا لا سيما ان الارقام المشرقية اوسع انتشاراً في البلاد العربية والبلاد الاسلامية غير الناطقة بالعربية والتي تستخدم الحروف العربية. واشارت الندوة كذلك الى ان البحوث الهندسية التحليلية لدراسة أشكال الارقام بنوعيها، واشكال حروف اللغة العربية، تدل على ان الارقام المشرقية أكثر ملاءمة للحروف العربية وانتماءً اليها، وأكثر تمايزاً بين بعضها البعض مما هو قائم بين الارقام المغربية. كما تدل الدراسات التاريخية على ان الارقام المشرقية اقدم استخداماً في الكتابة العربية، وظلت اكثر ثباتاً على صورتها على مر العصور.