من الواضح أن الولاياتالمتحدة مصممة على استخدام القوة العسكرية ضد العراق، ولا تقبل بأقل من أن يخضع العراق خضوعاً كاملاً لمطالبها، بل انه يمكن تصور أن الولاياتالمتحدة تتمنى ألا ينصاع العراق لمطالبها، حتى تتمكن من تبرير قيامها لاستخدام القوة العسكرية، ليس لمجرد كراهيتها للرئيس العراقي وحده، ولا لكراهيتها للشعب العراقي، وإنما لأنها ترى أن من الضروري أن تعيد الأمور الى ما كانت عليه منذ شهور، وقبل أن تحدث التطورات التي أضعفت من قبضتها في المنطقة. فهي من جهة تريد أن تستخدم القوة لكي تؤكد قدراتها العسكرية وتكثف من وجود قواتها في المنطقة، ومن جهة اخرى تجرب ما أحدثته من تطوير لبعض أسلحتها باستخدامها ضد اهداف حية، وهي تسعى الى توفير تمويل لنشاطها العسكري عن طريق ما تحصل عليه من الدول الغنية في المنطقة. لكن الولاياتالمتحدة وهي تسعى إلى ذلك تواجه صعوبات ربما لم تواجهها من قبل، فعلى رغم أنها واجهت صعوبات حينما كانت تحضر لضربة ضد العراق على إثر النزاع بين العناصر الكردية، فاضطرت إلى توجيه ضرباتها في الجنوب بينما كان التوتر في الشمال، لكن الأمر لم يكن بالحجم الذي تقوم به الآن، ولا كانت سياستها في المنطقة تعرضت لما تعرضت له في نهاية عام 1997 حين تغيبت الدول العربية الرئيسية عن مؤتمر الدوحة وأعقب ذلك انعقاد مؤتمر القمة الإسلامية في طهران ما فك الكثير من سياسة الاحتواء المزدوج التي تستهدف العراق وإيران معاً، وأخيراً فشل الولاياتالمتحدة في معالجة ما يسمى مسيرة السلام، في وقت لم يعد هناك لدى رئيس السلطة الفلسطينية ما يمكن أن يقدمه، في حين أنها لا تستطيع لأسباب داخلية الضغط على رئيس الحكومة الاسرائيلية ما جعل إدارة واشنطن تبدو عاجزة حيال قضايا المنطقة. انعكس كل ذلك لا على القرار الاميركي الذي يسعى جاهدا لحشد التأييد لسياسة واشنطن فقط، بل وعلى القدرات الاميركية على توجيه الضربة العسكرية ضد العراق. إن أبرز ما يبدو هو امتناع دول المنطقة عن تقديم التأييد والدعم، وبالتالي تجد القوات الاميركية نفسها غير قادرة على استخدام قواعد المنطقة حتى تلك التي تستخدم فعلا في عمليات حالية، أي تلك القواعد التي تستخدمها في مراقبة مناطق الحظر الجوي سواء الجنوبية منها والشمالية. كذلك فإن الحاجة إلى سرعة الاستجابة إلى الأحداث تتطلب سرعة في العمل وإلا تكرست الأوضاع وفات الوقت المناسب للتصرف، أي أنه على الولاياتالمتحدة أن تتصرف بما يمكن أن تستخدمه في الوقت الحالي أو في المستقبل القريب من دون الانتظار إلى حين تحقيق حشد كبير على نحو ما حدث في عام 1990 - 1991، هذا إذا كان من الممكن أصلا أن يجري حشد مشابه. هكذا أصبح من الواجب على القيادة العسكرية الأميركية أن تراجع خياراتها وأن تختار في ما بينها ما يقربها أكثر من أهدافها، ثم عليها أن تحاول تأمين مطالب هذا الخيار ديبلوماسياً وسياسياً واقتصادياً ومعنوياً. في ضوء ما سبق، فإن الخيار الأول هو الاعتماد على الأسطول الخامس الاميركي في الخليج كأداة أولى ورئيسية لتحقيق الأهداف مع العمل على تعزيزه بأقصى قوة ممكنة، ثم توفير أية قوات أخرى متممة له، خصوصاً من القوات البريطانية التي وصلت إلى المنطقة، وأي قوات أخرى يمكن انضمامها في فترة زمنية قصيرة. وهنا يتوقع دعم الاسطول الخامس، المكون من مجموعة حاملة طائرات واحدة وعدد آخر من الحاملات، علماً أنه وصلت في 4 من شباط فبراير الجاري المجموعة الثالثة وانضمت إلى هذا الاسطول. وتتكون كل مجموعة من حاملة طائرات ومجموعة متكاملة من خمس سفن سطح، أي من الطرادات والمدمرات والفرقاطات، مسلحة بأسلحة القوات البحرية عدا الغواصات من صواريخ وقذائف أعماق وطوربيدات. هناك أيضاً القوة البريطانية التي وصلت إلى الخليج، إضافة إلى قواتها الدائمة، إلى قوة العملية "أرميلا" المكونة من مدمرة في درجة استعداد دائمة وأخرى وصلت بعد تصاعد الأزمة، كذلك وصلت حاملة طائرات من طراز "انفنسيبل" لكنها لا تضيف كثيراً، إذ أنها تحمل ثماني طائرات قتال فقط إلى 12 هليكوبتراً لمكافحة الغواصات وصواريخ دفاع جوي مقارنة بحاملة الطائرات الاميركية التي تحمل 50 طائرة قتال، وثماني طائرات مكافحة غواصات، وطائرتي استطلاع الكتروني، وهليكوبتراً لمكافحة الغواصات، وطائرات قيادة، و4 طائرات إنذار مبكر، وطائرة نقل وهناك معلومات عن انضمام حاملة ثانية. ويتميز هذا الخيار بأنه سريع ويسمح بتوجيه الضربة في الوقت الذي تراه الولاياتالمتحدة، لكنه يعني الاقتصار على هذه القوة التي هي أقل بكثير من أن تقوم بتحقيق الأهداف العسكرية المحتملة للقوات المشتركة، وبالتالي فإما أن تكون الضربة العسكرية محدودة وقاصرة، إذ لا تحقق الأهداف المطلوبة، أو أن تستخدم القوة لضربات متتالية عدة بما في ذلك من احتمال الاضطرار إلى إيقاف الضربة لأسباب سياسية. الخيار الثاني أن تنتظر الولاياتالمتحدة حتى تحشد قوة كبيرة يمكنها القيام بضربة شاملة بما في ذلك قوات بحرية وجوية وبرية، أي أنه محاولة لتكرار عملية "عاصفة الصحراء" التي حدثت عام 1991 بما فيه من الحشد الدولي والقوة العسكرية الاميركية على رغم أن القوة العسكرية العراقية تضاءلت بلا شك كثيراً عنها في ذلك العام. لكن هذا الخيار يظل غير مناسب أولا لأنه يمكن القطع بأنه يستحيل حشد التأييد الدولي الذي حدث في العام 1991 ويستحيل توفير التمويل الذي تحقق آنذاك، إلى التحفظ على استخدام القواعد العسكرية وتقديم التسهيلات. ولأن مضيّ الزمن يقلل من التأييد القليل المتيسر في الوقت الحاضر، حتى لو تحقق مثل هذا الحشد، فإنه سيظل في حاجة إلى فترة زمنية لتوجيه ضربات وليس ضربة عسكرية واحدة. تبقى محاولة الجمع بين مزايا الخيار الأول والثاني بالاعتماد على الاسطول الخامس وتدعيمه بالقوة الموجودة قرب المنطقة وبقوة خفيفة يمكنها القدوم مباشرة من الولاياتالمتحدة من دون الحاجة الى قواعد جديدة، وهو ما يبدو أن القيادة الاميركية لجأت إليه ويمكن تحقيق ذلك بإشراك عناصر من الاسطول السادس الاميركي في البحر المتوسط وباستقدام قاذفات استراتيجية من الولاياتالمتحدة تقوم بالتزود بالوقود في الجو من القواعد الموجودة في جزر الأزور في البرتغال في المحيط الاطلسي، ومن القواعد الاميركية في ايطاليا، وقاذفات تتمركز مسبقا في القاعدة الاميركية في دييغو غارسيا. لكن الطائرات والقوات الآتية من الولاياتالمتحدة ومن البحر المتوسط تحتاج إلى ممر جوي لتصل الى الأجواء العراقية. وهنا يمكن أن تسعى الولاياتالمتحدة إلى الحصول على تسهيلات جوية في اسرائيل ومنها إلى الاردن والأجواء العراقية، أو الحصول على موافقة تركيا على عبور الأجواء، أو أن تحاول الحصول على موافقة دول المنطقة على اختراق مجالها الجوي. يعتبر اشتراك "المارين" في العملية أحد العناصر الغامضة، إذ لا يمكن توفير قوة بشرية معقولة للقيام بعمل بري هجومي رئيسي، ويبقى أن "المارين" ما يسمى بمشاة البحرية يمكنهم أن يقوموا من جهة بحماية المناطق التي ينطلق منها الهجوم، كما يمكنها أن تقوم بعمليات خاصة ضد القوات والأهداف العراقية، مع المخاطرة بحدوث خسائر بشرية في قوات المارين، وربما يقع أسرى منها، يمكن ان يضع القيادة المتحالفة في حرج شديد. وعلى رغم ما يعرف عن أن القوات الجوية والصاروخية الأميركية تتمتع بدقة عالية نتيجة للتقدم العلمي والتكنولوجي، إلا أن التجربة تقول إنه حتى هذه القوات تقع في أخطاء خطيرة، مثل إصابة ملجأ العامرية الذي كان يغص بالمدنيين أثناء حرب 1991. أما عن خيارات الاهداف، فنظرا لقيود القوة لا بد من انتقاء الأهداف ذات الأولوية التي تحكم بأن تعطي عناصر القوات الجوية والدفاع الجوي العراقي الأسبقية، إذ يلزم اسكاتها حتى يمكن للطائرات الاميركية القيام بتنفيذ مهماتها التي يعتقد أنها تشتمل على القصور الرئاسية ومقرات قوات الحرس الجمهوري التي تعتبرها القيادة الاميركية القوة الرئيسية للجيش العراقي. من الطبيعي أن تكون أسلحة التدمير الشامل - في حال اقتناع القيادة الاميركية بوجودها - ذات اسبقية مطلقة، لكن القوات التي تقوم بتدمير هذه الاهداف تحتاج أيضاً إلى حماية قبل مهاجمتها. لا شك في أن القوات المتيسرة لدى التحالف الاميركي - البريطاني أقل من أن تحقق الاهداف المعلنة للعمل العسكري ضد العراق، فلو تصورنا أن لدى العراق ست فرق حرس جمهوري وتملك الفرقة نحو 200 دبابة، فإن مجرد تعطيل مثل هذه الفرق يحتاج الى نحو 720 طائرة أي أكثر من ضعف عدد الطائرات المتيسرة. وإذا وضعنا في الاعتبار أن هذا العدد يحتاج الى قوة لحمايته لكي ينفذ مهمته، فإن هذا العدد لا بد وأن يزيد الى اكثر من ألف طلعة لمجرد التعطيل لفترة قصيرة، فما بالنا إذا كان المطلوب حرمان العراق من القدرة على استخدام قوته العسكرية، إذن لا بد وأن يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير. في النهاية يعني كل ما سبق أن الولاياتالمتحدة وحليفتها بريطانيا تحتاج الى استخدام القوة الجوية والصاروخية المتيسرة لمدة لا تقل عن اسبوع لتحقيق النتائج السياسية والعسكرية التي تعلن عنها، فهل هي مستعدة لذلك؟ يرى البعض أن الولاياتالمتحدة قد تستخدم الاسلحة النووية ضد العراق لتفادي امتداد فترة الاشتباك وما ينجم عن ذلك من ردود فعل سياسية وعسكرية، اقليمية ومحلية وعالمية، يمكن ان تتسبب في توقف الضربات، وبالتالي تختصر الفترة الزمنية اللازمة لتحقيق الأهداف بشكل جذري. ولا بد من الاقرار بأن مثل هذا الخيار ليس مستبعداً تماماً، وإن كان ضعيف الاحتمال لأنه سيثير المشاعر الشعبية، ولن يتوقف استنكاره على أبناء المنطقة، وستكون له امتداداته العالمية التي يصعب التكهن بها. عموماً من الصعب الحكم على ردود فعل مثل هذا الاجراء، لكن سياسة الولاياتالمتحدة المعلنة لا تستبعد الاستخدام الأول للأسلحة النووية أي أن تكون هي البادئة باستخدامها، في حين أن سياسة العراق المعلنة كانت أن يكون استخدام الاسلحة الكيمياوية ضد استخدام الاسلحة النووية ضده، وبالتالي فإن استخدام الولاياتالمتحدة للأسلحة النووية ليس مستبعدا رغم كل المخاطر التي تحيط به.