كان السعوديون الاوائل بطبيعتهم يترقبون الطقس والحالة الجوية باستمرار فجزء منهم يعيش في الصحراء ويعني له المطر الشيء الكثير، وجزء يعيش في الجبال ويعني له الموسم الزراعي لقمة العيش، وثالث على ضفاف البحر اوالخليج يأكل سمكا اذا هدأت الريح، أو عليه الانتظار حتى تهدأ. ومع التطور المتلاحق ودخول التلفزيون احتفظ السعوديون بعادة متابعة أحوال الطقس لمجرد العادة أو لمعرفة احوال مدنهم وقراهم التي هجروها للبحث عن العمل في المدن الكبيرة، ولا يزال غير قليل منهم يتابع بشغف هذه الأنباء. ومع حلول الازمة النفطية الحالية هذا العام وهبوط الاسعار الى مستوياتها المتدنية بدأ الناس يتابعون يومياً نشرتين، الاولى لدرجات الحرارة في المدن والمناطق السعودية، والثانية لأسعار برميل النفط في اسواقه المختلفة، واصبحوا يرقبون بأمل يبتعد كل يوم تحسن الاسعار، وطغت أخبار النفط في مجالسهم اليومية على اخبار الرياضة والتسوق والنساء. ويكاد يجمع كل المراقبين ان عامة الناس في السعودية لم تكن حريصة على اخبار النفط من قبل، خصوصاً أن الاحوال الاقتصادية كانت في تحسن مستمر، والكل يعمل لقطف ثمار الطفرة، حتى ان أزمة الثمانينات النفطية مرت عليهم مرور الكرام. واختلف الحال هذه المرة لأن الوضع الاقتصادي اصبح هاجساً كبيراً للجميع" الباحثين عن العمل، والتجار، والعقاريين، والمضاربين في الاسهم، وحتى ربات البيوت اللاتي لاحظن انخفاض القدره الشرائية للأسرة، والقلق الذي يعتري مجتمع الرجال. ثقافة نفطية لعل من أهم مضاعفات تراجع اسعار النفط على الناس في الشارع السعودي هو ازدياد ثقافتهم الاقتصادية بشكل عام، والنفطية بشكل خاص، فأصبحت مصطلحات مثل "اوبك"، و"برنت"، و"الزيت الثقيل"، و"مخزون النفط"، و"الاحتياطات"، وغيرها متداولة ومعروفة للغالبية، بل اصبح الناس العاديون يعرفون ان سعر نفطهم العربي يقل عن سعر برنت بمقدار دولارين او ثلاثة، كما اصبحوا يراقبون حالة الطقس في اوروبا وأميركا بحثاً عن شتاء قارس يرفع الطلب على الثروة التي لا تزال المورد الاساسي لهم. واضفى التراجع النفطي على الناس حالة من الترقب ودفعهم إلى تأجيل مشاريعهم الشخصية الصغيرة إلى حين التحسن أو الى حين اعلان الموازنة السعودية التي قد تدفع بعض التطمينات الى الشارع لترفع المعنويات وتشجع رؤوس الاموال الصغيرة. من الاقوال المتداولة لدى العاملين في قطاع العقارات في السعودية مقولة شهيرة مفادها ان "العقار يمرض ولا يموت"، ولكن هذه المرة لم يطبق العقاريون قولهم على انفسهم، وشهدت السوق العقارية السعودية حالات كبيرة وكثيرة من البيع من مبدأ "ادرك ما يمكن ادراكه". ورصدت "الحياة" طرح أكثر من 20 مخططاً ومساهمة عقارية للبيع على الجمهور خلال الشهرين الماضيين، كان اكثر من 90 في المئة منها في منطقة الرياض، ولا يخفي العقاريون عند سؤالهم رغبتهم في التخلص من الاصول العقارية الكبيرة التي تواصل اسعارها الهبوط، والتي يخشون ألا تغطي تكاليفهم حال انتظارهم للعام المقبل. وبقيت المشاريع العقارية الضخمة، خصوصاً في الرياضوجدة محافظة على جاذبيتها الاستثمارية لوقوف فريق ضخم من المسوقين والمطورين خلف كل مشروع من جهة، ولأنها مشاريع قائمة استطاعت الحصول على الخدمات الاساسية. ويتوقع تجار العقار ان يعود السعوديون تدريجياً الى مراكز المدن وبعض الاحياء التي هجروها بحثاً عن الخدمات المتكاملة التي لا توفرها المخططات والاحياء الجديدة الا ما ندر وبعد فترات انتظار طويلة. كان هذا القطاع من اشد القطاعات تأثرا بانخفاض أسعار النفط، ربما بسبب الدربة والدراية الاقتصادية لدى بعض العاملين فيه الذين اكتشفوا ان انحسار موارد النفط يعني انحسار الانفاق الحكومي الذي تعتمد عليه كثير من الشركات السعودية المساهمة بشكل مباشر احياناً. ويعتبر المضاربون نزول هذا العام في اسعار الاسهم "نزولا غير عادي"، وارتبط مؤشرهم كثيرا بمؤشر اسعار النفط فكان ينخفض اذا انخفضت ويرتفع باستحياء اذا ارتفعت. واذا استثنينا بعض الارتفاعات التصحيحية الطفيفة في فترات متباعدة، فقد كان هذا العام بالتأكيد عاماً غير سعيد بالنسبة للسوق والعاملين فيها. تجارة التجزئة مع ربط الناس المتواصل بين انخفاض اسعار النفط، وتراجع الوضع الاقتصادي العام، واحساسهم بقلة السيولة، وما يسمعون عنه من ترشيد الانفاق ومأزق الدول المنتجة للنفط بدأوا تدريجيا في الحرص على مدخراتهم ، وتقنين مشترواتهم بشكل لافت، وانعكس هذا على التجار والاسواق التجارية الذين اصبحوا يعملون بشعار "انقاذ ما يمكن انقاذه"، فبدأت الحملات التسويقية الكبيرة ولجأت اسواق ومراكز كثيرة الى الاعلان الذي هجرته لفترة طويلة، وازداد الاهتمام بالمسوقين والمبتكرين للافكار الاعلانية. واصبح واضحاً للعيان ان التجارة لا زالت متماسكة بالنسبة للسلع الاستهلاكية الضرورية مثل المواد الغذائية والملابس، وبدأت السلع الكمالية في الانحسار الذي يراه البعض ظاهرة صحية للخروج من ثقافة الطفرة الاستهلاكية التي سيطرت لفترة ليست بالقصيرة. التفاؤل والثقة وعلى رغم هذه الصور التي يبدو بعض جوانبها مقلقاً، إلا ان السعوديين لا يزالون متفائلين، ليس بالضرورة لجهة اسعار النفط، لكنهم يلمسون تحركات حكومية تبعث على الثقة، ويتكئون على منجزات كثيرة تمت ابان فترة الرخاء لعل من أهمها الصناعات البتروكيماوية، وانتهاء اغلب مشاريع البنية الاساسية. كما ادركت مجموعة من رجال الاعمال ان عصر السلعة في المجتمع النفطي بدأ بالانحسار ليبدأ العصرالذهبي للخدمات التي لا يزال معظم اسواقها بكراً بالنسبة لبلادهم، خصوصاً في الاتصالات والمعلوماتية والانترنت وغيرها. كما قدمت خطوات الحكومة، التي تمت على اعلى المستويات لتغيير الكثير من الانظمة، والبحث عن مشاريع مشتركة، وربط السياسة العامة بالاقتصاد دفعاً كبيراً للتفاؤل الذي لا يزال بعضه يُمنح للنفط عله يصحو من غيبوبته مرة اخرى.