المملكة تحصد 7 جوائز دولية في الرياضيات والمعلوماتية    صدور قرار تقاعد مدير مكتب التعليم بطريب والعرين الأستاذ حسين آل عادي    رياح نشطة وأتربة مثارة في عدة مناطق    مساعدات غذاء وإيواء للنازحين من السويداء إلى درعا    الداخلية : ضبط (23167) مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    حرائق الغابات تلتهم 6 ملايين هكتار في كندا حتى الآن    الفريق الفتحاوي يواصل تدريباته بحضور رئيس النادي    الاتحاد يضم الغامدي حتى 2023    بوصلة إيزاك تتحول من ليفربول إلى الهلال    إنقاذ 18 عاملًا في منجم ذهب بكولومبيا    تراجع أسعار النفط    مقتل ثلاثة أشخاص في انفجار بمركز تدريب للشرطة في لوس أنجلوس    البرازيلي "شاموسكا" مدرباً للتعاون مجدداً    الأسهم الأمريكية تغلق على تباين    إدارة "النصر"تعيّن البرتغالي"خوسيه سيميدو"رئسياً تنفيذياً    أمير الشرقية يدشّن المخطط العام لمطار الملك فهد الدولي... الأحد    النصر: تعيين البرتغالي سيميدو رئيسًا تنفيذيًا مكلّفًا    أرقام رائعة تُميز ديفيد هانكو مدافع النصر المُنتظر    الهلال يدخل سباق التعاقد مع مهاجم نيوكاسل    للمسؤول … طريق لزمة – الوهابة في انتظار كاميرات ساهر والإنارة    "وِرث" و"السودة للتطوير" تطلقان برنامجًا تدريبيًّا لفن القط العسيري    2000 ريال تكلفة كتابة السيرة الذاتية للباحثين عن عمل    1.9 مليون مصلٍ بالروضة الشريفة وأكثر من 3.4 مليون زائر للنبي صلى الله عليه وسلم    المعيقلي: «لا حول ولا قوة إلا بالله» كنز من كنوز الجنة    حسين آل الشيخ: النميمة تفسد الإخاء وتورث العداوة    حساد المتنبي وشاعريته    ميراث المدينة الأولى    حملات إعلامية بين «كيد النساء» و«تبعية الأطفال»    أبعاد الاستشراق المختص بالإسلاميات هامشية مزدوجة    "هيئة الطرق": الباحة أرض الضباب.. رحلة صيفية ساحرة تعانق الغيوم عبر شبكة طرق متطورة    الجبل الأسود في جازان.. قمم تعانق الضباب وتجذب الزوار بأجوائها الرائعة    إنقاذ مريضة تسعينية بتقنية متقدمة في مركز صحة القلب بمدينة الملك سعود الطبية    جراحة تنهي معاناة مريضة من آلام مزمنة في الوجه والبلع استمرت لسنوات ب"سعود الطبية"    تجمع مكة الصحي يفعّل خدمة فحص ما قبل الزواج بمركز صحي العوالي    اختتام أعمال الإجتماع الأول للجان الفرعية ببرنامج الجبيل مدينة صحية    خارطة لزيادة الاهتمام بالكاريكاتير    معادلة عكسية في زيارة الفعاليات بين الإناث والذكور    مهند شبير يحول شغفه بالعسل إلى علامة سعودية    السعودية: نرفض كافة التدخلات الخارجية في سوريا    جامعة الإمام عبد الرحمن تختتم فعاليات برنامج موهبة الإثرائي الأكاديمي    (إثراء) يعلن عن فوز 4 فرق في المنافسة الوطنية لسباق STEM السعودية    برنامج تطوير الثروة الحيوانية والسمكية يعلن توطين تقنية «فيچ قارد»    المملكة تعزي العراق قيادة وحكومة وشعبًا في ضحايا «حريق الكوت»    صدور بيان عن السعودية و 10 دول حول تطورات الأحداث في سوريا    المدينة المنورة تبرز ريادتها في المنتدى السياسي 2025    أمير منطقة جازان يستقبل وكيل الإمارة والوكلاء المساعدين الجدد    الأولى عالميا.. التخصصي يزرع جهاز دعم بطيني مزدوج بمساعدة الروبوت    تنفيذ حكم القتل تعزيرًا بقاتل الدكتور عبد الملك بكر قاضي    المفتي يستعرض أعمال "الإفتاء" ومشاريع "ترابط"    د. باجبير يتلقى التعازي في وفاة ابنة شقيقه    20 قتيلاً.. وتصعيد إنساني خطير في غزة.. مجزرة إسرائيلية في خان يونس    بوتين لا ينوي وقف الحرب.. روسيا تواصل استهداف مدن أوكرانيا    ضبط 275 كجم مخدرات والإطاحة ب11 مروجاً    وزارة الحج والعمرة تكرم عمر بالبيد    نيابة عن أمير عسير محافظ طريب يكرم (38) متفوقًا ومتفوقة بالدورة (14) في محافظة طريب    أمير تبوك يطمئن على صحة الشيخ عون أبو طقيقه    عزت رئيس نيجيريا في وفاة الرئيس السابق محمد بخاري.. القيادة تهنئ رئيس فرنسا بذكرى اليوم الوطني لبلاده    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الشثري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثلاثة أفلام من مهرجان "القاهرة" . حضارة ضد أخرى في درب من البؤس ومنارة إسلامية ضد التطرف في درب آخر
نشر في الحياة يوم 20 - 12 - 1998

بعد خيبة الأمل الكبيرة التي تمخض عنها فيلم أسماء البكري الجديد "كونشرتو درب السعادة" والغياب المتواصل لمحمد خان والفيلم الجديد لخيري بشارة وعدم انتهاء العمل على فيلم داوود عبد السيد الجديد أو على فيلم يوسف شاهين "الآخر"، يبقى "عرق البلح" لرضوان الكاشف، على نقاط ضعفه، أفضل فيلم مصري خرج هذا العام.
وقد جرت العادة أن يعلل العديد من السينمائيين في مصر انحسار عدد الأفلام الجيدة معتبرين أن في كل انتاجات العالم نسبة قليلة جداً من الأفلام الجيدة. ويعللون وجود الأزمة الضاربة أوصالها في جسد الصناعة السينمائية في مصر بأن "السينما العالمية كلها في أزمة". والتعليلان كلاهما خطأان شائعان وفادحان. فصحيح أن نسبة الأفلام الجيدة الى عدد ما ينتج من أفلام هي نسبة محدودة، لكنها ليست ضئيلة أو قليلة الى أي حد قريب مما يحصل في إطار السينما العربية عموماً.
كذلك فإن القول بأن السينما العالمية كلها في أزمة قول غير دقيق وهو يتردد منذ سنوات كثيرة ما يعني أنه لو كان صحيحاً لانتهت "السينما العالمية" اليوم.
والصحيح أكثر أنها تبيع تذاكر أكثر وتجني من أسواق السينما والفيديو والتلفزيون أكثر بكثير مما كانت تفعله، وان عدد التذاكر المباعة في المانيا وبريطانيا وفرنسا - على الأقل - يواصل ارتفاعه كذلك الأمر بالنسبة إلى مستوى التذاكر المباعة في أكثر من دولة من دول القارة الأميركية بما فيها أميركا الشمالية.
وعوض التبرير بالتماثل مع ما يُعتقد أنه يقع عالمياً، ماذا لو اهتممنا بسينمانا وتركنا العالم وشأنه؟
مهرجان القاهرة الأخير عكس الأزمة التي تشهدها السينما العربية كما كان مهرجان باريس للسينما العربية ومهرجان قرطاج العربي/ الأفريقي عكسها من قبل: سينما بحاجة الى أفلام.
وحتى تلك التي تخفق وتخيب كان من الأسهل قبولها لو لم تكن تشكل جزءاً من السينما التي كانت أكثر توقعاً. في مقابل كل فيلم "بديل" مخفق إثنان أو ثلاثة ناجحة ما يجعل المعادلة، ضمن السينما البديلة أو هكذا كان اسمها في السبعينات مقبولة. لكن مع شحة الإنتاجات، فإن الفيلم البديل الذي يفشل في تسجيل غايته هو خسارة للسينما البديلة كلها.
"كونشرتو درب السعادة" ** من خمسة لأسماء لبكري، عن سيناريو لحسام زكريا أساساً ورفيق الصبان، يبدو كما لو أنه صنع من أجل أن يميّز فيلم المخرجة الأول السابق "شحاذون ونبلاء" أكثر وأكثر.
دراما عاطفية تبدأ على نحو تقليدي تقديم شحاذ الحارة الذي سيموت لاحقاً ليبقى الصبي الذي يصاحبه وحيداً في محاولة رمزية نعرفها مع نهاية الفيلم لكنه واعد. ذلك النوع من الوعد الذي تتساءل حوله، في الدقائق العشر الأولى، هل سيتحقق وفي الدقائق العشر اللاحقة متى يتحقق، قبل أن تدرك بعد ذلك أنه لن يتحقق.
عزوز صلاح السعدني موظف في دار الأوبرا ومتزوج من سلوى خطاب. كل ليلة يعود من عمله الى بيته الوضيع المؤلف من غرفة واحدة في حي شعبي يأكل ثم ينام مع امرأته. انهما من دون أولاد لكن ذلك لا يبدو أنه مثار حديث لا بينهما ولا بين أحدهما ومجموعته من المعارف.
تكاد تأنس لصياغة تلك الأجواء منتظراً حدوث شيء في لبنتها، لكن السيناريو ينص على أن عازفة كمان مصرية مهاجرة منذ 18 سنة ستعود الى وطنها في زيارة تؤدي فيها عزفاً في حفلة عامة ثم تقفل راجعة. عزوز هو الموظف المختار لمهمة العناية بها ومصاحبتها في زيارتها المرتقبة الى الآثار الفرعونية. ما أن يراها، في دار الأوبرا، حتى يفغر فاه مندهشاً مستسلماً أمام كيوبيد حب كان ينتظره. سونيا نجلاء فتحي امرأة أخرى لم يكن عرف مثلها من قبل:
رشيقة القوام، جميلة المحيا، نظيفة، حديثة الطراز، تبتسم وتتحدث بلكنة غير بلدية وعلى الأغلب لا تأكل "الكشري". أنها - بحسب ما يوحيه الفيلم ويبديه - "غير شكل" عن كل نساء الحارات القاهرية. لا بد أن تكون أفضل.
الأكثر من هذا أن الفيلم يمضي لتصوير كيف هي أفضل عبر جعل كل نساء الحارة بشعات أو بدينات أو عجوزات، وفي كل الحالات غير مثقفات. وعزوز وقع في حب سونيا وثقافتها وفي حب عزفها على الكمان وتعرف من خلالها الى الموسيقى الكلاسيكية رغم أنه يعمل منذ أعوام في دار الأوبرا وكان مفترضاً به أن يتعرف ولو عرضاً على تلك الموسيقى. تصحبه سونيا الى حيث تسوح في رحاب الآثار تحدثه عن عظمة الفراعنة. لكن الكلام مباشر وموجه الى من لا يزال لا يعرف شيئاً عن الموضوع أو يشكك به.
وقبل أن يخامر المشاهد الاعتقاد بأن أسماء البكري وجدت التمويل من صندوق وزارة السياحة تتذكر أن وراء الفيلم قصة حب عليها أن تتصاعد الى الفاجعة قبل أن يهوي كلياً. فسونيا لا تشعر بعزوز وعزوز ما عاد يشعر بأي شيء وبأي إنسان آخر حتى بزوجته التي توقف عن مطارحتها الحب منذ مطلع الفيلم. وهذه، تبعاً لتخلفها - الذي يصرّ عليه الفيلم، تذهب الى الأضرحة لكي تدعو وتتبارك وتجلس وسط نسوة يكشفن لها ما يحدث - فقط في حالة إذا لم تقرأ السيناريو بعد.
أما عزوز فيداوم السقوط في الهوة التي تفصل واقعه وطبقته عن تلك التي صدمته قبل أن يتبلور الفيلم عن مفارقات "عبيطة" من نوع أن يركب أهل الحتة شاحنتين صغيرتين الى دار الأوبرا ثم الى موقع الحفل الذي ستعزف فيه سونيا في مهمة انقاذ عزوز من مصيره. رغم ذلك عزوز - مثل الفيلم - لا شيء يمكن فعله لإنقاذه.
وفي النهاية يتقدم من ذلك الصبي الصغير الذي بقي وحده بعدما مات الشحاذ الذي كان يصاحبه في نهاية توحي بأنه سيرعاه الى مستقبل أكثر اشراقاً بعدما تركته سونيا وعادت من حيث أتت.
ما تطالعه هنا هو فيلم يجد الجمال في المستورد لقاء البشاعة التي في مصر الشعبية. حتى المخرج التركي ارسين برتان، صاحب "حب تحت الحصار" ليس أفضل حالاً أدرك أنه فيلم معادٍ للشعب المصري. في واقع أمره هو حسبة درامية أريد لها أن تقول شيئاً فأصابت شيئاً آخر مختلفاًً. انه ما عاد عن حب يمثل فيه الرجل ثقلاً يوازي ثقل وحجم الثقافة الشعبية وأصالتها، بل عن رجل ممحو من ثقافة لا يوجد فيها ما يخلب وينضح بأي قيمة.
وليس فقط أن محيط المرأة هو المزدرى والبشع، بل أيضاً محيط الرجل إذ أن أصحابه لا يفهمونه وغالباً ما هم أمّيون يعجزون عن نطق الكلمات الأجنبية جيداً وأكثر من مرة على طريقة التكرار الذي سريعاً ما يفقد الدلالة المرجوة من كثرة الاستخدام.
الى كل ذلك، هذا ليس الأداء الذي يريد صلاح السعدني وهو ممثل جيد مقارنته بأدائه الرائع في "شحاذون ونبلاء" أو سواه كذلك ليس الأداء الذي يحسب لنجلاء فتحي. شخصيتها علبة مغلقة تصل من الخارج مختومة وتمضي كذلك. والمخرجة وفريقها والممثلة ذاتها لم يجدوا أي داعٍ لتعلم كيفية الإمساك بالكمان، ناهيك بالعزف عليه، فإذا بالممثلة تقبض عليه كما لو كانت تقبض على فخذ خروف.
غرباء الرسالة الإيجابية
في المقابل صرف المخرج السوري سمير ذكرى أسابيع طويلة من أجل أن يعلم بطله بسام كوسا اللغة التركية المطلوبة للحديث في مشهد واحد. غيره كان سيجعل التركي يتحدث العربية فيهدم كل ما في جمالية المشهد ودلالاته.
وإحدى تلك الدلالات أن عبدالرحمن الكواكبي كان مطلعاً ومثقفاً ونيراً ويستطيع أن يتحدث التركية مع من يشاء. وهو لن يتحدث التركية مع السلطان، أو الوالي العثماني الجائر، بل سيتحدث بها مع شيخ جليل يحترمه ويدرك أن يتعاطف مع قضيته. هذه الدلالة وحدها تجعل "تراب الغرباء" عملاً لا يستهان به.
"تراب الغرباء" *** دراما تاريخية تتناول جزءاً من حياة عبدالرحمن الكواكبي الشيخ ومعلم الدين الذي واجه السلطة العثمانية بالرأي والعمل على تمثيل المواطنين المتضررين من الجور العثماني والضرائب الباهظة الملقاة على كاهل الشعب.
مواجهات الكواكبي مع الوالي العثماني لا رجوع فيها بالنسبة اليه. وفي سبيلها يتحمل لجوء معارضيه الى الخديعة والنميمة ومحاولة قتله مرة ونجاحهم في تأليب الوالي لسجنه مرات وعزله في معظم الأحيان.
أحد معارضيه هو رجل يجعل الدين ستاراً لكل عمل رخيص يقوم به وأتباعه، وآخر لديه ضغينة دائمة إذ يخاف أن يقرب السلطان الكواكبي ويرفعه اليه خوفاً منه عوض أن يعزله أو يحكم عليه بالموت.
لا شيء يوقف الكواكبي عن حملته التي يعمد فيها الى الكتابة ونشر الفكر والتوجيه الديني المنتفح الرافض للفصل بين الأديان والطوائف والمتحدث بلغة عربية تنشد تمييز القومية التي ينتمي اليها وتعزيز وجودها حتى حينما ترزح تحت سطوة الاحتلال العثماني.
هذا واحد من مواقف ايجابية عدة تميّز رسالة الفيلم التي من أهمها تقديم ما يجابه التطرف الحاصل اليوم في فهم وممارسة الدين وفي معارضة الثقافات الأخرى ونبذها.
بعض النقاد أعاب على الفيلم، حسبما قال المخرج سمير ذكرى، بأنه تعليمي وآخرون ذكروا أنه لا يعيد تقديم الكواكبي في مفهوم جديد. لكن النقطتين هامشيتان فمن حق الفيلم أن يكون كما يريد وأن يتوجه لمن يرغب.
وبين أن يدخل المرء فيلماً عن ابن رشد وهو لا يعرف شيئاً عنه ويخرج وهو لا يزال لا يعرف شيئاً عنه، وبين أن يدخل فيلماً عن الكواكبي وهو لا يعرف - افتراضاً أيضاً - شيئاً عنه ويخرج وقد عرف أشياء كثيرة عنه، ما يكفي من الحسنات لصالح فيلم سمير ذكرى. هذا ليس من باب تقليل شأن فيلم يوسف شاهين "المصير" الذي تحدث فيه عن ابن رشد من وجهة نظر خاصة، وان كانت المقارنة جائزة.
الجهد المبذول لاتقان صورة "تراب الغرباء" التاريخية والدرامية لا يوجد ما هو مماثل له في أي فيلم عربي آخر هذا العام.
لا بد أن سمير ذكرى صرف عناية كبيرة للغاية في الكتابة ثم في التنفيذ وتأمين كل ما يحتاجه الفيلم من تفاصيل في الأجواء والمرجعيات التصميمية وتفاصيل المكان والزمان. ومن غير صعوبة يمكن للمشاهد أن يلم بذلك الجهد المبذول ويقدر فيه الرغبة الكاملة لاتقان حرفة الفيلم التاريخي والسيرة الخاصة في نحو الفيلم التاريخي حق قدره.
ذكرى أراد - وحقق - فيلماً ذا إيقاع واحد وصعيد واحد وحالة واحدة. يصل منذ البداية الى كنه ما يريد تقديمه ويبقى هناك من دون تعرجات أو إيقاعات.
بعد ساعة يبدأ ذلك النحو من المعالجة بالتعب، أو بالأحرى، بإصابة المشاهد بقدر من الإنهاك الذي قد يكون مقصوداً لذاته لكنه لا يزال يشي بعدم الرغبة في التسليم بحق المشاهد في التمتع بنقلة تخرج عن السياق اللازم.
فسحة من الوقت يسمح فيها للمشاعر بأن تواكب الحقائق. قليل من الفعل الدرامي لكي ينأى جانباً عن الكم الكبير من المعطيات التاريخية.
لا يمكن فصل أجزاء من الفيلم للحديث عنها من خلال تبلور درامي لأنها كلها متساوية الأهمية والحجم والعناية. بل كلها مكثفة والى حد بعيد متقنة على النحو المراد، لكنه اتقان يغفل في ركابه حاجات أخرى ملحة لم يكن ليسيء الى الفيلم ونوعه أو لونه لو أن المخرج أتاح لها بعضاً من جهده.
أناشيد الموت
مع "تراب الغرباء" يشكل "نسيم الروح" *** لعبداللطيف عبدالحميد الإنتاج السوري بأكمله من الأفلام الروائية الطويلة. على عكسه ينتقل المخرج الى الأيام الحاضرة كما فعل في أعماله السابقة مستوحياً مادته. وعلى عكس "صعود المطر" الغارق في الترميز ووشاح السوريالية الملطّف، يكتفي الفيلم الجديد برداء من الفانتازيا الرقيقة يستخدمها على نحو يؤمن لفيلمه زادته من الفرادة، لكنه بالكاد يفعل أي شيء آخر.
قصة عاطفية حول رجل بسام كوسا أيضاً واقع في غرام زميلته في العمل ليلى حوارنة التي تبادله الحب والمتزوجة من رجل سليم صبري؟ يحبها. الموظف يترك وظيفته لأنها تقيد حبه ومن يحب مقيدة الى زوج لا يود الاستغناء عنها وهو الذي يعلم بقصة حب زوجته. المحور في الكتابة والتنفيذ هو شخصية ذلك الموظف وعالمه العاطفي الرقيق. انه انسان مرهف الحس يعايش الفن عزفاً وطرباً ويتعرض في سبيل حبه الى متاعب متلاحقة من دون أن يتأثر ويهوى.
هناك فتاة أخرى بائعة زهور تقع أيضاً في حبه لكنه مشغول عنها وعندما يموت بليغ حمدي يسافر الى القاهرة ليقف فوق جسر على النيل لساعات ليعزي شعب مصر بواحد من أفضل ملحنيها.
هذا كله جميل يمر كنسيم الروح بدوره. خفيف، عليل، مضحك قليلاً، حزين قليلاً وبلا اتجاه محدد في كل الأحيان.
ضمن تركيبته الخاصة هناك مواقع بالغة الجمال ومعالجة فاتنة لقصة حب يمازجها الخيال الرحب والرشيق. لكنه أساساً فيلم حافل بالموت.
في مطلع الفيلم تحلم بطلته بموتها. في غماره يموت شخصان يودعهما بطل الفيلم بالورود، ثم يموت بليغ حمدي دون أن نراه قبل أن ينتهي الفيلم بذات الحلم إنما الضحية هو البطل الذي يقع خارج اللقطة على غرار موت جوويل ماكراي في نهاية فيلم سام بكنباه "مسدسات بعد الظهر" - 1962.
لو خلعت عن الفيلم ثيابه المزركشة لبدا لك الجسد شاحباً. انها قصة حب صغيرة تنتهي بفاجعة.
المخرج عبدالحميد يفعل ما كان سيفعله كل سينمائي يريد سرد قصة حب لا جديد فيها وهو إضافة لمساته الخاصة ومعالجته الروحانية الرقيقة اليها لكي تبدو منفصلة عما سبقها. وفي هذا الإطار ينجح للغاية.
بسام كوسا: نجم كل الفصول
بطل الفيلمين السوريين الوحيدين هذا العام هو بسام كوسا. وهو معروف على الشاشة الصغيرة وله جمهور يتمادى في العالم العربي. ليس فقط بسبب وسامته وروحه الظريفة، بل أساساً بسبب تفانيه في أدائه وجودة ما يصدر عنه من أداء.
عندما شوهد في أول دور سينمائي رئيسي على الأقل وذلك في فيلم "الكومبارس"، لاح على مرأى الجميع أي نوع من الممثلين هو.
في "الكومبارس" لعب شخصية شاب لديه موعد غرامي في شقة. المشاهد الأولى من هذا الفيلم الممتاز لنبيل المالح تقدمه لنا وهو يرجو صديقه الذي أعاره الشقة الخروج منها قبل أن تصل الفتاة التي سيختلي بها. وهناك فصل صغير نراه فيه وحده يجهّز نفسه لاستقبالها. بسام الكوسا يصيب الوتر الصحيح لكل شاب في مكانه: ذلك الارتباك الذي ليس بحاجة الى أي تكلف يستمر، منتقلاً بالنوع دون تكرار، الى المشاهد اللاحقة، أي بعد وصول الفتاة، ثم بعد مداهمتهما مرتين رجال يسألون عن الجار وامرأة من الجوار.
تشخيص عبدالرحمن الكواكبي له ذات المجال المفتوح، بما أن الكتب المتوفرة عنه تعنى برسم الصورة العامة تاركة التفاصيل. انه اختيار بسام كوسا الخاص للكيفية التي يريد عبرها تمثيل ذلك الدور الباقي إدارة المخرج للحركات وفقاً للحوار. ومع ان الاختيارات مفتوحة هنا أمام الممثل لتقديم أي كواكبي يريد، إلا أنه التزم أداء يعكس من خلاله رجلاً معتدلاً، قوياً وحانياً في ذات الوقت. ربما في المرات النادرة التي يتصدى فيها ممثل نحيف القامة، متوسط الحجم يمكن أن يناسب أكثر شخصية آنية التواجد، كما في "كومبارس" أو في "نسيم الروح" لشخصية جرى التقليد على اسنادها لممثل أطول وأكبر حجماً وسناً. وفوق ذلك ينجح كوسا في مهمته أيما نجاح.
"نسيم الروح" نوع مختلف قطعاً لكنه لا يقل أهمية. تستطيع أن تقول أن بطل الفيلم السابق "كومبارس" قد نما وترك حب المراهقة الذي جمعه بفتاته الأولى وانتقل من المدينة المزدحمة الى تلك الوادعة نوعاً، لكن من دون أن يترك وراءه لهفته. شخص يجد في الحب كل ما يبحث عنه ولا يجد ما يبحث عنه في الوقت نفسه.
أداء بسام كوسا رقيق وفعال في "نسيم الروح" وسبب وجيه في نجاح عملية الفيلم كله. وكعلامة على موهبة هذا الممثل الموهوب كثيراً، فإن دوره الأصعب في "تراب الغرباء" وكيفية إدائه ذلك الدور هو سبب وجيه أيضاً في نجاح ذلك الفيلم بأسره. بسام لا يمثل بجزء منه، بل بكله.
انظر اليه في "تراب الغرباء" وفي "نسيم الروح" تجده مختلفاً تماماً. وهذا ما يصنع منه الممثل الملائم لاختلاف الأدوار والأزمنة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.