زرت طهران في الاسبوع الأول من شهر شباط فبراير الماضي لحضور مهرجانها السينمائي. وحاولت في البداية، وفي عجلة من أمري، ان استحضر بعض الصور التي شحذت مخيلتي عبر المشاهدات السينمائية، وبما توفر لي من معلومات أولية عن ذلك البلد الذي اختلطت صورته أمام نفسه وأمام العالم. وصولي في تلك الليلة الباردة الى مطار العاصمة الايرانية ترافق مع الذكرى التاسعة عشرة للثورة الاسلامية وبدد كل ذخيرتي بضربة واحدة. ولأعترف، ان الصور والمعلومات لم تشفع لي إلا في معرفة القليل من ظواهر مجتمع يمور بشتى التيارات والمفاهيم الفكرية، بعد أن هزت الثورة على مدى السنوات السابقة الكثير من أسسه. لحظتها قررت الاعتماد على ما توفره مشاهداتي الشخصية، واطلاق العنان لناظري من دون الرقيب أو الأحكام المسبقة. وفي الأيام التالية تشكلت لي صورة أولية، أقرب الى نبض الشارع والى نظرات المارة المأخوذين بدوامة الحياة اليومية. كان منظر الشباب من الجنسين هو أول ما خطف عيني، عشاق يمضون الى مواعيدهم بثقة وأمان. صبايا يلعبن كرة القدم في الحدائق العامة من دون ان يشكل الحجاب عائقاً لحركتهن أو أن تقيدهن حواجز تفصل ما بين الجنسين. باعة من سكان المدن القريبة تتوزعهم أرصفة الشوارع والساحات العمومية. طلاب يبحثون عن مصدر علمي أو كتاب في سوق على بعد خطوات من "ميدان انقلابي" الذي انطلقت منه الشرارة الأولى للثورة. الحضور الطاغي للمرأة في مواقع العمل المختلفة وبشكل غير مسبوق في تاريخ ايران المعاصرة. لكن السؤال التحدي هو كيفية معرفة خيارات هؤلاء وسلم أولياتهم، خصوصاً اذا عرفنا ان نصف عدد سكان ايران التي تضم 60 مليون نسمة ولدوا بعد الثورة الاسلامية. و54 في المئة منهم دون الثامنة عشرة، فيما تتزايد النسبة لتصل الى 65 في المئة لمن هم تحت سن الخامسة والعشرين. بمعنى آخر ان تطلعات شباب ايران اليوم أغلبهم انتخب السيد محمد خاتمي رئيساً للجمهورية في أيار مايو من العام الفائت، وخرج الى الشوارع تغمره الفرحة يستقبل فريقه لكرة القدم عندما تأهل الى كأس العالم بفوزه على استراليا، معقودة على ما ستوفره لهم الدولة من فرص عمل وضمانات حقوقية. فالاقتصاد الايراني في أزمة خانقة، ليس بسبب انخفاض أسعار النفط فقط، وانما نتيجة سنوات من الاهمال والتسيب وجروح وندوب الحرب مع العراق التي لم تندمل بعد. الدراسة الجامعية هي الخيار الأول للشباب الايراني، لكنهم سرعان ما يدركون حقائق خارج ارادتهم. فنصفهم لا يشغل عملاً ثابتاً، ولا تشكل الفرص المتاحة اغراء بحد ذاتها، هذا لو استبعدنا من تنقذه رحمة البازار ببركاتها كونه عصب الاقتصاد بعد النفط. وفيما لا يتجاوز متوسط دخل الفرد خمسين دولاراً، نجد ان الكثير منهم يشتغل في عملين لتلبية حاجاته اليومية المتزايدة، خصوصاً أولئك الذين داعب الزواج والاستقرار مخيلتهم. في حين يفضل أغلب الشباب المنحدر من عائلات ميسورة البقاء في بيوتهم أو التسكع في الشوارع، كشكل من أشكال الرفض لما توفره الحياة لهم. وعن البدائل فإن السفر الى الخارج هو ورقة اليانصيب الرابحة التي يحلم بها الشباب من كلا الجنسين، على رغم معرفتهم بصعوبة الحصول على تأشيرة. وتأتي الولاياتالمتحدة في مقدم هذه الخيارات، على رغم ان العلاقة مع هذه الدولة تعتبر من المحرمات الى فترة قريبة. وتحتل أوروبا الخيار الثاني، ومن ثم السفر الى احدى الدول الخليجية، لقربها ووجود جالية ايرانية كبيرة فيها، اضافة الى أن البضائع والسلع المحلية، من سجاد ومحاصيل زراعية تجد لها هناك سوقاً ومشترياً. من الصور التي صدمتني لدى الشباب الايراني الاسراف في التدخين والمباهاة به لا سيما اذا كانت السجائر تحمل علامة "مارلبورو لايت"، ورحت أسأل نفسي هل ذلك يعني نكاية بصناعة السجائر المنتجة محلياً أم تشبثاً بموقع يكسب صاحبه موقعاً في صراع الأضداد؟ لئن كانت ظاهرة التدخين هي شكل من أشكال التمرد، فإن تسريحات الشعر وسماع الموسيقى الغربية والتبضع من محلات كان التقرب منها يعتبر تهمة بذاتها، خصوصاً النسائية، تؤشر الى خيارات لا تعرف نتائجها. رتابة وصعوبة الحياة اليومية يجري تنفيسها بصناعة النكات التي تنتشر بسرعة البرق، وموضوعها المفضل واللانهائي ينصب على مفارقات وعثرات الأتراك. ازاء هذا الوضع لا يجد المرء الا ان يتمعن مرة أخرى بالممكنات المتاحة لجموع الشبيبة الايرانية، هل تكون الرياضة والسينما هي من الفسح القريبة للتماهي معها؟ وهل يمكن لأصحاب القرار السياسي اغفال حاجات من انتظر نصيبه من وعد انتخابي أو من ثورة كانت الشبيبة وقودها ودخانها؟ لعل حسين سابزيان بطل فيلم "كلوز أب"، العاطل عن العمل، المعدم، المخذول، المنفصل عن زوجته، المكلف اعالة طفله ووالدته العجوز، والذي تقمص شخصية المخرج محسن مخملباف. او تلك الفتاة التي تقدمت لاختبارات تؤهلها ان تكون ممثلة سينمائية في فيلم "سلام سينما" من أجل السفر الى فرنسا والالتقاء بمن أحبت. لعلهما وجدا الاعذار الكافية لمثل هذه الخيارات السلمية.