«أناشيد مالدورور» للشاعر الفرنسي لوتريامون صدرت حديثاً عن دار الجمل في ترجمة عربية كان أنجزها الكاتب اللبناني سمير الحاج شاهين في الثمانينات، وصدرت في طبعة وحيدة عن المؤسسة العربية في بيروت وسرعان ما نفدت. الطبعة الجديدة أعاد المترجم فيها النظر وضمت مقدمة طويلة ومهمة، هي بمثابة مدخل نقدي لقراءة لوتريامون. ومعروف أن لوتريامون صاحب أناشيد مالدورور، ولد عام 1846 ومات عام 1870 ولما يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، مخلِّفاً وراءه تراثاً أدبياً ما زال الشغل الشاغل للكثيرين من النقاد والأدباء حتى يومنا هذا. كان لوتريامون، واسمه الحقيقي ايزودور دوكاس، مخلوقاً غريب الأطوار، غريب التكوين. كان طويلاً نحيلاً محدودباً، أشعث الشعر، أجش الصوت، ناتئ الصدغين، في لسانه حبسة وتلفّه كآبة ظاهرة. وكان دائم الصداع مورَّقاً لا يعرف النوم، وإذا ما أغفى فعلى كوابيس رهيبة أين من رهبتها الأرق المُمِضّ. وقد ذكر حالته تلك في أناشيده، فوصف ضعفه الجسدي والنفسي وحرمانه تذوق مباهج الحياة وقطف ثمار الحب والهوى والشباب، ونعمة النوم والرقاد... «سعيد من يغرق في سبات عميق ساعة يضع رأسه على مخدته، ها إني منذ يوم ولادتي المشؤوم أعاني من الأرق الذي نذر أن يجرف دائماً أعضائي الى أعماق الحفرة التي تنبعث منها منذ الآن رائحة المقابر»... هذا ما يقوله. وفي مستهل النشيد الأول: «نرجو السماء أن يهتدي القارئ، المتجاسر وقد أصبح موقتاً ضارياً أسوة بما يقرأه، من دون أن يتوه، الى طريقه الوعر والمهجور، عبر المستنقعات الموحشة لهذه الصفحات الكامدة والمليئة بالسم، لأنه إذا لم يجلب الى قراءته منطقاً صارماً وحصر ذهنٍ مساوياً على الأقل لريبته، فإن الفيوض المميتة لهذا الكتاب ستبلل روحه كما تفعل الماء بالسكر. ليس حسناً أن يقرأ الجميع الصفحات التي ستلي، البعض فقط سيتذوقون هذه الثمرة المرة دون خطر. لذلك، أيها الروح الحيية، قبل أن تتوغل أبعد من ذلك في أراضٍ بائرة غير مكتشفة من هذا النوع، وجِّه عقبيك الى الوراء وليس الى الأمام. اسمع جيداً ما أقوله لك: وجه عقبيك الى الوراء وليس الى الأمام، كعيني ابن تشيحان باحترام عن التأمل المهيب للوجه الأمومي، أو بالأحرى، كزاوية على مد البصر من طيور الكركي السريعة التأثر بالبرد، الكثيرة التأمل، التي تطير، خلال الشتاء، بقوة عبر الصمت، ناشرة كل أجنحتها، نحو نقطة محددة من الأفق، من حيث تنطلق فجأة ريح غريبة وقوية، مؤذنة بالعاصفة».