لم تقتصر ثورة الشباب في مصر على خلع النظام فحسب، بل تجاوزتها إلى خلع مفاهيم دينية وأخرى فكرية ظلت سائدة في الأجواء الثقافية والدينية حيناً من الدهر. الساحة الشرعية شهدت تجاذباً شديداً، بين من يرى أنها آلت إلى فوضى وأنها خروج على ولي الأمر. ومن يرى أن أولويات الدين إقامة العدل ورفع الظلم على الناس وأنها تندرج ضمن إنكار المنكر. وفي جانب آخر، رأى آخرون أن الثورة كشفت حجم الوعي السياسي لدى الشرعيين. كانت مفاهيم الثورة وأسبابها وكيفية اندلاعها حاضرة لدى الآيدلوجيات اليسارية، سواء كانت قومية أو دينية، وتوصف بأنها نوع من «غوغائية الثورجيين»، إلا أنها بعد تنحي مبارك، بدأت تحضر في تعليقات الشباب على وجه العموم في حين خفت بريق الأطروحات التي تؤمن بالتحوّلات التراكميّة الهادئة المبنيّة على التصالح مع الواقع وتطويره تدريجياً. الدكتور خالص جلبي في حديث خاص مع «الحياة» وصف الثورة المصرية بأنها سابقة على مستوى الإنسانية، واعتبر سر نجاحها في سلميتها، خصوصاً أن مصر كما يصفها عمود الخيمة العربية. الدكتور خالد الدخيل أيضاً ذكر أن الثورة المصرية لم يسبق لها مثيل في التاريخ العربي، وعلى مدى أكثر من 1400سنة، أن خرج الشعب في وجه الحاكم يطالبه بإصرار لا يلين على التنحي عن كرسي الحكم. المرة الوحيدة والاستثنائية التي حصل فيها ما يشبه ذلك هو ما حصل للخليفة الراشدي الثالث، عثمان بن عفان كان ذلك عام 35 للهجرة عندما جاءت جموع من أهل العراق ومصر، ومعهم أهل المدينة، تطالب الخليفة بالتنحي. وقد انتهى المشهد آنذاك بقتل الخليفة. الثورة المصرية ليست هي الثورة الإسلامية في إيران كما يقول الإعلامي المهتم بالحركات الإسلامية حسام تمام، على رغم أن التدين لم يفارقها لحظة، بل يمكن القول إنها ليست حتى استعادة لثورة يوليو التي قامت قبل 60 عاماً، فهي لا ترفع مطالب قومية ينفرد بها المصريون، بل تلتئم ضمن مطالب إنسانية عالمية: الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، ويبدو أن هذا سر نجاحها، ومناصرة كل التيارات الوطنية معها. على مستوى الساحة الشرعية، بعض سلفيي مصر كانوا ممتنعين عن المشاركة في المظاهرة لكنهم في الأخير انضموا لها كالشيخ محمد حسان وغيره، في حين ظل آخرون متمسكين بالممانعة. أما في السعودية كان هناك جدل بين الدكتور محمد السعيدي والباحث الشرعي عبدالوهاب آل غظيف. الأول يرى حرمة المظاهرات، والآخر يفرق بين الخروج على الحاكم وإنكار المنكر. معتبراً أن المظاهرة نوع من إنكار المنكر وليس الخروج عليه. الباحث الشرعي وليد المصباحي يوضح أن «المظاهرة ليست على الحاكم، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «أفضل الشهداء حمزة ورجل قام الى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» والمراد بهذا القيام هو القيام العلني والمظاهرة، لأنك لو ذهبت إلى أظلم وأطغى رجل في العالم فنصحته سراً بينك وبينه فإنه لن يسيء إليك أصلاً فضلاً عن أن يقتلك» على حد زعمه. وأضاف: «لو كانت المظاهرة خروجاً لكان الأعرابي الذي أمسك بتلابيب النبي خارجياً وباغياً، ولكنه صاحب حق هكذا سماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم». وأفاد بأن أهل السنة والجماعة لا يرون الخروج على أئمتهم وولاة أمورهم وإن جاروا، ولكنهم يرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يسكتون عن بيان الحق وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحقرن أحدكم نفسه قالوا: وكيف يحقر نفسه؟ قال: أن يرى أمراً لله فيه مقال فلا يقول به فيلقى الله تبارك وتعالى وقد أضاع ذلك فيقول: ما منعك؟ فيقول: خشية الناس فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى. لافتاً إلى أن الشعب هو الأصل والحاكم فرع وليس العكس، معتبراً أن المتظاهرين لا يريدون الفوضى وإنما الذي يريد الفوضى هم من يرى ان مصلحته في عدم رفع المظالم واستمرار الجور». في عالم الفيسبوك الحديث عن مصر لا يهدأ، يقول أحد المشاركين في هذا العالم أيمن جابي: «إذا لم تكن هناك أرضية صلبة من الوعي والإرادة لدى الشعوب، كان التغيير العقلاني التراكمي هو المطلوب، لكن في حال كحال مصر وتونس نجحت الثورات لوعي الشعب ولإرادته» في حين يرى آخرون أن هاتين الثورتين (مصر وتونس) هما من ستقفز بالوعي العربي لاحترام قيم الحرية وقيمة التنظيم الجماعي في المطالبة بالحقوق سلمياً وبالطرق المتاحة والتضييق على الفساد و الظلم. ما فعله الشباب المصريون الذين لم ينتظروا رأياً شرعياً ولا فكرياً من أحد، وغير المنتمين إلى أي تيار، وجهوا به أضواء العالم كلها نحوهم، وليس الشرعيين فقط، الذين انشغلوا بتحرير «الثورة» فقهياً!