انطلاقاً من الإرادة الإسلامية - المسيحيّة المُصمّمة على العيش المشترك، ورفض التطرّف، وإدانة العنف والجرائم التي ترتكب باسم الدين، عقد الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين في القاهرة بين 28 شباط (فبراير) -1 آذار (مارس) 2017 مؤتمراً موضوعه «الحريّة والمواطنة.. التنوّع والتكامل» حضره أكثر من مئتي شخصية من ستين دولة من النخب الدينية والمدنية والثقافية والسياسية، الإسلامية والمسيحية، من الوطن العربي والعالم، وتميز بمشاركة قيادات دينية ووطنية وشخصيات ثقافية لبنانية (55 شخصية)، ما يشير الى نموذجية لبنان وموقعه المعنوي لتعزيز العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، وإلغاء التفكير بمنطق الأقليات، والعمل بمقتضاها الى البدء بعملية ترسيخ القيم المشتركة من دينية وأخلاقية. على مدى يومين استمعت الى محاضرات ومداولات في قضايا المواطنة والحرية والتنوّع ذكّرتني بمبادئ الثورة الفرنسية والصدمة التي أحدثتها حملة نابليون على الرعيل الأول من النهضويين، وفرحت بأن مؤسسة دينية ضخمة كالأزهر، لها ثقلها في العالمين العربي والإسلامي، ترفع شعارات مدنية من هذا النوع جديرة بالدور التاريخي العلمي الذي تؤديه ومسؤولة عن كل كلمة صدرت في الإعلان وجديرة بالنهضة العربية المعاصرة ومستقبل مصر. وقد تجاوب اللبنانيون بعقد مؤتمر وطني جامع في جامعة سيدة اللويزة بتاريخ 1-7-2017 أعلن المشاركون فيه ترحيبهم وتأييدهم إعلان الأزهر الشريف باعتباره «دعوة مخلصة وصادقة من جانب كبرى المؤسسات الدينية العربية والإسلامية، الى شراكة كاملة، في كلّ بلد عربي وفي دولة وطنية دستورية مدنية، تكون قائمة على المساواة بين كل أفراد الوطن الواحد. وتعزز التنوّع والتعددية الثقافية والدينية، وتستبدل لفظة «أقليات» بلفظة «المواطنة». ولأننا نحن النساء، مسيحيات ومسلمات، معنيات بهذين الإعلانين أقدم مساهمة متواضعة بهذا الشأن وموجهة الى الفريقين: الفريق المِصري الذين وضع إعلان الأزهر والفريق اللبناني الذي وضع الصيغة المقترحة للبيان للمتابعة والاستفادة من «إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك» لأنهما معنيان بمشاركة المرأة في ترسيخ قيم الحوار الديني وبحقوق المرأة من المواطنة الى المساواة. لتأصيل مصطلح «المواطنة» في الإسلام رجع المفكرون بإعلان الأزهر الى بداية الإسلام، والبدايات دائماً جميلة كما عشناها أخيراً في بداية ثورتي الياسمين في تونس ( 2010) ويناير في القاهرة (25 يناير 2011)، فاستدعى الأزهر ممارسة في المواطنة من تجربة رائدة في التاريخ الاجتماعي- السياسي لنظام الحكم طبّقه النبي (صلى الله عليه وسلم) في أول مجتمع إسلامي أسّسه، هو دولة المدينة. و «دستور المدينة» يستأهل إعادة القراءة من جديد من قبل القانونيين. والدستور متوافرٌ على الصفحة الإلكترونية (الوب). و «دستور المدينة» لم يتضمّن أيّ مقدار من التفرقة أو الإقصاء لأيّ فئة من فئات المجتمع آنذاك، وإنما تضمّن سياسات تقوم على التعددية الدينية والعرقية والاجتماعية، وهي تعددية لا يمكن أن تعمل إلا في إطار المواطنة الكاملة والمساواة (مع التشديد من كاتبة المقال على المواطنة الكاملة والمساواة) التي تمثلت بالنصّ في دستور المدينة على أن الفئات الاجتماعية المختلفة ديناً وعرقاً هم «أمّة واحدة من دون الناس»، وأن غير المسلمين لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين. وتأكيداً لهذه المواطنية التاريخية المؤسسة للعيش المشترك، ليس فقط بين العنصر الرجالي على اختلاف أديانه وفئاته الاجتماعية، لكن بين هذا العنصر والعنصر النسائي (ليس بمعنى الفئة بل بمعنى الأهمية النسائية)، نذكّر بما شهده التاريخ الإسلامي المبكر في مساره السياسي من عدة مراسيم «عقد البيعة» التي تمّت بين الرسول والمؤمنين رجالاً ونساءً وفي مناطق مختلفة. ويمين البيعة لا يزال معمولاً به في المملكة المتّحدة وكندا. وصحّة هذا التعاقد بالنسبة الى بيعة النساء هو التالي: «يا أيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.» (سورة الممتحنة، 10-13). هذه البيعة باعتبارها نصّاً مرجعياً بخصوص بيعة النساء انعقدت بناءً على توجّهات تمسّ أموراً عقدية وأخلاقية - اجتماعية وقانونية كما تمسّ أسس تطور مجتمع جديد. وقد بايعت النساء الرسول على الإسلام في ثلاث بيعات: بيعة العقبة وبيعة الرضوان (بيعة الشجرة) وخلال دخول الرسول إلى مكّة، اذ يذكر لنا التاريخ واحدة من أكبر مراسيم البيعة التي شارك فيها النساء والرجال. ومنذ نزول القرآن الكريم بصيغة «بيعة النساء» أصبحت هذه الصيغة هي النموذج الذي يقتدي به الرجال في مبايعتهم النبي على ما جاء فيها حرفياً، بعدما كانوا يبايعونه على السمع والطاعة، وبذلك غدت صيغة البيعة موحدة بين الرجال والنساء باعتبار أن الله تعالى هو الذي اختارها». وقد شدّد الأزهر في وثيقته حول حقوق المرأة (للأسف، على رغم شديد اعتدال الوثيقة أبى الأزهر ونكص عن إصدار وثيقة حقوق إسلامية للنساء تقوم على قاعدة المساواة)، على أن مسؤولية المرأة الاجتماعية المعتمدة على الثوابت الإسلامية الكبرى في مرحلة التأسيس، مثلتها «بيعة النساء» التي أصبحت في صدر الدعوة الإسلامية حجر الزاوية في بناء الأمة الإسلامية على ما يشبه «العقد الاجتماعي» الذي أعقبته البيعة العامة بين الرسول الكريم وسائر المسلمين. ولم تكن دلالة هذه البيعة دينية فحسب، بل كانت سياسية واجتماعية وثقافية بادرت بها النساء وسبقن الرجال، ومن ثم فإن إطلاق المساواة لتشتمل الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية يعتمد على النصوص الصريحة والسوابق التاريخية الموثقة في الإسلام، وقد ساهم تطوّر المجالات والأدوار والأنظمة في تعزيز مكانة المرأة ومشاركتها المتصاعدة والفعالة تراعيها القوانين والتشريعات تحقيقًا للمصالح المرسلة، وأخذًا باجتهاد علماء الأمة في التفسير والتأويل، وهي عملية تاريخية وثقافية مستمرة، من حق المرأة عندما تأخذ نصيبها الوفير من المعرفة والعلم والتأهيل، بل من واجبها أن تساهم فيها بكل طاقاتها وإمكاناتها. ان مشاركة النساء على قدم المساواة مع الرجال -في المسار التاريخي السياسي- موثّق مثله مثل دستور المدينة، السؤال المهم: هل حظيت أخلاقية الاعتراف بأدوار النساء ومشروعيتهن الفكرية في الحقل الديني بالاهتمام؟ وفي سياق تأصيل البدايات الجميلة ذاته، رجع وكيل شيخ الأزهر الشيخ عباس شومان في لقاء اللويزة في لبنان الى البدايات في أول حوار مسيحي - إسلامي قام في الحبشة بين المسلمين الأوائل المهاجرين وبين نجاشي الحبشة وأساقفته. وهذا الحوار قام بين المهاجرين المسلمين الأوائل هرباً من اضطهاد قريش لهم، وطلباً لحق اللجوء والحماية في أرض المسيحية؛ وهذه اللحظة التاريخية تشبه اللحظة اليوم، اذ هاجر المسلمون من المشرق العربي (بخاصة العراق وسورية) ومغربه (ليبيا وتونس والمغرب) بالملايين، ولا يزالون على الهجرة مواظبين، بل يرمون بأنفسهم في لجج البحر الى أرض أوروبا المسيحية، طالبين حقّ اللجوء والحماية من بطش الأنظمة المستبدّة والاقتتال الطائفي والعشائري المخيف. لكن ما نحن معنيون به في هذا الاسترجاع الى بدايات الإسلام هو ما غفل عن ذكره وكيل شيخ الأزهر الشيخ عباس شومان من دون قصد، وهو ان الآيات التي أخذها المهاجرون من المسلمين الأوائل معهم الى الحبشة، لإبراز المشترَكات بين الدينين الإسلامي والمسيحي هي آيات تخصّ السيدة مريم (عليها السلام)، اذ كما يقول ابن إسحاق، تلا جعفر بن أبي طالب أمام نجاشي الحبشة وأساقفته، وأمام وفد من قريش جاء لإقناع الأحباش بتسليمهم مسلمي قريش عندهم، الجزء الأوّل من «سورة مريم» القرآنية. وهذه التلاوة شعائرية (شعرية دينية) أظهرت مريم «الممتلئة نعمة» بآيات الذكر الحكيم ومفتاحه «الرحمة» وربطت القيم الروحية بالقيم لأخلاقية، حيث ربط الصوم بالصلاة والزكاة مع برّ الوالدين والتواضع لهما. فتأثّر النجاشي وبكى أساقفته حتى أخضلوا أناجيلهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، فقال النجاشي «إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلِقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون (ابن هشام، السيرة، 336-337)، فقد بكى النجاشي والأساقفة من خشية الله لما سمعوا من ذكر الرحمة الربانية التي جاءت الى زكريّا ومريم وإبراهيم هبةً من الرحمن ورحمةً منه ما أسفر عن ردّ فعل رحب تجاه المسلمين الذي لجأوا في هجرتهم الأولى الى أرض المسيحية. ونصح وكيل الأزهر الشيخ عباس شومان في كلمته الطيبة اللبنانيين بالاقتداء بتجربة المصريين في تأسيس «بيت العائلة المصرية». وجاءت فكرة إنشاء «بيت العائلة المصرية» عام 2011 في وقت عصيب للغاية كانت تمرّ به مصر والبلاد العربية بعد ثورات «الربيع العربي» ومآلاته، منذ وصول الإخوان الى الحكم الى زعم دولة الإرهاب في العراق انها إسلامية، ليشارك الأزهر الشريف برئاسة شيخه الدكتور أحمد الطيب مع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية برئاسة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة المرقسية، في قيادة مؤسسة جديدة تستهدف «الحفاظ على النسيج الوطني المِصري بالتنسيق مع جميع الهيئات والوزارات المعنية في الدولة»، والتصدّي لمحاولات غرس روح الفتنة بين أطياف الشعب الواحد، وغرس ثقافة التسامح وقبول الآخر، ونبذ الأفكار المتطرفة والإقصائية وتجنيب المجتمع ويلاتها. وحين أشار شومان الى تصدير فكرة «بيت العائلة المِصرية» الى اللبنانيين قلت في نفسي ان كل بيت يلزمه أمّ، وأمُّ البيتين المصري واللبناني السيدة مريم «عليها السلام». فنحن في لبنان نحتفل رسمياً بيوم 25 آذار من كل عام ب»عيد البشارة» لمريم، والبشارة معطى كتابي إنجيلي وقرآني، استحضرها اللبنانيون كجسر يلتقون حوله ويتحاورون. وتعزيز الرمز الأمومي في السيدة مريم هو تعزيز قيمة مشتركة هي قيمة «الرحمة» التي وردت مكثفة بارتباطها بالأم التي لا نختلف حول محبتنا إياها، السيدة مريم، ما يجعل الرحمة «قيمة أمومية» بامتياز، وهي أكثر ما نحتاج إليه اليوم في مصر ولبنان وأوروبا المضيفة. و «الرحمن» هو الله سبحانه وتعالى وقد تجلّى أوّل ما تجلّى لِخلقه بأولى القيم وأكملها على الإطلاق، وهي الرحمة «ورحمتي وسعت كلّ شيء» (الآية 156، سورة الأعراف). ويأتي ذكرُ «الرحمن» عقب ذكر اسم الذات، أي الله كما في البسملة «بسم الله الرحمن الرحيم»، وكما في الآية الكريمة «قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحُسنى» (الآية 113 سورة الإسراء). ان هذا الترتيب في كلام الله يرد كي يفيدنا بما لا يفيده ترتيب غيره، وهذه الإفادة هي أن صفة الرحمة تتقدّم على غيرها من الصفات في قيامها بذاته سبحانه. يبقى اننا محتاجون الى مؤسسة تشبه «بيت العائلة المِصرية» كما أننا محتاجون الى إدماج قيمة «الرحمة» في ثقافتنا الدينية، وإعلان عدم تحرجنا من محبة مريم إياها، وهي صاحبة الدعوة الى استنهاض هذه القيمة التي ستعيد التوازن الى كل العلاقات بيننا. ومعنى «الرحمة» الموجودة في الناس من المعنى الموجود لله تعالى «الرحمن الرحيم»، فتناسب معناهما تناسبٌ للفظيهما. اذاً نحن بأشدّ الحاجة الى القيام بتدارس لاهوت او علم كلام مريمي مسيحي - إسلامي قائم على «مبدأ التراحم» بين المسيحية والإسلام، التي تقف مريم في قلبه، لأن الرحم استعير للقرابة، ولكوننا خارجين من رحم واحدة علينا العودة إليها. في هذا السياق، جاءت الحاجة في كلام إعلان الأزهر الشريف الى تأصيل البدايات في دستور المدينة والحوار الذي تمّ بين المسلمين المهاجرين وأهل الحبشة من المسيحيين. وها نحن النساء نؤكد الدور الذي نقدمه في حوار الأديان على المستوى الرسمي، وأن إسهاماتنا في هذا المجال تستطيع ان تفك ايّ رابط بين إشكالية التأويل وبين المخاوف الدينية ومفهومي المواطنة والمساواة. و «المواطنة والمساواة» شعاران رفعهما الأزهر في منظومته الدينية وهي «مفاهيم مدنية» موجهة الى الرجال والنساء معاً. ونحن في لبنان حياتُنا هي «العيش المشترك»، يبقى ان نربُط هذه المفاهيم المدنية بالعلوم الاجتماعية وواقع حقوق المرأة في الإسلام والمسيحية. هذا الربط سيخرق حتماً المنظومة السياسية - الطوائفية التي تهرش في جسم أوطاننا، وسيساعد في تبني مشاريع إصلاحية شاملة تتكفل بإعطاء الحوار الديني بعداً إنسانياً وأخلاقياً نحن اليوم بأمس الحاجة اليه.