لم تعد البيئة الدولية والإقليمية والعربية مهمومة بالقضية الفلسطينية، فالدول الكبرى منشغلة بتدارك مفاعيل الأزمة الاقتصادية، وبالكوارث البيئية، وبمخاطر العمليات الإرهابية. وعلى الصعيد الإقليمي ثمة عدم استقرار في توازن القوى، أو نوع من مرحلة انتقالية، بانتظار التوافق على تموضع مكانة إيران وتقرير مصير مشروعها النووي، على مستوى المنطقة، في ظل تخوّف من إمكان حسم ذلك عبر حرب إقليمية، أو حرب قد تشعلها إسرائيل على هذه الجبهة أو تلك. وعلى الصعيد العربي فإن الأحوال تبدو غير مستقرة، على خلفيات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وقد شكّلت الانتفاضة الشعبية التونسية علامة في هذا الاتجاه. وكما بات معلوماً فإن النظام العربي السائد، بات منشغلاً أكثر عن القضية الفلسطينية، باستقرار أحواله، وبتداعيات الأوضاع المضطربة في العراق ولبنان واليمن، والانقسام في السودان، وبتصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة. القصد ممّا تقدم أنه آن الأوان لإدراك حقيقة مفادها بأن القضية الفلسطينية، على أهميتها، لم تعد بمكانة القضية المركزية للأمة العربية، ولا على المستوى الإقليمي، إذ باتت ثمة قضايا أخرى أكثر أهمية، وأشدّ اشتعالاً، وأكبر خطورة منها، كما بينّا. ومعنى ذلك أن على الفلسطينيين، وبالأخصّ قيادتهم، التصرّف على هذا الأساس، فهؤلاء بسبب خلافاتهم وانقساماتهم وسوء إدارتهم لأوضاعهم، أسهموا في إضعاف قضيتهم، وشوّشوا صدقية كفاحهم من اجلها. وثمة مفارقة تتجلّى بأن القيادات الفلسطينية (بكل تلاوينها)، والتي طالما استمرأت التلويح بأن عدم حل قضية فلسطين سيهدّد الأمن والاستقرار في المنطقة، باتت هي الأحرص على ضمان هذا الاستقرار، في الإقليم الذي أضحت تسيطر عليه، سواء في الضفة أو في غزة. ودليل ذلك أن هذه المناطق، في ظل سلطتي «فتح» و»حماس»، لم تعد تشهد أي شكل من أشكال المقاومة، ولو حتى على مستوى الأشكال الشعبية، التي كانت تشهدها الأراضي المحتلة قبل قدوم فصائل المقاومة (إثر اتفاق أوسلو). وهذا الواقع هو الذي جعل إسرائيل تعرّف السنوات القليلة الماضية باعتبارها من اهدأ السنوات في تاريخها، لدرجة أن الإسرائيليين باتوا لا يشعرون حتى بوجود الفلسطينيين، وهذا هو وضع «الاحتلال المريح» الذي اعترف به الرئيس الفلسطيني أبو مازن مؤخّراً! وما نستنتجه من ذلك أنه يجب الانتهاء من وهم مفاده أن الصراع مع إسرائيل هو الذي يحدّد جدول الأعمال في المنطقة، والانتباه إلى أن قضية فلسطين دخلت في مرحلة سبات، وتبعاً لذلك فإن المفاوضات فقدت قوة الضغط أو الدفع اللازمة لها، دولياً وإقليمياً وعربياً، ما يفسّر لامبالاة إسرائيل حتى إزاء مطلب وقف الاستيطان بشكل موقت. كما يستنتج من ذلك بأن على القيادة الفلسطينية الاشتغال على معادلات أخرى، غير معادلات التسوية المبنية على التوسّلات والمناشدات والاستجداءات. وبديهي إن هذه الاستنتاجات لا تعني التطلّب إلى درجة التحوّل نحو انتهاج الكفاح المسلح، أو نحو الدفع لانتفاضة ثالثة، ليس لأن هذا الأمر يدخل في خانة التعجيز أو المزايدة فقط، بل لأنه لا يمكن الانتقال من حالة إلى حالة مغايرة دفعة واحدة، ولأن القيادات الفلسطينية لم تشتغل من الأساس على الإعداد لخطة اليوم التالي، أو لخطة بديلة، أي أنها لم تأخذ في اعتبارها احتمال فشل المفاوضات، وتضعضع كيان السلطة. والأهم من ذلك، أن هذه القيادات لم تلتفت تماماً إلى التآكل الحاصل في الوضع الفلسطيني، حيث البنى السياسية في غاية الترهّل والتكلس، وباتت تفتقد لأهليتها النضالية، بعد أن استغرقت في علاقات السلطة وامتيازاتها، لا سيما في ظل وضع تأسس أصلاً على علاقات المحسوبية والفساد، وليس على قواعد مؤسسية وقانونية وديموقراطية ونضالية. الآن، ومع أن هذه القيادات تواجه حالاً من تدنّي الاهتمام الدولي والعربي بالقضية الفلسطينية، ووضعاً من الانقسام في كيانها (بين الضفة وغزة)، وبين «فتح» و»حماس»، فإن ما ينبغي أن تدركه هذه القيادات أيضاً، أنها تواجه، عدا عن كل ما تقدم، تحديات أكبر وأخطر. مثلاً، تواجه القيادات الفلسطينية اليوم، تحدي انفصام علاقتها باللاجئين الفلسطينيين في بلدان اللجوء، حيث ليس ثمة أية توسطات سياسية، بينها وبينهم، فمنظمة التحرير تكاد تكون في عالم النسيان، أما المنظمات الشعبية فانحصر تمثيلها، على الأغلب، بفلسطينيي الأراضي المحتلة. وعلى الصعيد السياسي ليس ثمة أي تمثّيل لقضية اللاجئين في المفاوضات الجارية، باستثناء بعض الكليشيهات الاستهلاكية المستخدمة لتبريد الخواطر، حيث التركيز فقط على إقامة دولة في الضفة والقطاع، ولأن المفاوضات، في ضوء المعطيات السائدة، بالكاد تنجب ذلك. ومعنى ذلك أن القطيعة الفلسطينية ليست بين الضفة وغزة فقط، وإنما هي بين الداخل والخارج أيضاً، كما ثمة نوع من قطيعة بين الطبقة السياسية المتسيّدة وبين الشعب، بخاصة الأجيال الجديدة من الشباب، التي باتت محبطة من السلطة، ومن طريقة عمل الفصائل، الأبوية والمزاجية والزبائنية، والتي تفتقد لأي حراك سياسي داخلي. هكذا، فإن الحركة الدبلوماسية التي تقوم بها السلطة على الصعيد الدولي، على أهميتها، لا تعوّض القصور الناشئ في علاقة السلطة والفصائل بشعبها. وجلب الاعتراف الدولي بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم في الضفة والقطاع المحتلين، لا يعوض عن بناء البيت الفلسطيني وانتهاج الوسائل التي تمكّن من هذا الحق. وكما لم يعد بمقدور القيادات الفلسطينية النوم على فرضية أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة العربية، فإنه لم يعد بمقدورها أيضاً النوم على فرضية أن منظمة التحرير، أو الفصائل، هي التي تمثل الشعب الفلسطيني، أو تعبر عنه. ومثلاً، من الذي يمثل الفلسطينيين؟ السلطة أم المنظمة؟ ثم أي سلطة؟ أهي سلطة «فتح» في الضفة أم سلطة «حماس» في غزة؟ وإذا كانت المنظمة فعلى أي أساس؟ ثم أين هي هذه المنظمة وكيف تعمل وما هي آليات اتخاذ القرار فيها؟ وكيف يجد الفلسطينيون، بمختلف أماكن تواجدهم، أنفسهم من خلالها؟ ثم على ماذا يجمع الفلسطينيون اليوم؟ وما هي حقاً ماهية المشروع الوطني الفلسطيني؟ أو ما الذي تبقى منه؟ وبعد كل ذلك، ألم يحن الوقت كي تخرج القيادات الفلسطينية من توهّماتها ومتاهاتها؟ * كاتب فلسطيني