فرحة الإنجاز التي لا تخبو    تعزيز التعاون الإعلامي بين كدانة وهيئة الصحفيين بمكة    البديوي: اعتماد المرحلة الأولى لنظام «النقطة الواحدة» بين دول الخليج    القبض على 3 إثيوبيين في الرياض لترويجهم (12) كجم "حشيش"    نائب وزير الصناعة يبحث تعزيز التكامل الصناعي الثنائي مع مصر    فيصل بن فرحان ووزير خارجية أميركا يستعرضان العلاقات وسبل تعزيزها    «تكافل الراجحي» تختتم مشاركتها في مؤتمر ومعرض التأمين العالمي InGate بالتأكيد على ريادتها في الابتكار التأميني والتحول الرقمي    وزير الثقافة ووزير التعليم يدشّنان أكاديمية آفاق للفنون والثقافة    سمو نائب أمير منطقة عسير يستقبل مدير عام الإدارة العامة للتدريب التقني والمهني بالمنطقة    متحدث الداخلية: المملكة وظفت تقنيات الذكاء الاصطناعي لخدمة ضيوف الرحمن    وكيل وزارة الحج يدشن مبادرة «تمكين العاملين في خدمة ضيوف الرحمن»    ديدييه ديشان يطالب لاعبي فرنسا بإنجاز المهمة والتأهل إلى مونديال 2026    أمير جازان يشهد انطلاق أعمال ورشة الخطة التنفيذية لمنظومة الصحة 2026    المدينة المنورة تحقق جائزة شنغهاي العالمية للتنمية    جلسة حوارية حول "الاتصال الثقافي بين السعودية والصين" في قسم الإعلام بجامعة الملك سعود    وزير الخارجية يصل إلى كندا للمشاركة في الاجتماع الوزاري لمجموعة ال7    جمعية ترابط وبناء تكرمان 17 مستفيد من رواد مبادرة "تاكسي أيتام السعودية"    جمعية "نماء" بجازان تطلق دورة "تصميم وفن احتراف الديكور الداخلي" ضمن "مشروع إنطلاقة نماء"    خادم الحرمين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء بجميع أنحاء المملكة يوم غدٍ الخميس    ريمار العقارية تعين الدكتور بسام بودي رئيسا تنفيذيا للشركة    مسؤول سعودي: نسعى لتكون السياحة ثاني أكبر قطاع اقتصادي لتعزيز التوظيف ووزبر السياحة اكد ذلك    وزير الصحة السعودي: الاستطاعة الصحية شرط الحصول على تأشيرة الحج    تحسين متوسط العمر في ضوء رؤية 2030    ارتفاع اسعار الذهب    تعليم المدينة يدعو للمشاركة في المسابقة المحلية على جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    إمارة منطقة مكة تشارك في مؤتمر ومعرض الحج والعمرة    وسط تعثر تنفيذ خطة ترمب.. تحذير أوروبي من تقسيم غزة    المنتخب الوطني يواصل تحضيراته لودية ساحل العاج    «أونروا»: هناك مدن دمرت بالكامل في غزة    نهى عابدين تشارك في فيلم «طه الغريب»    تعزيز حضور السينما السعودية في السوق الأمريكي    معاناة ابن بطوطة في كتابه    وسط تحركات دولية وإدانة مصرية.. هيئة محاميي دارفور: «الدعم السريع» يرتكب مذابح في الفاشر    «محمية الإمام» تطلق تجربة المنطاد    القيادة تعزي رئيسة سورينام في وفاة الرئيس الأسبق رونالد فينيتيان    أشاد بالتميز الصحي وأكد أن الإنسان محور التنمية.. مجلس الوزراء: الدولة تعتني بشؤون الحج والعمرة والزيارة    المفتي يحث المسلمين على أداء صلاة الاستسقاء غداً    نحو نظرية في التعليم    دراسة: فيروس شائع يحفز سرطان الجلد مباشرة    بدء التسجيل لجائزة سلامة المرضى    معايير تحديد سرقة رسومات الكاريكاتير    منطقة الحدود الشمالية الأقل في حالات النزيف والتمزق    أمير المدينة يتفقد محافظة المهد    أمير نجران يستعرض تقرير "التجارة"    الرئيس الأميركي يتعهد بمساندة سورية بعد لقائه الشرع    من أجل السلام    الأقل جاذبية يتمتعون بشهرة أعلى    "مدني الرياض" يكثّف "السلامة" في المباني العالية    «أحمر الشرقية».. برامج تأهيلية ودورات تخصصية    علاج جيني واحد يخفض الكوليسترول    أقراص تطيل العمر 150 عاما    أزمة قانونية تلاحق ChatGPT    حالة من الاستياء في سانتوس البرازيلي بسبب تصرفات نيمار    فهد المسعود ينضم إلى لجنة كرة القدم بنادي الاتفاق    أرقام الجولة الثامنة.. 20 هدف ونجومية سيلا سو ومشعل المطيري    الفتح يعود للتدريبات بعد الإجازة استعداداً لاستئناف دوري روشن    3 آلاف وظيفة يولدها القطاع الصحي الخاص بالأحساء    أمير تبوك يطّلع على التقرير السنوي لأعمال فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«المبحث اللاهوتي - السياسي» لسبينوزا: البحث عن العقل والإيمان معاً
نشر في الحياة يوم 19 - 01 - 2011

حتى أيامه الأخيرة ظل باروخ (مبارك) سبينوزا، الفيلسوف الهولندي من أصل برتغالي، يحتفظ بين أشيائه التي يحرص عليها، بثوب ممزق. وكان يحلو له أن يري زواره هذا الثوب في كل مرة كان الحديث فيها يدور حول الدين والفلسفة. والسبب، ان ذلك الثوب شهد عملياً محاولة اغتيال سبينوزا، طعناً بالخنجر على يد يهودي متعصّب، شاء أن ينفّذ على طريقته، حكم الحرمان الذي أصدره مجمع الحاخاميين في حق سبينوزا، الحكم الذي كان من أثره أن طرد سبينوزا من الجالية اليهودية واعتبر مارقاً كافراً، لا يؤمن بالتوراة والتلمود. في بعض الأحيان كان سبينوزا يعرض الثوب بفخر وتفكهة، لكنه في أحيان أخرى كان يعرضه ليبرر عدم رغبته في نشر كتبه، أو حتى إقدامه على نشر الكتاب الأهم بين كتبه وهو «المبحث اللاهوتي - السياسي» قائلاً لمحدثيه: إذا كانوا أخطأوني في المرة الأولى، فقد لا يخطئونني في المرة الثانية. والحال أن سبينوزا ظل حتى موته، وبعد موته، مكروهاً من أبناء جلدته منبوذاً من أوساطهم، لأنه تجرّأ وانتقد وحوّل انتقاداته الى كتب تعتبر اليوم من تراث الإنسانية وفكرها الحر.
عندما نشر سبينوزا كتابه الأشهر - الى جانب «كتاب علم الأخلاق» (الذي أعيدت ترجمته ونشره في العربية خلال الأسابيع الفائتة من قبل المنظمة العربية للترجمة) - ونعني به «المبحث اللاهوتي - السياسي» حرص على ان ينشره من دون اسم المؤلف ومن دون اسم الناشر، بل زوّر مكان الطبع. وكان ذلك في عام 1670، وللفيلسوف من العمر ثمانٍ وثلاثون سنةً. أي انه كتبه في مرحلة متقدمة من نضجه الفكري واللاهوتي والسياسي. وبعدما كان تحوّل من تلميذ لأفكار ديكارت الى ناقد لأفكار هذا الأخير، وبعدما كان خالط الأوساط البروتستانتية طويلاً، واطّلع على كتابات عدد من كبار مفكري اليهود وتأثر خصوصاً بالعربي اليهودي موسى بن ميمون، ورأى ان ثمة في كل ما قرأه ودرسه تناقضات لا يمكن العقل الحر الواعي ان يقف منها على حياد. غير أن ما لا بد من الإشارة إليه هنا هو أن الحرم والطرد كانا وقعا على سبينوزا قبل عقد ونصف العقد من إصداره «المبحث اللاهوتي - السياسي» وكتابته «كتاب علم الأخلاق»، وليس، إذاً، بسببهما مباشرة.
ينقسم كتاب «المبحث اللاهوتي - السياسي» الى ثلاثة أقسام رئيسة. أولها، ويحتوي على الفصول من الأول الى الثالث عشر، وفيه يعالج تفسير الكتابات اليهودية المقدسة. ويعتبر، بحسب دارسي حياة سبينوزا وأعماله «أول تاريخ نقدي للعهد القديم»، حيث إن الفيلسوف يتحدث هنا عن أنبياء إسرائيل وعن المعجزات. وهو إذ يعترف بقيمة هذه المعجزات ويفسر افتتان القدماء بها، يؤكد أنها الآن يمكن أن تفسر تفسيرات طبيعية من دون أن تنكر. وفي هذه الفصول أيضاً يحاول سبينوزا تفسير تاريخ العبريين، تفسيراً عقلانياً خالصاً. وإذ يأتي سبينوزا هنا الى «العهد الجديد» يبدي بعض التحفظ لكنه يقرّ له بقيمته الكامنة في كشفه للإنسان عن الكثير من الحقائق المهمة والبسيطة. وفي القسم الثاني (الفصلان الرابع عشر والخامس عشر) يتحدث سبينوزا عن الإيمان بصفته منبع الدين، ليقول إن الإيمان ليس المظاهر الاحتفالية الطقوسية الخارجية، بل هو «طاعة الله بروح صافية نقية مأخوذة بالعدل والإحسان». وفي هذا السياق بالذات تجد سبينوزا مفرقاً بين اللاهوت القائم على الوحي والفلسفة القائمة على العقل، مؤكداً ان الاثنين يسيران في خطين متوازيين، وليس من الضروري لهما ان يلتقيا. وهو في هذا، وبكل وضوح، يلتقي مع المدرسة الرشدية التي في أحد جوانبها كانت ترى الأمر نفسه، حتى وإن كان ابن رشد حاول التملص من نظرته الأساسية هذه في «فصل المقال» حيث ركز على الاتصال بين الخطين.
وفي القسم الثالث من «المبحث اللاهوتي - السياسي»، يتوقف سبينوزا عن الخوض في المسائل الدينية، لينتقل الى الخوض في السياسة في شكل مباشر. وهنا يبدو واضحاً ان هذا البعد الفكري هو ما كان يهم سبينوزا أكثر، حتى وإن كان المؤرخون والباحثون آثروا دائماً التركيز على القسمين الأولين من الكتاب. فبالنسبة الى هؤلاء كان سبينوزا في حياته وأفكاره في صراع دائم مع رجال الدين، ومن هنا يتوجب الاهتمام بموقفه من الدين. ومع هذا يتمتع القسم الثالث، شبه المسكوت عنه في «المبحث»، بأهمية فائقة، لأن سبينوزا خاض فيه مسألة كان سبقه وزامنه في الخوض فيها كبار مفكري تلك المرحلة في أوروبا: مرحلة بناء الأمم وبحث الفئات الاجتماعية الصاعدة، عن مسالك سياسية تحلّ محل الحكم المطلق والأرستقراطي والإقطاعي الذي كان مهيمناً حتى ذلك الحين، في حمى الكنيسة وتحت رعايتها. وهكذا، في الفصول الخمسة الأخيرة من الكتاب، نجد سبينوزا متحدثاً عن الدولة والحق الطبيعي والحق المدني كما عن السلطة والسيادة. ونراه هنا يتبنّى نظرية العقد الاجتماعي التي كان الإنكليزي هوبس صاغها (وسيطوّرها جان - جاك روسو لاحقاً في شكل خلاق). ولكن، لئن كان هوبس يستخدم النظرية، وفق ما يقول كاتبو سيرته وسيرة سبينوزا، لكي يبرر الحكم المطلق والفردي (كما نرى في «ليفياتان»)، فإن سبينوزا، ومن دون أن يبدي أدنى انتقاص إزاء السلطات المتشكلة، يبدي تفضيله قيامَ نظام ديموقراطي «شرط الا يفوت هذا النظام ان يجعل من مبدأ الحرية الدينية، واحداً من أسس تكوينه». وإذ يصل سبينوزا الى هذا الاستنتاج، يختتم كتابه عبر مرافعة حماسية يدافع فيها عن حرية التعبير.
بفضل هذا الكتاب اعتبر سبينوزا وفكره، ممهدين لقيام الفكر العقلاني، الألماني خصوصاً، في القرن الثامن عشر، وإن كان أصحاب هذا الفكر، حتى في معرض حديثهم عن الدين الذي لسبينوزا في رقابهم، حرصوا دائماً على أن يبدوا مآخذهم على هيمنة الحس الديني على تفكير سبينوزا. والحقيقة ان هذه المآخذ تدفع الى التساؤل عن السبب الذي جعل الجالية اليهودية في أمستردام تطرد سبينوزا إذا كان حسه الديني قوياً الى حد انه شكل مآخذ لاحقاً عليه. والجواب هو ان الدين الذي عبّر عنه سبينوزا لم يكن اليهودية المنغلقة، بل نوعاً من يهودية ليبرالية عقلانية منفتحة على العقلانية البروتستانتية التي كانت في مرحلة النمو والإبهار في ذلك الحين.
ولد سبينوزا في أمستردام في عام 1632 ابناً لأسرة كانت فرّت من بطش محاكم التفتيش في البرتغال قبل ذلك بعقود. وهو تلقّى في البداية دراسة لاهوتية يهودية خالصة، كما تعلم مهنة صقل العدسات (بعد ان عمل زمناً في تجارة التوابل). وحين شبّ عن الطوق، بدأ يخالط الأوساط المسيحية، لا سيما مفكراً يسوعياً، خلع ثوب الكهنوت، يدعى فان دن اندن. وكان معظم الذين يخالطهم سبينوزا من دعاة التفكير العقلاني الحر. وهكذا، حين انصرف لاحقاً الى التعمق في كتابات اليهود الماديين، كانت حواراته مع المسيحيين الليبراليين مهيمنة عليه. وهذا كله اعتبره مسؤولو اليهود في أمستردام هرطقة ورفقة سوء، فطردوا سبينوزا ونبذوه منذ عام 1656، ما دفع واحداً من متعصبيهم الى محاولة قتله. ومنذ ذلك الحين صار سبينوزا مضطراً الى تغيير مكان إقامته، متنقلاً بين لاهاي ورينسبورغ، في الوقت نفسه الذي انكب فيه على وضع أهم كتبه مثل كتابه عن مبادئ الفلسفة الديكارتية و «رسالة وجيزة في الله والإنسان وهنائه» و «الأخلاق» وغير ذلك.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.