ودّعت السعودية بألم بالغ تركي السديري، عميد الصحافة فيها، الذي وافاه الأجل بغتة فجر أول من أمس، عن 73 سنة، قضى جلها في دهاليز الصحافة وتدرج في جريدة الرياض، من مراسل إلى رئيس تحرير، وهو الأبرز في تاريخ البلاد، حتى لقّبه المغفور له الملك عبدالله بن عبدالعزيز ب «ملك الصحافة». ومع أن السديري ترك كرسي رئاسة التحرير وهيئة الصحافيين السعوديين قبل نحو عامين ل «يستريح» كما قال، إلا أنه ظل قريباً من هموم الصحافيين والصحافة في بلاده، وظل حتى أمس، على ترويسة صحيفته مشرفاً عاماً عليها، عرفاناً بأهمية دوره وحاجتها إلى لمساته، أياً كان حجمها. ويوثق الراحل نفسه أن بدايته الصحافية كانت في الرياض قبل 41 سنة، وبقي يتطور معها، مواكباً مراحل التنمية في المملكة التي قال إنها كانت الأقل حظاً في الرخاء يومها بين شقيقاتها الدول العربية، حتى غدت اليوم في مقدمها، مؤكداً أنه حاول أن يقود صحيفته لتكون مساهمة في ذلك النمو، مدافعة عن بعض مفاصله حينما يشتد السجال المعتاد بين الانفتاح والمحافظة. ولم ينسَ في آخر مقابلاته دور صلته الطويلة المدى بالملك سلمان بن عبدالعزيز، بوصفه صديقاً لأكثر من 30 سنة «نجد لديه حضور مفاهيم متطورة منذ وقت باكر، ما جعلنا ننظر إليه على أنه شخص نادر في معرفته ومفاهيمه». وبينما كان بعض شبان الصحافة يستعجلون في ما مضى تقاعد عميدهم السديري، يذكرهم الأخير بأنه بغض النظر عن سنّه، فإنه راهن دائماً على الوفاء للسياسات الحداثية في الإدارة والشكل والمضمون في صحيفته، أكثر من أية صحيفة في بلاده يقودها الشباب كما يؤكد، مذكراً بأنه تسلم الرياض وفيها 15 موظفاً وجعل يطورها حتى بلغوا 300، استطاع أن يشركهم في ملكية الصحيفة، التي كانت إلى عهد قريب قبل أزمة تراجع الإعلانات، تربح سنوياً أكثر من بعض البنوك في الخليج والمنطقة. ومثلما اشتهر أبو عبدالله (الاسم كان يحب أن ينادى به) بالحزم في الممارسة المهنية، فقد اشتهر كذلك بمواقفه مع كل من عملوا معه، ابتداءً من الدفاع عن مهنة الصحافة أمام وزراء الإعلام، ومحاولة رفع سقفها التعبيري، إلى مساندة الزملاء الذين يمرون بأزمات مهنية أو مادية، وخصوصاً داخل صحيفته، ويقول أحد منسوبيها: «لم يمر أحد من منسوبي الرياض بأي ظرف اجتماعي في الضراء أو السراء، إلا وكان السديري إلى جانبه، وخصوصاً في قضايا مثل الزواج والمرض والوفاة». وفي ظروف تنموية، ساد فيها إعطاء المواطنين الأولوية في الوظائف، كان تركي بين المبادرين إلى توظيف الشبان السعوديين متفرغين للمهنة، يتمتعون بكل المزايا الوظيفية بعكس وسائل إعلام عدة، إلا أنه في المواقف الإنسانية لم يكن يفرق بين سعودي أو غيره، ويقول أحدهم إنه كثيراً ما كانت تأتي الإدارة المالية في الجريدة أوامر من السديري بحسم الآلاف من راتبه لمصلحة أسرة ذلك الزميل المتوفى، أو علاج آخر مريض، حتى قال أحد المحاسبين: «نادر جداً أن يقبض أجره الشهري كاملاً». ومع أن السديري ينتمي إلى أسرة عريقة، إلا أنه نشأ يتيماً مع والدته، وكان عصامياً، ما لفت إليه الملك سلمان بن عبدالعزيز، يوم كان أميراً للرياض. غير أن تركي مع ذلك القرب ظل وفياً للمهنة، ولم يطمح لأن يصبح مسؤولاً حكومياً أو وزيراً أو سفيراً، وهكذا كانت الصحافة مثل الأوكسجين لأبي عبدالله، فلما شاء أن يقلل من تنفسه يسيراً، توقف قلبه عن الحياة، فرحل. بيد أنه ترك سجلاً حافلاً بالأمجاد، وذكراً حسناً في وطنه وبين جميع زملائه.