اقتبس عنوان هذا المقال من العنوان الفرعي لكتاب «الصينيون المعاصرون: التقدم نحو المستقبل انطلاقاً من الماضي» والذي ألفه وو بن وترجمه الدكتور عبدالعزيز حمدي ونشر في سلسلة «عالم المعرفة» وتبدو أهمية الدلالة في أن تقدم الصين الذي يشهده العالم حالياً قد أسس بصورة عبقرية على تراث الماضي الصيني العريق. وهذا الكتاب الذي نشر في جزأين يتضمن عرضاً تاريخياً متكاملةً لنشأة الصين وتحولاتها عبر الزمن إضافة إلى تحليل ثقافي نادر يبرز السمات الأساسية للشخصية الصينية في تفاعلها مع التطورات التي لحقت بالمجتمع الصيني، ويلقي الضوء على جذور وتطور مشروع التحديث الصيني. وليس هناك شك في أن صعود الصين ببطء وثبات إلى ذروة القمة العالمية كان محلاً لكثير من الأبحاث والكتب التي ألفت بلغات مختلفة، في محاولة لسبر أغوار التجربة الصينية، والبحث عن سر إعجازها في انطلاقتها التنموية الكبرى. غير أن أهم من ذلك كله هو الاهتمامات المركزة للدول الكبرى وعلى رأسها بطبيعة الحال الولاياتالمتحدة الأميركية والتي أصابها القلق الشديد من صعود الصين. ويرد هذا القلق إلى أن نموذج القوة العالمية التي حددت ملامحه الولاياتالمتحدة يتركز في أن تنفرد بحكم العالم ليس في المستقبل المنظور فقط ولكن إلى أبد الآبدين! وقد نشرت مؤسسة «راند» التي تعتبر العقل الاستراتيجي الأميركي بحثاً بالغ الأهمية حرره خمسة باحثين استراتيجيين ورفعوا توصياتهم إلى البنتاغون، وأهمها جميعاً أن على الولاياتالمتحدة أن تحافظ على مكانتها باعتبارها القطب الأعظم المهيمن على السياسة العالمية، وأن من حقها أن تجهض أي محاولة لأي دولة لإزاحتها عن هذه المكانة، حتى لو أدى ذلك إلى شن الحرب عليها! قد يبدو للبعض أن هذا سيناريو «جنوني» لأن محاولة الولاياتالمتحدة الأميركية الانفراد المطلق بحكم العالم لا سابقة لها حتى في أعتى العهود الإمبراطورية! غير أن الصين باعتبارها قوة عالمية صاعدة صاغت نموذجاً عالمياً للقوة يختلف أساساً عن النموذج الأميركي. ويمكن القول في عبارة موجزة بأن هذا النموذج يسعى إلى تحويل النظام الدولي الراهن الأحادي القطبية إلى نظام متعدد القطبية لا تنفرد فيه دولة واحدة بحكم العالم وإنما تشترك به على الأقل مع سبع دول كبرى في إدارة الشؤون الدولية وبالاستعانة بعدد من الدول المتوسطة القوة والموجودة في مختلف قارات العالم. وقد أتيح لي أن أطلع على بحث مؤسسة «راند»، وعلى بحث آخر حرره الأستاذ الأميركي كامبل والذي عرض خلاصة أبحاث نحو ثلاثين مركزاً استراتيجياً صينياً. وأياً كان الأمر، فإن صعود الصين أثار – كما يقرر سين لين جونز الباحث الأميركي وأحد محرري الكتاب المهم «صعود الصين» الصادر عام 2010 في ترجمته العربية التي قام بها الدكتور مصطفى قاسم وقمت بمراجعة الترجمة والتقديم له – جدلاً كبيراً بين الدارسين وصناع القرار. وقد دار هذا الجدل حول مضامين ونتائج صعود الصين، وتركز حول أربعة موضوعات: الموضوع الأول صيغ في صورة سؤال: كم تبلغ قرارات الصين الاقتصادية والعسكرية؟ وهذا السؤال من السهل في الواقع الإجابة عليه، لأن هناك مؤشرات اقتصادية يمكن الاعتماد عليها، إضافة إلى المعدلات والمقاييس العسكرية. ويبدو أن هناك خلافات في الرأي حول قوة الصين الاقتصادية. فهناك – على سبيل المثال – تصريح أصدره لي كوان يو رئيس وزراء سنغافورة السابق قاله فيه «من غير الممكن أن ندعي أن الصين مجرد لاعب كبير آخر فحسب، إنها اللاعب الأكبر في تاريخ الإنسان». وعلى عكس هذا التصريح الذي يتسم بالمبالغة الظاهرة يشكك بعض المحللين في حجم الزيادة في قوة الصين على أساس أنه قد بولغ في تقدير نمو الصين نتيجة الاعتماد على إحصاءات مضللة، وأن الصين في الحقيقة قوة متوسطة من الصف الثاني، ولا ينبغي النظر إليها كقوة عظمى ممكنة. والموضوع الثاني الذي يدور حوله الجدل في ما يتعلق بصعود الصين هو: ما تأثير هذا الصعود على استقرار السلام الدولي؟ يرى بعض منظري العلاقات الدولية أن صعود قوة عظمى جديدة يؤدي في الغالب إلى نشوء حرب سواء لأن القوة الصاعدة ستستخدم القوة لتغيير النظام الدولي بما يحقق مصالحها، أو لأن القوة العظمى القائمة قد تشن حرباً وقائية للحفاظ على مكانتها. وهذا الرأي يتفق مع ما ذكرناه عن نموذج القوة العالمية الذي وضعته الولاياتالمتحدة لنفسها والذي يصل إلى حدود شن حرب ضد أي دولة تحاول إزالتها من الصدارة. والموضوع الثالث في الجدل الدائر حول صعود الصين هو التساؤل عن النيات الصينية، وهل ستسعى بقوة لكي تغير النظام الدولي؟ هناك خلافات بين المحللين في الرد على هذا السؤال. فريق منهم يرى أن الصين ستسعى على الأغلب لأن تكون لها اليد العليا في شرق آسيا، على أساس أنها لن تسعى لكي تدخل في منافسة إيديولوجية عالمية مع الولاياتالمتحدة الأميركية. وعلى العكس من ذلك يرى فريق آخر أن الصين ستميل إلى استخدام القوة لتحقيق مصالحها القومية كما يدركها قادتها، والدليل على ذلك سعيها الحثيث لضم تايوان إليها، ما يؤكد أنها في لحظة ما ستدخل في صراع مع الولاياتالمتحدة لأن واشنطن ستحاول حماية تايوان من التهديدات الصينية. والموضوع الرابع والأخير في الجدل حول صعود الصين ولعله أهم الموضوعات الخلافية هو السؤال: كيف تتعامل الولاياتالمتحدة والدول الغربية الأخرى مع تنامي قوة الصين؟ هناك بديلان مقترحان هما إما الاحتواء Containment أو الاشتراك engagement الاحتواء ينطوي عادة على التعامل مع الصين باعتبارها خصماً عسكرياً ممكناً، ولذلك ينبغي العمل على الحد من نموها الاقتصادي وتقييد سعيها للحصول على التكنولوجيا العسكرية، وتقوية التحالفات ضدها. أما سياسة «الاشتراك» فهي تعني التفاعل الاقتصادي المتواصل مع الصين وإشراكها في اتخاذ القرارات الدولية المهمة من خلال مساعدتها لكي تحصل على مقاعد في المؤسسات الدولية المهمة. ومن الواضح أن سيناريو «إشراك» الصين يهدف أساساً إلى تشجيعها على أن تتبنى اتجاهاً تعاونياً على المستوى الدولي حتى لا تنزع إلى تطبيق سياسة عدوانية قد تؤثر على الاستقرار الدولي. وإذا كانت هذه هي الموضوعات الكبرى التي دار حولها الجدل بصدد صعود الصين فإن المشكلة في تقديرنا لا تكمن في صعود الصين ولكن في هيمنة الولاياتالمتحدة الأميركية! وليس لدينا شك في أنه ليس في مصلحة الصين أن تدخل في صراع عسكري أو اقتصادي مع الولاياتالمتحدة لأن الحفاظ على تصاعد النمو الصيني إلى آفاق أوسع هو الهدف الاستراتيجي للنخبة الصينية السياسية الحاكمة، ولذلك ستسعى إلى إيجاد سبل للتعاون مع الولاياتالمتحدة الأميركية. وعلى عكس ذلك تماماً لم تستطع السياسة الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة وهيمنة القطب الأعظم والأوحد أن تتخلى عن سياساتها العدوانية وإصرارها على الانفراد باتخاذ القرار حتى لو كان ذلك ضد إرادة حلفائها من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن كما حدث في واقعة غزوها العسكري غير المشروع للعراق. وسيبقى الأمل قائماً في أن يتحول السيناريو الصيني لمستقبل النظام الدولي إلى حقيقة، ونعني تحول النظام من أحادية القطب إلى تعددية الأقطاب. * كاتب مصري