لم تنجُ الدورة الثامنة عشرة من مهرجان دمشق السينمائي التي انتهت قبل أيام، من اللغط الذي تركز، هذه المرة، حول لجنة تحكيم الأفلام الروائية الطويلة التي ترأسها المخرج الروسي فلاديمير مينشوف، ومنحت جائزتها الذهبية للفيلم الجزائري «الخارجون عن القانون» لرشيد بوشارب. وبمعزل عما إذا كانت هذه الجائزة جاءت، كما قيل، بمثابة رد على ما تعرض له الفيلم لدى عرضه في مهرجان كان السينمائي الأخير من رفض، واحتجاج اليمين الفرنسي المتطرف ضده باعتباره «يشوه حقائق التاريخ»، أو بوصفه «تحية لثورة الجزائر»، فإن ما لا يمكن التغاضي عنه هو أن اثنين من أعضاء لجنة التحكيم وهما المخرج السوري نجدة أنزور والمصرية ساندرا نشأت قد انسحبا من اللجنة قبل اختتام المهرجان وتوزيع الجوائز. ولم يكتف أنزور بالانسحاب، بل عقد مؤتمراً صحافياً بعد انتهاء المهرجان، شكك فيه ب «مصداقية ونزاهة رئيس اللجنة» معترضاً على طريقة تعامله مع أعضائها، وعلى النتائج. واللافت أن رئيس المهرجان محمد الأحمد الذي عقد، بدوره، مؤتمراً صحافياً أعلن خلاله عن ملامح الدورة المقبلة للمهرجان، رأى أن أنزور «كان على حق» حين انسحب من اللجنة، مستدركاً أن لجان تحكيم المسابقة الرسمية للمهرجان «كانت مع هذا أقوى لجنة في تاريخ مهرجان دمشق السينمائي نظراً للسمعة الطيبة والخبرة السينمائية لأعضائها». دراما بوليسية الفيلم الجزائري الفائز يتناول محطات دراماتيكية في تاريخ الجزائر عندما كانت مستعمرة فرنسية، ويسرد بوشارب ضمن قالب بوليسي، مليء بالعنف، كيفية نشوء جبهة التحرير الوطني الجزائري في فرنسا ونزعتها الراديكالية في القضاء على مناهضيها، وظهور حركة فرنسية موازية سميت ب «اليد الحمراء» بغرض تصفية الجبهة الوليدة. وإذا استثنيا هذا الفيلم، الذي نال «جائزة أفضل فيلم عربي» كذلك، باعتباره مشغول بجهد واضح ووفق سيناريو معقد، فإن المؤكد أن الفيلم الإيراني «آسف على الإزعاج» لمحسن عبد الوهاب، الذي حاز فضية المهرجان، لم يكن يستحق هذا اللقب، فهو بعيد عن تلك الأجواء السينمائية المرهفة التي منحت السينما الإيرانية مجدها، وشهرتها العالمية الواسعة. إنه أقرب إلى حلقة تلفزيونية تسرد ثلاث حكايات عادية من طهران، وباستثناء تلك الومضات الذكية في الحوار الذي كان يدور بين شخصياته القليلة، فانه لا ميزة أخرى للفيلم الذي لا يحيلنا مطلقاً إلى تحف مجيد مجيدي وكياروستامي ومخملباف وغيرهم. أما الفيلم السوري «مطر أيلول» لعبد اللطيف عبد الحميد، الذي قطف برونزية المهرجان، فجاء أشبه بمرثية سينمائية حزينة لحكايات حب في منتهى الشفافية تنمو بين الجوارح، بينما تترصدها الأقدار الأليمة التي تغلق باب الأمل أمام أية نهاية سعيدة. فيلم قائم على المفارقات المحببة، واللوحات الكوميدية الطريفة التي باتت ملمحاً رئيساًَ لسينما عبد الحميد الذي يوظف، هنا، وعلى نحو موفق؛ مؤثر تلك الأغاني التي استقرت في ثنايا الوجدان وصاغت ذاكرة جيل ينتمي إليه المخرج الذي بدا غير راض عن البرونزية، إذ كان يتطلع إلى أكثر من ذلك، غير أن أنزور استكثر حتى هذه الجائزة عليه، فقد رأى بان هذا الفيلم لم يكن يستحق جائزة إزاء وجود أفلام أفضل، برأيه، مثل الاسباني «الزنزانة 211»، والفرنسي «أميرة مونتبنسييه»، والألماني «مصففة الشعر» الذي استحق جائزة أفضل ممثلة لجابرييلا ماريا شميد عن دورها في الفيلم، أما جائزة أفضل ممثل فذهبت إلى جورج بيستيرينو عن دوره في الفيلم الروماني «إذا أردت أن أصفّر، فسأفعل». ولم تخرج تركيا (ضيف الشرف) من المهرجان من دون جائزة، إذ ذهبت جائزة مصطفى العقاد للإخراج إلى الفيلم التركي «كوزموس» للمخرج ريها ايردم، بينما ذهبت جائزة لجنة التحكيم الخاصة إلى الفيلم الإيطالي «حياتنا» للمخرج دانييل لوشيتي، في حين حظي فيلم «حراس الصمت» لسمير ذكرى بتنويه خاص من لجنة الفيلم العربي التي أشادت بمسألة الاقتباس السينمائي من الرواية الجادة. ومن بين نحو 90 فيلماً مشاركاً في مسابقة الأفلام القصيرة، فاز الفيلم البلجيكي «الأرجوحة» لكريستوف هيرمانز بالذهبية، ونال السلوفاكي «حجارة» لكاترينا كيريكيسوفا بالجائزة الفضية، أما الفيلم التونسي «موجة» لمحمد عطية فقد فاز ببرونزية الفيلم القصير. «مولد مصر بلا حمّص» الملاحظ أن مصر التي شاركت بفيلم روائي طويل هو «الوتر» لمجدي الهواري، ونحو عشرة أفلام قصيرة خرجت خالية الوفاض، فضلاً عن أن تظاهرة «بانوراما السينما المصرية» التي دأب المهرجان على تنظيمها خلال الدورات السابقة غابت في هذه الدورة، وتقلص عدد الضيوف المصريين من نحو 80 نجماً إلى ما يقرب من عشرين نجماً فقط، الأمر الذي أثار تساؤلات عبر عنها الأحمد عندما لمح إلى أن الحضور المصري الكبير، في دورات سابقة، أثار انتقادات مثلما أن الحضور القليل، كما في هذه الدورة، فعل الأمر ذاته. في غضون ذلك، وكما جرت العادة، فان آراء النقاد تراوحت بين السخط والرضا، فقد سمعت أحدهم يقول: «لو لم يعرض المهرجان سوى فيلم «جميل» لأليخاندرو ايناريتو لكفاه ذلك تميزاً». هذه المبالغة يمكن دعمها بحقيقة تقول إن تظاهرة البرنامج الرسمي عرضت أفضل الإنتاجات السينمائية العالمية التي نالت جوائز في كان وبرلين وأوسكار أفضل فيلم أجنبي، إلى جانب تظاهرات لمخرجين كبار شكلوا علامات مضيئة في تاريخ الفن السابع. لكن في المقابل ستسمع انتقادات تتمحور حول مقاطعة بعض السينمائيين السوريين للمهرجان، وستسمع كذلك أن المهرجان راح يفقد هويته التي تمثلت في شعار دورات سابقة «من أجل سينما متقدمة متحررة»، إذ كان الاهتمام ينصب، آنذاك، على سينما آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية فحسب، فضلاً عن تفاصيل صغيرة تتعلق بانسحاب هذا الفنان أو ذاك من حفل الافتتاح أو الختام لعدم عثوره على كرسي في الصفوف الأمامية، وكذلك عن مشادة كلامية جرت بين ذكرى وبعض الصحافيين إثر عرض فيلمه «حراس الصمت»، وغير ذلك من الهنات التي تصاحب أي مهرجان. مع ذلك يظل «دمشق السينمائي» نافذة واسعة الطيف يطل من خلالها محبو الفن السابع على أفلام تتعذر مشاهدتها من دون هذه المناسبة. أكثر من ذلك، فإن الطقس السينمائي الحار، والديناميكي، الذي يخلقه مهرجان دمشق، غريب ومثير للتساؤل، فلو عرض أي فيلم من أفلام التظاهرات في صالات دمشق في أي وقت آخر لما وجدت ربع العدد الذي يتهافت على صالات السينما أثناء المهرجان، وهو ما دفع السيناريست خالد خليفة إلى القول: «لو كان الأمر بيدي لأطلت فترة المهرجان إلى أربعة أسابيع بدلاً من أسبوع واحد»!!