ثمة سؤال يمكن أن يصل إلى السيد الأخضر الإبراهيمي حيث هو الآن في استراحته من عناء متابعة أهوال الحرب في سورية: - هل تتمنى أن تعود قريباً إلى استئناف جهودك للوصول إلى تسوية سياسية تضع حداً لتدمير سورية، بشراً وحجراً؟ أم تفضل أن تُعفى من هذه المهمة الصعبة لتصدر بياناً يسجله لك التاريخ؟ ليس من طبع الأخضر الإبراهيمي أن ييأس. بل إنه لا يسمح لليأس بأن يمر في فكره، ولو افتراضاً. ولولا هذا العناد، والقدرة على الصبر، والمثابرة، مع الإصرار على الأمل بالنجاح، لما كان ليغادر فسحة هناء تقاعده كلما دُعي لتولي مهمة توفيقية، عربية، أو دولية. ولربما جاء جوابه: - «أحاول... فإن أصبت نجاحاً فخيراً، وإلا فعذراً...». هذا هو مبدأ الإبراهيمي في كل مهماته التي تنتهي دائماً إلى نتائج لا يسمح لنفسه بتقويمها، إنما يترك الأمر للعارفين من معاونين وكاتمي أسرار، وهؤلاء لا يتكلمون. وهكذا تتراكم التفاصيل وتُطمس الحقائق، ويُجهّل الظالم والمظلوم، ويتماهى القاتل مع القتيل. ولأنه جزائري الأصل والمنشأ والطبع، فإنه في ما يخص شؤون بلاده، لا يلجأ إلى سبك الكلام الذي فيه من الأدب الديبلوماسي ما لا يفيد الصحافي المحاور. في مطلع العام 1992 ذهبت إلى الجزائر لإجراء مقابلة مع الرئيس محمد بو ضياف، المُعيّن خلفاً للرئيس المعزول الشاذلي بن جديد. كان الأخضر الإبراهيمي وزيراً للخارجية، وبفضله تم تحديد موعد لمقابلة الرئيس الذي انتهى شهيداً. كان لا بد من مقابلة أولى مع الوزير الإبراهيمي تمهيداً لمقابلة الرئيس بو ضياف. وكانت الجزائر خارجة من انتخابات عامة فازت فيها «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ب 188 مقعداً من أصل 231. تلك النتيجة أدت إلى إطاحة رئاسة الشاذلي بن جديد. قلت للوزير الإبراهيمي في ديوانه في مقر وزارة الخارجية القريب من قصر الرئاسة الرابض على أطراف ساحة «المرادية» في أعالي العاصمة: - «لديكم الآن 188 نائباً من «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» فازوا في الجولة الأولى من الانتخابات. وهذا يعني أنهم ضمنوا أصوات الغالبية في المجلس الجديد... فما هو...؟ ولم يدعني الوزير الإبراهيمي أكمل سؤالي. فقد قاطعني جازماً: - ليس عندنا نواب لجبهة الإنقاذ، ولا لغيرها... - ألا تسمّي هؤلاء الفائزين نواباً؟... - أبداً... ليسوا نواباً... - إذاً... ماذا تسمّيهم؟ - سمّهم «مواطنين جزائريين»... لا أكثر... ولا أقل... - لكنكم أجريتم انتخابات، فكيف ستتخلصون من نتائجها في جولة أولى؟ - ألغيناها... كما ألغينا موعد الجولة الثانية... انتهى الأمر... - هل هذا القرار يستند إلى دستور أو قانون؟ - نعم... إنه دستوري وقانوني. وقبل أن أطرح سؤالاً آخر قال لي الوزير الإبراهيمي: - إسمع يا أخي... إذا كنت تصر على الغوص في هذا الموضوع فيسعدني أن أستقبلك كضيف زائر، أما كصحافي، فلا مقابلة معي، ولا مقابلة مع الرئيس بو ضياف. ... وكان عليّ أن أحذف السؤال والجواب، وكأن الانتخابات التي أُجريت في الجزائر وأُلغيت نتائجها لم تكن، فأكملت المقابلة مع الإبراهيمي، ثم انتقلت إلى ديوان الرئيس بو ضياف. كان بو ضياف أحد الأبطال التاريخيين الخمسة الذين قادوا ثورة تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي الذي دام نحو مئة وعشرين سنة. وكان بو ضياف منفياً من الجزائر، كما كان رفيقه أحمد بن بلله (أول رئيس لجمهورية الجزائر بعد التحرير) سجيناً بقرار من العقيد هواري بو مدين الذي انقلب عليه وتولى الرئاسة. مع ذلك، كانت العداوة بين الرفيقين بو ضياف وبو مدين في أعلى ذروتها. لم يكن منفى بو ضياف بعيداً من الجزائر، فهو كان مستقراً في المغرب، هناك أقام مع أسرته في بلدة «القنيطرة» على مقربة من العاصمة «الرباط». وهناك تعلّم صناعة الفخّار، فأسس بعد سنوات في منفاه مصنع «آجور» لإعالة أسرته. وحين لبّى دعوة قيادة جبهة التحرير الجزائرية، وعاد إلى البلاد عام 1991 لتولي مقاليد رئاسة الجمهورية خلفاً للرئيس المعزول الشاذلي بن جديد، آثر أن يترك عائلته في المغرب، وقد ذهب إلى الجزائر وحيداً كأنه ذاهب في مهمة موقتة للقيام بوظيفة رئيس جمهورية. ربما كان لدى بو ضياف حدس سيئ في رحلة العودة إلى الجزائر. وقد صدق حدسه. إذ تم اغتياله بعد بضعة أسابيع من جلوسه على مقعد الرئاسة في قصر «المرادية». لقد اغتيل بأوامر مأموريه، وبرصاص حرّاسه. خلال تلك المقابلة معه سألته إذا كان قلقاً على مستقبل الجزائر فأجاب بأنه مطمئن إلى طبيعة الشعب الجزائري إذا ما توافرت لهذا الشعب حرية التعبير عن إرادته. وعما إذا كان متخوفاً على مصيره، قال إنه مؤمن، فإذا جاءه قدره في الجزائر كان ذلك نعمة ورحمة عليه، لأنه سيُدفن في تراب بلاده. أما إذا جاءه قدره خارج الجزائر فوصيته أن يُدفن في تراب بلاد إسلامية... وقد تحققت أمنيته... هذه الخلاصة الموسعة عن طبيعة الحكم والسلطة والشعب في الجزائر، منذ تحريرها بعد ثورة دامت أكثر من أربع سنوات، ودخلت التاريخ بدماء مليون شهيد، وبعذاب مئات الألوف من الجرحى والمعوقين والفقراء المجاهدين الذين ارتضوا مرارة العيش في العراء، والبطالة، مكتفين بنسيم الحرية، تختصر الزمن الذي جاء الأخضر الإبراهيمي منه، حاملاً شهادة تخوله القيام بمهمة الوسيط لحل النزاعات في العالم العربي والإسلامي. يكفي أنه من جيل الثورة الجزائرية وصديق قادتها... من أزمة لبنان في مرحلة اتفاق الطائف عام 1989، بعد حروب متقطعة استمرت 14 سنة، إلى جنوب أفريقيا، إلى اليمن، إلى أفغانستان، إلى العراق، إلى سورية أخيراً، أتقن الإبراهيمي مهمته، حتى أنها صارت في مرتبة مهنته، بل هوايته. ليس مَن هو أخبر من الأخضر الإبراهيمي بأزمات العالم العربي مع حكم العسكر باللباس المرقّط، أو باللباس المدني. ولعله فضّل الابتعاد من بلاده إلى حيث تتوافر له فرص القيام بمهمات إقليمية، أو دولية، غايتها إحلال السلام والأمان والوفاق بين الحكام والشعوب. ولذلك، فإن معظم مهماته صعبة وشاقة. وهو يقدم عليها بهمة الواثق من النجاح، مسلحاً بما يملك من الخبرة والاطلاع والقدرة على التواصل والحوار، وتفهّم الفرقاء، ثم اللغة، والأسلوب، وطاقة الصبر من دون كلل ولا ملل. لكنه في محنة سورية، تعب إلى درجة الاقتراب من طلب الاستعفاء، وهو، حتماً، آسف وحزين، لأنه حين غامر ووافق على أن يمسك ملف سورية قبل ثلاث سنوات، لم يكن يدرك خطورة كرة النار التي راحت تلتهب بين يديه. منذ ثلاث سنوات لم يهدأ الإبراهيمي على حلبة الصراع الداخلي والإقليمي والدولي في سورية. كان في البداية يعوّل على حق الشعب السوري في ثورته طلباً للحرية، والديموقراطية، والعيش بعدالة وكرامة، لكنه تأخر حتى اكتشف وتأكد من أن النظام السوري غير معني بمثل هذه الطروحات، بل إنه عدوها وملزم بقمعها مهما كان الثمن. وكان على الإبراهيمي الذي جاء إلى سورية ممثلاً الأمانة العامة للأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، أن يستعين بكل الدول المعنية بالمحنة السورية، وبالقدرة على المساعدة في حلّها، فنظم مؤتمر جنيف الأول، ثم جنيف الثاني، وبحضور الدول الخمس العظمى، لكن النتيجة كانت صفراً في حساب النجاح، أما في حساب دمار سورية وعدد شهدائها وضحاياها والهاربين من نار نظامها، فالنتيجة كانت ركاماً عالياً من الكوارث الإنسانية والوطنية. ثلاث سنوات ودول الغرب الديموقراطي، الأميركي والأوروبي، تعوّل على دور روسي للضغط على نظام دمشق كي يقترب من حل سياسي، لكن القيصر فلاديمير بوتين مضى في الاتجاه المعاكس لحق الشعب السوري بالحرية والديموقراطية؟ ولعله وجد فرصته المناسبة ليقتنص جزيرة القرم من جمهورية أوكرانيا انتقاماً لطردها رئيسها العميل لموسكو. ثلاث سنوات ودول الغرب الأوروبي والأميركي تبيع السوريين وسائر العرب تصريحات وبيانات تؤيد ثورة الشعب السوري ضد نظامه الديكتاتوري، ولا فائدة سوى الأمل بموقف يترجم معنى شرعة حقوق الإنسان وواجب الدول القادرة على التدخل بقرارات سياسية. هذا ما فعلته الولاياتالمتحدة الأميركية ودول أوروبا واليابان بقرارها تعليق عضوية روسيا في مجموعة الدول الثماني عقاباً لها على انتزاعها جزيرة القرم من الكيان الأوكراني. لكن جزيرة القرم عالم، وسورية ولبنانوالعراق ومصر وسائر دول المشرق والمغرب العربي عالم آخر. فعلى ماذا، وعلى من، يعوّل الأخضر الإبراهيمي في مهمته السورية؟ هو يحذر من خطر تفكك كيان سورية، وكيان لبنان؟ ألا يرى أن الوقت قد حان ليصدر بياناً يكشف فيه الحقائق كما عايشها في لبنان وفي سورية، ثم يختتم مهمته إذا شاء؟ * كاتب وصحافي لبناني