أمير تبوك: عهد الملك سلمان زاهر بالنهضة الشاملة    مبادرة 30x30 تجسد ريادة المملكة العالمية في تحقيق التنمية المستدامة    إنسانية دولة    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يبحثان التعاون والتطورات    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان هاتفيا العلاقات الاستراتيجية بين البلدين    حضور قوي للصناعات السعودية في الأسواق العالمية    السعودية تستضيف الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي    معرض برنامج آمن.. الوقاية من التصيُّد الإلكتروني    ممكنات الاستثمار السعودي السياحي تدعم المستثمرين السعوديين والأجانب    معادلة سعودية    رئيس الطيران المدني: إستراتيجيتنا تُركز على تمكين المنافسة والكفاءة    المملكة تجدد مطالباتها بوقف الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيّين في غزة    عدوان الاحتلال.. جرائم إبادة جماعية    المطبخ العالمي    القوات الجوية تشارك في "علَم الصحراء"    شاهد | أهداف مباراة أرسنال وتشيلسي (5-0)    «خيسوس» يحدد عودة ميتروفيتش في «الدوري أو الكأس»    في انطلاق بطولة المربع الذهبي لكرة السلة.. الأهلي والاتحاد يواجهان النصر والهلال    الهلال يستضيف الفيصلي .. والابتسام يواجه الأهلي .. في ممتاز الطائرة    يوفنتوس يبلغ نهائي كأس إيطاليا بتجاوزه لاتسيو    مجلس الوزراء: 200 ألف ريال لأهالي «طابة» المتضررة مزارعهم وبيوتهم التراثية    تفاهم لتعزيز التعاون العدلي بين السعودية وهونغ كونغ    مكافحة إدمان الطلاب للجوال بحصص إضافية    وزارة البيئة والمياه والزراعة وجولات غير مسبوقة    أضغاث أحلام    تأثير الحياة على الثقافة والأدب    جائزة غازي القصيبي (2-2)    إشادة عالمية بإدارة الحشود ( 1 2 )    المجمع الفقهي والقضايا المعاصرة    دورة حياة جديدة    طريقة عمل ديناميت شرمب    طريقة عمل كرات الترافل بنكهة الليمون    طريقة عمل مهلبية الكريمة بالمستكه وماء الورد    5 عوامل خطورة لمتلازمة القولون العصبي    تحذير من مرض قاتل تنقله الفئران !    سعود بن نايف يشدد على تعريف الأجيال بالمقومات التراثية للمملكة    محافظ الأحساء يكرم الفائزين بجوائز "قبس"    مركز التواصل الحكومي.. ضرورة تحققت    أتعبني فراقك يا محمد !    أمير الشرقية يرعى تخريج الدفعة 45 من طلبة جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل    أمانة المدينة تطرح فرصة استثمارية لإنشاء مدينة تشليح    العدالة الرقمية    مجلس الشيوخ الأمريكي يمرر حزمة مساعدات أوكرانيا    عبدالعزيز بن سعد يناقش مستقبل التنمية والتطوير بحائل    الشورى يدعو «منشآت» لدراسة تمكين موظفي الجهات الحكومية من ريادة الأعمال    الشرطة تقتل رجلاً مسلحاً في جامعة ألمانية    سورية.. الميدان الحقيقي للصراع الإيراني الإسرائيلي    متى تصبح «شنغن» إلكترونية !    أخضر تحت 23 يستعد لأوزباكستان ويستبعد مران    مهمة صعبة لليفربول في (ديربي ميرسيسايد)    أمير الرياض يستقبل عددًا من أصحاب السمو والفضيلة وأهالي المنطقة    العين الإماراتي إلى نهائي دوري أبطال آسيا والهلال يودّع المسابقة    «مكافحة المخدرات» تقبض على ثلاثة مروجين    معالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يلتقي منسوبي فرع الرئاسة العامة بمنطقة جازان    مطالب بتمكين موظفي الحكومة من مزاولة "الأعمال"    السديس يُثمِّن جهود القيادة الرشيدة لتعزيز رسالة الإسلام الوسطية وتكريس قيم التسامح    الإعلام والنمطية    دور السعودية في مساندة الدول العربية ونصرة الدين الإسلامي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محاضرة لمحمد عابد الجابري (2 من 2) ... القومية العربية تتميز عن مثيلاتها في العالم بمرجعيتها الدينية
نشر في الحياة يوم 23 - 05 - 2010

نشرت «الحياة» أمس حلقة أولى من محاضرة محمد عابد الجابري التي ألقاها في بغداد في حزيران (يونيو) 1990 ووزعت في كراس محدود الانتشار في حينه. هنا حلقة ثانية أخيرة.
واضح، ان فكراً يقدر الدين حقه، سواء على صعيد الحياة الروحية للأفراد ام على صعيد الحياة الاجتماعية، فكر يرى في الإسلام بعثاً عربياً ورسالة عربية الى العرب أنفسهم أولاً ثم الى العالم، لا يمكن ان تصور العروبة والقومية تصوراً يغيب فيه الإسلام. كلا، ان العروبة في نظر الأستاذ ميشال هي من دون الإسلام مفهوم سلبي ومن دونه تبقى القومية العربية قالباً أجوف فارغاً. انه لا يفهم العروبة ولا القومية على انهما مجرد قضيتين من قضايا الحاضر وحسب، بل ينظر إليهما في امتدادهما التاريخي: فالعروبة وعاء يملأه التراث القومي الذي يشكل فيه البعث المحمدي المرجعية والمنطلق. وهذا ما يميز القومية لدى العرب عن القومية لدى الأوروبيين، وهذا ما يجعل أوروبا تخاف من الإسلام، لأن الفهم الصحيح للإسلام، الفهم القومي له يجعله القوة المحركة للعرب من اجل التحرر والانعتاق. يقول فيلسوف البعث العربي: «ان أوروبا اليوم، كما كانت في الماضي، تخاف على نفسها من الإسلام، ولكنها تعلم الآن ان قوة الإسلام (التي كانت في الماضي معبرة عن قوة العرب) قد بعثت وظهرت بمظهر جديد هو القومية العربية».
وانطلاقاً من هذا الفهم الأصيل للقومية العربية بوصفها التعبير المعاصر عن ثورة الإسلام يميز الأستاذ ميشال بين الفكرة القومية في الغرب والفكرة القومية العربية فيرى ان القومية في الغرب عندما قررت الانفصال عن الدين كانت محقة ومنطقية لأن الدين «دخل على أوروبا من الخارج فهو أجنبي عن طبيعتها وتاريخها، وهو خلاصة العقيدة الأخروية والأخلاق، لم ينزل بلغاتهم القومية ولا افصح عن حاجات بيئتهم ولا امتزج بتاريخهم». اما بالنسبة للفكرة القومية العربية فالأمر يختلف: ذلك «ان الإسلام بالنسبة للعرب ليس عقيدة أخروية فحسب، ولا هو أخلاق مجردة، بل هو أجلى مفصح عن شعورهم الكوني ونظرتهم الى الحياة وأقوى تعبير عن وحدة شخصيتهم التي يندمج فيها اللفظ بالشعور والفكر، والتأمل بالعمل، والنفس بالقدر، وهو فوق ذلك كله أروع صورة للغتهم وآدابهم وأضخم قطعة من تاريخهم القومي، فلا نستطيع ان نتغنى ببطل من أبطالنا الخالدين بصفته عربياً ونهمله او ننفر منه بصفته مسلماً».
هذا التحديد الواضح والمتميز لعلاقة العروبة والإسلام، والذي يجعل الإسلام هو المضمون الحي للعروبة، يطرح مسألة العلاقة التي يمكن بل يجب ان تكون للمسيحيين العرب بالإسلام. وفيلسوف البعث العربي واضح في هذه النقطة كل الوضوح. يقول: «قوميتنا كائن حي متشابك الأعضاء، وكل تشريح لجسمها وفصل بين أعضائها يهددها بالقتل. فعلاقة الإسلام بالعروبة ليست اذاً كعلاقة أي دين بأية قومية. وسوف يعرف المسيحيون العرب، عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامة ويسترجعون طبعهم الأصيل، ان الإسلام هو لهم ثقافة قومية يجب ان يتشبعوا بها حتى يفهموها ويحبوها فيحرصون على الإسلام حرصهم على اثمن شيء في عروبتهم». ان عليهم ان يعرفوا هم وغيرهم من العرب المسلمين انه: «ما الإسلام الا وليد الآلام، آلام العروبة، وان هذه الآلام قد عادت الى ارض العرب بدرجة من القسوة والعمق لم يعرفها عرب الجاهلية، فما احراها بأن تبعث فينا اليوم ثورة مطهرة مقومة كالتي حمل الإسلام لواءها. وليس غير الجيل العربي الجديد يستطيع ان يضطلع بها ويقدر ضرورتها، لأن آلام الحاضر قد هيأته لحمل لواء هذه الثورة، وحبه لأرضه وتاريخه قد هداه لمعرفة روحها واتجاهها».
* * *
الإسلام هو المضمون الحي والثوري للقومية العربية، هو التراث القومي للعرب جميعاً، مسلمين وغير مسلمين، واذا كان الأمر كذلك فما القول في كون الإسلام دعوة الى الناس كافة، الى جميع الشعوب؟ ان هذا الفهم القومي العروبي للإسلام لا يتنافى، في فكر فيلسوف البعث، مع عالميته وإنسانيته، ذلك ان «كل امة عظيمة عميقة الاتصال بمعاني الكون الأزلية تنزع في اصل تكوينها الى القيم الخالدة الشاملة. والإسلام خير مفصح عن نزوع الأمة العربية الى الخلود والشمول، فهو اذاً في واقعه عربي وفي مراميه المثالية إنساني، فرسالة الإسلام انما هي خلق إنسانية عربية». وهذا الطابع الإنساني العالمي للإسلام، روح القومية العربية، هو ما يشكل خصوصية هذه القومية: «ان العرب ينفردون دون سائر الأمم بهذه الخاصة: ان يقظتهم القومية اقترنت برسالة دينية، او بالأحرى كانت هذه الرسالة مفصحة عن تلك اليقظة القومية، فلم يتوسعوا بغية التوسع ولا حكموا البلاد استناداً الى حاجة اقتصادية مجردة، او ذريعة عنصرية، او شهوة للسيطرة والاستعباد... بل ليؤدوا واجباً دينياً كله حق وهداية ورحمة وعدل وبذل». وهكذا ف «ما دام الارتباط وثيقاً بين العروبة والإسلام وما دمنا نرى في العروبة جسماً روحه الإسلام فلا مجال اذاً للخوف من ان يشتط العرب في قوميتهم، انها لن تبلغ عصبية البغي والاستعمار».
روح القومية
الإسلام روح القومية العربية، والإسلام دين عالمي وإنساني تؤمن به قوميات أخرى، فكيف يفهم فيلسوف البعث العربي العلاقة بين القومية العربية والشعوب الأخرى التي يجمعها معها الإسلام؟ يجيب الأستاذ عفلق بطرح المسألة داخل الإسلام لا خارجه. فالقومية العربية ليست معادية للقوميات الأخرى التي يجمعها الإسلام مع العرب، بل بالعكس ان قوة العرب قوة للمسلمين جميعاً، لا بل لا يمكن تصور إسلام قوي من دون عرب أقوياء، فالعرب هم الذين عليهم حمل أمانة الرسالة «وطبيعي ان العرب لا يستطيعون أداء هذا الواجب الا اذا كانوا امة قوية ناهضة، لأن الإسلام لا يمكن ان يتمثل إلا في الأمة العربية، وفي فضائلها وأخلاقها ومواهبها، فأول واجب تفرضه إنسانية الإسلام - أي عالميته - اذاً هو ان يكون العرب أقوياء سادة في بلادهم».
العلاقة بين العروبة والإسلام، بين القومية العربية والشعوب الإسلامية غير العربية علاقة تكامل وليست علاقة تصادم. وكيف يمكن ان يكون ثمة تصادم او تنافر والحال ان حب العروبة يستوجب حب الإسلام، والارتباط العاطفي بالأمة العربية يستوجب ارتباطاً مماثلاً بأمة الإسلام. ويعبر الأستاذ ميشال عن هذه القناعات بأسلوبه القوي الواضح الصريح فيقول: «بدافع الحب للأمة العربية أحببنا الإسلام منذ السن اليافعة، وبعد ان اقتربنا اكثر من فهم الإسلام أضحى حبنا لأمتنا يتلخص في حبنا للإسلام، وفي كون الأمة العربية هي امة الإسلام». ثم يضيف قائلاً: «وكان شيئاً طبيعياً ان يأخذ هذا الوعي، وهذه العاطفة كل أبعادهما فندرك ما تمثله الشعوب الإسلامية من عمق وسند للأمة العربية ونشعر نحوها بعاطفة القربى» ثم يؤكد ذلك قائلاً «ان ثمة حقيقة كبرى لا يتجاهلها إلا المكابرون وذوو الأغراض وهي ان علاقة الأمة العربية بالإسلام علاقة خاصة حيوية ومصيرية لها وللإسلام، فلا يمكن ان يفهم الإسلام شعب مثلما يفهمه الشعب العربي، ولا يمكن ان يشعر احد نحو الإسلام بمثل الرابطة والمسؤولية اللتين يشعر بهما العرب نحوه». ويوضح الأستاذ ميشال مضمون هذه الرابطة بالقول ان علاقة غير العرب بالإسلام هي كعلاقة العرب بالقضية الفلسطينية، اما علاقة العرب بالإسلام فهي كعلاقة الفلسطينيين بوطنهم فلسطين. يقول: «ان فلسطين قضية العرب جميعاً، ولكنها بالنسبة الى الفلسطينيين اكثر من ذلك: انها وطن. والإسلام بهذا المعنى هو وطن الأمة العربية الروحي والمادي بكل ما تحمله كلمة وطن من معاني حب الأرض والأهل وحب اللغة والتاريخ». ويلخص فيلسوف البعث العربي رأيه في الموضوع قائلاً «ولئن كان عجبي شديداً للمسلم الذي لا يحب العرب فعجبي اشد للعربي الذي لا يحب الإسلام».
ومع ذلك فإن هناك حقيقة لا يمكن إنكارها وهي ان «العصر عصر القوميات والدول القومية» وبالتالي ف «لئن كان مفهومنا – يقول الأستاذ - للقومية ينكر التعصب العنصري ويلح على الجانب الإنساني الذي اكسبه الإسلام للعروبة ويحرص على خصوصية العلاقة بين العرب والشعوب الإسلامية الأخرى، فإن هذا المفهوم يحول دون ذوبان الأمة العربية في شخصية غيرها وتنازلها عن سيادتها واستقلالها لأحد تحت اية ذريعة كانت وباسم أي شعار او مبدأ». وفي هذا الإطار يؤكد فيلسوف البعث العربي انه في الوقت الذي يقدر فيه كامل التقدير «ما تمثله الشعوب الإسلامية من عمق وسند للأمة العربية» وما يربطها معها من عواطف القربى فإنه لا بد من الحرص في الوقت نفسه على «الاحتفاظ بالوضوح التام في الفكر وببعض الحقائق الأساسية وهي ان للأمة العربية شخصيتها القومية الحضارية المتميزة وحدود أرضها الواضحة وان اشتراكها في العقيدة الدينية مع غيرها من الشعوب لا يجوز ان يجر الى طمس هذه الشخصية والعدوان على هذه الأرض». ان في ذلك ضرراً، ليس للعرب وحسب، بل وللإسلام ايضاً، ف «تجارب التاريخ دلت على ان غياب معالم الشخصية العربية القومية وفقدان العرب لسيادتهم لم يكونا لصالح الأمة العربية ولا في صالح الإسلام».
نهوض الأمة
ليس هذا وحسب بل ان التاريخ يدلنا على انه لا يمكن ان ينوب احد عن العرب في حمل رسالة الإسلام، فالإسلام عربي والقرآن عربي، وبما ان القومية العربية روحها الإسلام فهي حاملة رسالة الإسلام الإنسانية الكونية وبالتالي فهي لا يمكن ان تكون قومية ضيقة معصبة، لا يمكن ان ترضخ لغيرها ولا ان تكون تابعة لهم. يقول الأستاذ ميشال: «ان الأمة التي ظهرت فيها رسالة بحجم رسالة الإسلام ترفض الخنوع وترفض التبعية الفكرية والحضارية. ان لها طريقها الخاص... الأمة التي حملت الى العالم رسالة الإسلام لا يمكن ان تكون قوميتها سلبية تعصبية عدوانية، فقوميتها هي في أساسها أخلاقية إنسانية تحمل مبادئ العدل والمساواة». ثم يضيف قائلاً: «مستوى الأمة العربية هو مستوى الأمم التي لها رسالات إنسانية، وانبعاث القومية العربية في هذا العصر يحمل معه بذور رسالة إنسانية الى العالم. ولقد حدد التراث لهذا الانبعاث مستواه منذ البداية، فهو على مستوى الدور الرسالي في عمقه وصدقه وشموله. وهذا المستوى يكون حافزاً وملهماً، كما يكون مراقباً صارماً. فالأمة العربية مطالبة بأن تنهض... التاريخ يدعوها، والعالم الحاضر يطالبها بأن تنهض لتؤدي دورها الأساسي الضروري: تصحيح سير البشرية وتقدمه».
* * *
تلك كانت نظرة الأستاذ ميشال الى موقع الإسلام داخل القومية العربية وموقع القومية العربية داخل الإسلام: الإسلام روح القومية العربية، والقومية العربية حاملة رسالته الثورية الإنسانية. ولكن العلاقة بين العروبة والإسلام لا تتحدد فقط بموقع كل منهما داخل الآخر او إزاءه، بل ان لها بعداً آخر ينتقل بهذه العلاقة الى مستوى آخر، مستوى الدولة القومية، حيث تتخذ تلك العلاقة بين الدين والدولة وتطرح بالتالي مسألة العلمانية. وفيما يلي وجهة نظر فيلسوف البعث في هذه المسألة.
يحدد الأستاذ ميشال هوية الدولة القومية العربية بالقول: «ان الدولة العربية التي يعمل لها البعث العربي هي التي تتيح لجميع المواطنين ان يعملوا متعاونين على تحقيق إمكانات الأمة العربية في مجال الروح والمادة، وذلك بتحقيق إمكانات كل فرد من أفرادها دونما عائق مصطنع. فالدولة اذاً تقوم على أساس اجتماعي هو القومية وأساس أخلاقي هو الحرية» فهي اذاً دولة عربية تضمن لجميع أفراد الأمة العربية حرية المعتقد، وهي ليست هدفاً في ذاتها، بل يجب ان «نرى فيها مجالاً لبعث الأمة وبعث قوى أفرادها وتصحيح القيم وإزالة الكذب والزيف والضغط من حياة المجتمع، ودفع هذا المجتمع في طريق إيجابية مبدعة لأداء رسالة الأمة الى الإنسانية»، وبالتالي فالدولة التي يعمل البعث لها هي «نقيض الإلحاد والفساد وكل ما هو سلبي وهدام» بما في ذلك شعار العلمانية» كما روِّج له في الغرب، وكما تروِّج له بعض الفئات العربية المستوردة له. وهكذا فإذا كان البعث ينادي بنوع من العلمانية فإن ذلك ليس ضداً على الدين ابداً. ان علمانية الدولة كما يفهمها فيلسوف البعث العربي «ليست إلا امعاناً في الحرص على اتجاهها الروحي والأخلاقي، لأنها ليست إلا إنقاذاً للروح من شوائب الضغط والقسر ووضع العراقيل المصطنعة امام يقظة الروح واستقلال الخلق وانطلاق النشاط في نفس كل عربي». ويضيف الأستاذ ميشال قائلاً: «وما دام الدين منبعاً فياضاً للروح فالعلمانية التي نطلبها للدولة هي التي بتحريرها الدين من الظروف السياسية وملابساتها، تسمح له بأن ينطلق في مجاله الحر في حياة الأفراد والمجتمع وبأن تبعث فيه روحه العميقة الأصيلة التي هي شرط من شروط بعث الأمة».
ويعود الأستاذ ميشال الى شرح موقف البعث العربي من العلمانية بتفصيل فيميز بين «اتجاهات قومية تقول بالعلمانية وتعتبر أن القومي العربي هو الذي يتجرد من معتقداته الدينية ويلتقي مع أخيه العربي على صعيد القومية العربية الحقوقية والرابطة الوطنية» وهو اتجاه يقول عنه فيلسوف البعث العربي انه من تأثير المستعمر الأجنبي ان لم يكن هو الدافع له: «ان المستعمر الأجنبي الغربي الذي كان يحتل اقطارنا لم يكن يخفي ارتياحه لهذه العلمانية، بل كان يشجعها لأن ذلك كان يؤدي الى إفقار قوميتها من دمها ومن نسغ الحياة فيها، من أصالتها، من روحها» ان العلمانية بهذا المعنى تعزل القومية العربية عن تاريخها وحاضرها ومستقبلها، وتفرقها من الإسلام الذي «هو تاريخنا وهو بطولاتنا وهو لغتنا وفلسفتنا ونظرتنا الى الكون والى اشياء كثيرة يصعب حصرها وتعدادها»، وبالتالي تضع القومية العربية في خصام مع هويتها، ومع حاضرنا و «واقعنا الحي» الذي هو «العلاقة العضوية بين العروبة والإسلام».
واذا كان الأمر كذلك فما هو مضمون العلمانية التي يقول بها «البعث»؟ يجيب الأستاذ ميشال قائلاً: «العلمانية بمعنى ان الدستور والقوانين لا تميز مذهباً عن آخر في القبول للوظائف او في كذا وكذا، هذه أمور بسيطة ونسلم بها، ونحن نمشي في هذا العصر ولا نجادل في ذلك، اذا كانت المسألة مسألة نصوص دستورية وقانونية. لكن البعث وضع الأمور في نصابها عندما وضع الإسلام كثورة أخلاقية وفكرية واجتماعية حاسمة في تاريخ البشر، وضعها في صلب القومية العربية». ثم يضيف: «بهذا المعنى لا يوجد عربي غير مسلم، هذا اذا كان العربي صادق العروبة وإذا كان متجرداً من الأهواء ومتجرداً من المصالح الذاتية». ويؤكد المعنى نفسه حينما يقول: «العروبة تعني الإسلام بهذا المعنى الرفيع الذي لا تعصب فيه ولا تمييز ولا أي شيء سلبي».
* * *
هذا الربط بين العلمانية والقومية من جهة وبين القومية والإسلام من جهة أخرى يسد الباب أمام التصور العلماني للوطنية وأمام اي تصور وطني ضيق للعلمانية التصور الذي يؤدي في كلتا الحالين الى «تشويه وخنق لانطلاقة الأمة على المستوى الحضاري والإنساني» من ناحيتين: فمن ناحية أولى: إن هذا التصور «بحجة التقاء جميع فئات وطوائف الشعب على صعيد الوطنية يطلب من الأكثرية الساحقة من الجماهير العربية - وهي مسلمة - ان تنسى او تغفل التراث القومي او على الأقل ان لا يكون لقاؤها به لقاء صريحاً مطلوباً وحاراً وانما لقاء له طابع الشيء الخاص، الفئوي، المتهم بالتعصب بدلاً من ان يكون الغذاء الروحي والفكري والنضالي للأمة كلها». ومن ناحية أخرى يؤدي هذا التصور العلماني للوطنية الى «حرمان الطوائف الأخرى من غير المسلمين من التراث العربي الذي هو تراثها بالتالي إبعادها عن تحقيق شخصيتها الكاملة وتركها فريسة للأيدي والتوجهات الأجنبية ولشتى التيارات التي تسلب جزءاً من شخصيتها وتترك الفجوة بينها وبين القسم الآخر والأكبر من بني قومها وشعبها لتتسع مع الزمن، لتصل أحياناً الى التناقض» وهذا المفهوم المشوه للعلمانية الذي يعزل الأمة من تراثها وتاريخها كان يروج له الاستعماريون وأدواتهم «ويريدون من ورائه ليس لقاء الجميع على صعيد الوطنية، كما كان الادعاء، بل نسيان الأمة لتراثها، يقابل هذا النسيان ترويج وتعميم للثقافة الغربية والحضارة الغربية، أي انه كان هناك عملية احتيال».
رفض التعصب والرجعية
هذا الفهم القومي للعلمانية والإسلامي للقومية ينجم عنه بطبيعة الحال رفض كل من التعصب الطائفي والرجعية الدينية. والأستاذ ميشال صريح في هذه المسألة صراحته في المسائل السابقة. انه يرفض موقف «العناصر المسيحية المتعصبة المستغلة للتفريق الطائفي – التي - تكافح الفكرة القومية بحجة ان العروبة معناها سيادة وسيطرة الإسلام كدين وتشريع وتقاليد وحضارة». هذه الحجة واهية كاذبة بل هي مغرضة، ويجب «اكتشاف بطلان ما يختبئ وراء مكافحة الفكرة العربية من مصالح خاصة من رجال الدين او زعماء بعض الاقليات العنصرية او من إقطاعيين والاستعمار وراء الجميع». والجواب الذي يقدمه فيلسوف البعث العربي لهذه المسألة، مسألة الاقليات، هو «ان البعث حركة قومية تتوجه الى العرب كافة على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، وتقدس حرية الاعتقاد وتنظر الى الأديان نظرة مساواة في التقديس والاحترام، ولكنها ترى الى جانب ذلك في الإسلام ناحية قومية لها مكانتها الخطيرة في تكوين التاريخ العربي والقومية العربية وتعتبر هذه الناحية وثيقة الصلة بتراث العرب الروحي وبمميزات عبقريتهم... فالإسلام من حيث هو دين صرف مساوٍ لغيره من الأديان في الدولة العربية التي تساوي بين جميع مواطنيها وتحترم حرية معتقدهم. والإسلام من حيث هو حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب واصطبغت بعبقريتهم وأتاحت ظهور نهضتهم الكبرى له مكانة خاصة في روح القومية العربية وثقافتها وحركة انبعاثها. إلا ان هذه المكانة لا تفرض فرضاً، بل تولد من الحرية وتستمد من قوة الروح ومن مدى اتصال العرب بروحهم وتجاوبهم الحر العميق معها وبهذا المعنى تستلهم حركة البعث العربي من الإسلام تجدده وثورته على القيم الاصطلاحية، تستقي من نبعه فضائل الإيمان والمثالية والتجرد من المنافع الشخصية والمغريات الدنيوية في سبيل نشر المبادئ التي تنقذ العرب في هذا العصر من ضعفهم وتفككهم وانخفاض مستواهم الروحي والاجتماعي».
وكما يرفض فيلسوف البعث العربي النزعة الطائفية ويرى في الإسلام حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب... يرفض بالمقابل الرجعية الدينية التي جعلت التدين يفقد «كل صلة بالروح والحوافز التي كانت مصدر الدين بالماضي والتي جعلت منه حركة إحياء وتجديد وبناء فآل الى حالة من الجمود والمحافظة والجهل». كما يرفض وللسبب نفسه «الدولة الدينية»: «فالدولة الدينية كانت تجربة في القرون الوسطى وتجربة انتهت بالفشل وكلفت البشرية كثيراً من الجهد ومن الدماء ومن المشاكل، وحدثت تقريباً في أوقات متقاربة في البلاد الإسلامية وفي أوروبا المسيحية». غير أن الدولة التي يسعى البعث لإقامتها لا تعادي الدين، بل بالعكس هي تعادي، الإلحاد، كما رأينا: «الإلحاد والفساد وكل ما هو سلبي هدام» كما ترى في الإسلام بالذات روح العروبة «العميقة الأصلية التي هي شرط من شروط بعث الأمة».
واذاً «فالبعث العربي الذي هو حركة روحية إيجابية لا يمكن ان تفترق عن الدين او تصطدم معه، ولكنه يفترق عن الجمود والنفعية والنفاق» انه يفهم علاقة الدين بالدولة على انها «علاقة الأمة بماضيها وموقفها من مستقبلها كما انها تعني الأسس الروحية والحقوقية التي تقوم عليها القومية العربية في المستقبل».
وهكذا: «فالماضي الذي تحن إليه الأمة وتجد فيه ثورة لها وقوة هو الزمن الذي تحققت فيه روحها، والمستقبل الذي يناضل التقدميون في سبيل بلوغه ليس إلا ذلك المستقبل الذي تستطيع فيه الروح العربية ان تتحقق من جديد، ولكن بينما يحسب البعض ان هذا السير نحو تحقق الروح العربية يجب ان يكون رجوعاً وهبوطاً، اي إيغالاً في الجمود والشكليات، يرى التقدميون انه يجب ان يكون سيراً حراً صاعداً... فالروح لا ترجع ولا تهبط ولكننا نحن الذين نتقدم نحوها ونرتقي اليها لنلتقي بها».
* * *
تلك كانت جولة سريعة في فكر الأستاذ الراحل ميشال عفلق ركزنا فيها القول على مسألة العلاقة بين العروبة والإسلام وما يرتبط بها من قضايا. ومن هذا العرض يتبين بجلاء ان الأستاذ لم يكن ينظر الى القضية نظرة مجردة، بل لقد نظر إليها في علاقاتها المتعددة الأبعاد مع الواقع العربي الراهن بكل تعقيداته وتلويناته. لقد نظر اليها بفكره الشمولي الذي أبرزنا دعائمه وأبعاده عند مستهل هذا العرض والفكر الشمولي فكر جامع موحد، وقضية الأستاذ ميشال عفلق هي جمع شمل العرب وتوحيدهم، ولذلك نجده يتعامل مع العلاقة بين العروبة والإسلام، لا كمشكلة يجب ان يلتمس لها الحل، بل لقد رأى فيها بالعكس من ذلك علاقة إيجابية، جامعة موحدة: فالإسلام يجمع العرب مع ماضيهم ويعود بهم الى ما يشكل صميم هويتهم، وفي الوقت نفسه يجمعهم مع الشعوب الأخرى المسلمة، غير العربية، تماماً مثلما ان العروبة تجمع العرب، جميع العرب، مع ذاتهم وتعود بهم الى روح قوميتهم. ومن هنا يمكن القول ان القومية العربية، في فكر الأستاذ هي إطار مكاني سكاني ذو روح عالمية إنسانية هي روح الإسلام، إسلام البعث والثورة والتحرر والتحرير وليس إسلام الانغلاق والانحطاط والجمود. ومن هنا كانت وحدة العرب وقوتهم شرطاً اولياً لانبعاث الإسلام وقوته ولوحدة الشعوب المؤمنة به.
وبعد، فلقد كان رجال الإسلام يصنفون قديماً الى صنفين: اهل الشريعة وأصحاب الحقيقة. الصنف الأول هم الفقهاء اما الصنف الثاني فهم المتصوفة. واذا كان لا بد من وضع فيلسوف البعث العربي في مكان ما في هذا التصنيف فإنه يمكن القول من دون تردد انه يمثل نوعاً جديداً من «التصوف»: لقد احب الأستاذ الراحل العروبة واحب الإسلام، احبهما حب المتصوف، ولكن لا المتصوف من اجل خلاصه الشخصي، من اجل «نجاة» نفسه من آلام الدنيا ومعاناتها، بل المتصوف المتقمص لآلام أمته ومعاناتها، الداعي الى نهضتها وتقدمها. ولما كان الإسلام قد شكل عقد ميلاد هذه الأمة عند ظهوره وانطلاق بعثه، فإن استئناف نهضتها لن يكون، في نظر الأستاذ، إلا باستعادة تجربة الميلاد تلك، تجربة البعث المحمدي. ومن هنا كانت العلاقة بين العروبة والإسلام عنده من تلك العلاقات التي لا تقبل العزل ولا التحليل، انها من نوع علاقة الخبر بالمبتدأ، اللذين بدونهما معاً لن تتكون جملة مفيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.