كل شيء في ليلة «أوسكار» أول من أمس (الأحد) كان مختلفاً عن لياليها السابقة، من أسماء الفائزين، أو حتى المرشحين، إلى النص الكوميدي الذي تبناه مقدم الحفلة كريس روك، وصولاً إلى فشل أي فيلم في خطف البساط من الأفلام الأخرى، مشهد اعتدنا عليه سواء مع «تايتنك» أو «بريف هارت» أو «هارت لوكر» أو «العقل الجميل». بالأمس فاز فيلم «بقعة ضوء» بجائزة أفضل فيلم، لكنه لم يحقق أي جائزة غيرها، فاز «العائد» (ريفرنت) بأهم ثلاث جوائز أخرى بعد أن خسر جائزة أفضل فيلم، وخطف «مادماكس» ست جوائز أخر، لكن أياً منها لم يكن كبيراً، فلم يحقق لقب أفضل ممثل أو ممثلة في دور رئيس أو مساعد أو حتى مخرج، فيلم «غرفة» (رووم) منح بطلته بيري لارسون جائزة أفضل ممثلة فيما خطف الجاسوس مارك ريلنس جائزة أفضل ممثل مساعد عن «جسر الجواسيس». تباعد الجوائز وتقسيمها على أفلام مختلفة كان مشهداً لافتاً، بات من الصعب أن يحدد أحد أكبر الفائزين، من الممكن منح «ماد ماكس» ذلك اللقب لكنه في حقيقة الأمر توج بلقب أفضل «تصميم أزياء» و«مونتاج مرئي» «مونتاج صوتي» و«مكياج وتصفيف شعر» و«تصميم موقع تصوير»، وبعيداً من ذلك فإنه لم يتوج بأي لقب يثبت قيمة التمثيل أو الإخراج أو حتى الحبكة السينمائية، تلك في جلها ذهبت لفيلم «العائد» الذي خطف بطله لينردو ديكابريو لقب «أفضل ممثل في دور رئيس» ومخرجه اليخاندرو غونزالس لقب «أفضل مخرج» ومصوره إيمانويل لوبزكي لقب «أفضل مصور»، جوائز تقول في مجملها أن العمل حمل من القدرات السينمائية الكبيرة على صعيد التمثيل والإخراج والتصوير. فيلم «بقعة ضوء» كان الفائز بهدوء، إذ خطف جائزة «أفضل فيلم»، ويحكي خلفيات القصة الصحافية التي تبنتها «بوستن غلوب» وكشفت من خلالها تعرض الأطفال إلى اعتداءات جنسية في الكنائس، لكنه لم يتوج بأي جائزة أخرى. وتوج المجري «صن أوف صول» بجائزة أفضل فيلم أجنبي، متفوقاً بذلك على العربي الوحيد المرشح لجائزة هذه الفئة وهو الأردني «ذيب» وفيلم فرنسي وآخر دنماركي وأخير من كولمبيا. «الحفلة العنصرية» قدمها «أسود» ببدلة بيضاء إن كنت مهتماً ولو في صورة سطحية بالأفلام ومهرجان الأوسكار، فقد سمعت بالتأكيد الاتهامات الكبيرة التي وجهت إلى القائمين على الجائزة بالعنصرية ومحاربة الأميركيين من أصول أفريقية، لذلك كان خطاب مقدم الحفلة مركزاً على تلك الجوانب وعالجها في صورة موضوعية على رغم حساسيتها. كريس روك الكوميدي الشهير الذي تصدر المسرح مرتدياً بدلة بيضاء قال صراحة إن زملاءه من أبناء الشريحة الأميركية الأفريقية طالبوه بمقاطعة الجائزة، ورفض تقديم حفلتها، فعلق على ذلك خلال تقديمه الحفلة بقوله: «لماذا تأتي كل مطالبات المقاطعة من أشخاص عاطلين عن العمل، هل يمكن أن تلغى حفلة الأوسكار إن قررت مقاطعتها»، ذهب أبعد من ذلك فانتقد الحملة الموجهة إلى الأوسكار. بحسب روك فإن اعتراضات من هذا النوع ما كانت لتحضر في الخمسينات الميلادية أو قبلها، وزاد: «في ذلك الوقت كان الأميركيون من أصول أفريقية يملكون قضايا أكثر أهمية يقاتلون من أجلها، كانوا يغتصبون ويهانون في الشوارع، ما كان من الممكن أن يهتم أحد بالفائز بجائزة أفضل فيلم أجنبي قصير بينما تتدلى جثة جدته من أعلى شجرة». لكن روك ذهب بعيداً جداً في التعامل مع قضية العنصرية في هوليوود فقال مثلاً: «تريدون أي يفوز أميركي أسود البشرة بجائزة في كل عام لنخترع إذ جائزة أوسكار لأفضل ممثل أسود! هانحن نفعل الأمر ذاته بتقسيم الرجال والنساء ضمن فئات مختلفة، أليس الممثل ممثلاً لماذا يجب علينا تفريق الرجال عن النساء في هذا المهرجان»، لكنه عاد ليشرح أن ابتكار جائزة للأميركيين من أصول أفريقية سيمثل العنصرية في أبرز صورها، ذلك أنه يعزلهم عن المجتمع، ويفصلهم عن بقية الممثلين على رغم أنهم تماماً مثلهم، جزء من مجتمع يضم الأعراق كافة. لكن روك لم ينكر عنصرية هوليوود، عاد أخيراً ليعترف بأن أبناء جلدته لا يحصلون على أدوار مميزة، وأنهم منبوذون حين يكون الحديث عن أفلام قادرة على خطف الألقاب، وزاد: «ديكابريو يظهر كل عام في فيلم مميز، وغيره كثيرون من أبناء البشرة البيضاء، لماذا لا نرى أميركيين من أصول أفريقية في أفلام ضخمة؟ جيمي فوكس أحد أفضل الممثلين في العالم، لماذا لا نراه كل عام؟ إننا بحاجة إلى فرص عادلة، تلك رسالة للمنتجين حول العالم، أمنحونا الفرص الكافية لنكون هنا على هذا المسرح». «ذئب» نام في «بطن حصان» ليفوز أخيراً! قبل ثلاث سنوات وتحديداً قبل موسم أوسكار خرج منه خالي الوفاض كالمعتاد، سألت مذيعة «سي بي إس» الأميركية ليناردو ديكابريو: «كيف لشخص يمتهن التمثيل حياة أن يجد صعوبة في الخروج على مسرح الأوسكار والحديث عن فوزه»؟ حينها أصر الفائز أخيراً أن «ذلك الحدث لا يشبه غيره، وأن التمثيل واستقبال جائزة بتلك الضخامة أمران مختلفان تماماً»، لكنه عاد لينكر ذلك تماماً البارحة. خرج الممثل الأربعيني وكأنه لم يخسر فرصة الفوز بتلك الجائزة خمس مرات من دون مبرر مقنع، ظهر على المسرح لا ليتحدث عن الفيلم، ترك كل ذلك ليقول بثقة من يعيد مشهداً عادياً من حياته: «شكراً لتوم هاردي شريكي في هذا الفيلم، شكراً لممثل نجح في سنتين فقط في صناعة ما عجزه عنه الآخرون»، بعدها شكر المخرج وطاقم العمل والشركة المنتجة، قبل أن يشكر والديه وأصدقائه، وأخيراً تحدث بانفعال كبير عن البيئة والاحتباس الحراري، مطالباً الحضور بتجاهل السياسة وأبطالها والعمل على حماية الأرض، قال: «واجهنا حرارة في العام 2015 لم نعرفها قبل ذلك، حافظوا على الأرض لأحفادكم»، قاطعه الحضور غير مرة بالتصفيق. بدا ديكابريو معتاداً على الفوز على رغم أنه يحمل التمثال الذهبي للمرة الأولى، لم يكن مستفزاً كما بدا أنصاره حول العالم، إذ واصلوا الهجوم على أكاديمية الأفلام، ذهبوا أبعد من ذلك فشتموا القائمين على الجائزة من خلال صفحة تعريف الممثل على «ويكيبيديا»، وبثوا ردود فعل حملت سيلاً وابلاً من العبارات المسيئة على «يوتيوب»، ماذا لو كان ديكابريو خسر أيضاً هذا العام؟ سؤال تخشى الأكاديمية الإجابة عنه، كيف لها أن تفسر خسارة ممثل نام في بطن حصان بعد أن أكل كبده نياً. أما «ذئب وول سترتيت» فترك المسرح من دون دموع، أو ذهول أو نقمة من أي نوع على ما فات، حضرت الدموع في عيون غيره، زميلته السابقة في فيلم «تايتانك» كيت ونسلت كانت أكثر الحضور تأثراً بالمشهد، فبكت وكأن اللقب ذهب إلى خزانتها، على رغم أنها لم تكن من بين المتوجين أبداً تلك الليلة. باختصار خطف الممثل الأشقر كل أضواء الليلة، حول كل من حوله إلى ضيوف في حفلة تتويجه، ألغى عظمة تتويجهم، انتقم من القائمين على الجائزة، من دون أن ينوي ذلك، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بأخبار فوزه، وبماذا قال وفعل قبل وبعد اللقب، يترجم ذلك بحث بسيط عن أحداث حفلة «أوسكار» أول من أمس على «يتوتيوب»، ليعرض مئات النتائج التي تحمل صورة ديكابريو على أول مشاهدها. لاحق ديكابريو هذه الجائزة منذ سنواته الأولى ممثلاً، كان فوزه بها أمراً شبه حتمي، لكنه حدث انتظر 22 عاماً، إذ رشح أول مرة بصفته أفضل ممثل مساعد في العام 1994 عن فيلم «ماذا يزعج غليبرت غريب؟» كان حينها في ال19 من عمره، وفاز بها بعدما كسر حاجز ال40 بعام، وبين المرتين رشح بصفته أفضل ممثل ثلاث مرات، في العام 2005 عن «الطيار» وبعدها بعام عن «ألماس الدماء»، وقبل الأخيرة رشح مرتين عن «ذئب وول ستريت»، بصفته أفضل ممثل ومنتجاً للفيلم، قبل أن يفوز بها هذا العام. أن تصور المستحيل... أن تحقق المستحيل «إنه يصنع لكل فيلم هويته المستقلة، لا ينقل صورة من فيلم إلى آخر، بل يبتكر صورة ومعها هوية كل فيلم»، هكذا يصف المصور السينمائي جون سيلي زميل مهنته الفائز أمس بلقب الأوسكار إيمانويل لوبزكي الملقلب ب«تيشفو»، تتويجه بالأمس عن فيلم «العائد» (ريفرنت) لم يكن حدثاً غريباً فهو يحمل اللقب ذاته للمرة الثالثة على التوالي، مشهد لم يتكرر مع مصور سينمائي آخر من قبل. ستيف جي سكوت مشرف التعديلات في فيلم «العائد» مسحور بما يمكن لهذا المصور تحقيقه، يقول: «كل ما ينتجه تيشفو يبدو فريداً مختلفاً، والأهم من ذلك حقيقياً، لم أكن أفهم حين كنت أعمل معه لماذا كان يصور ما يصور، الغيوم والشمس في مشاهد مختلفة لكنني ذهلت حين رأيت النتيجة النهائية». قرر «تشيفو» على عكس كل النصائح أن يكتفي بالضوء الطبيعي في تصوير «العائد»، بغية الوصول إلى صورة رسمها في ذهنه، قبل أن يبدأ، ما كان ممكناً لأحد غيره أن يتخذ قراراً من هذا النوع، اضطر الفريق إلى تقديم التنازلات وتحمل المتغيرات، لكن بعضهم عجز عن ذلك، كان موقع التصوير أصعب من أن يحتمل، برودة الأجواء والتصوير في النهار فقط يترك للشمس قرار توقف العمل، إضافة إلى الالتزام باللقطات الطبيعية البعيدة عن استديوات هوليوود المصطنعة، ظروف عقدت بيئة الإنتاج، فأجبرت كثيرين على الرحيل، لكنها أنتجت ما بحث عنه إيمانويل. كل شيء في هذا الفيلم يشبه مخرجه هكذا يقول أبناء المهنة عن إيمانويل، لكنهم يقولون أيضاً إن زميلهم المبهر كان في كل مرة يأخذ شكلاً وضوءاً مختلفاً، فحين صور «الجاذبية» (غرافيتي) الذي منحه الأوسكار الأول نقل الفضاء وأحداث خيالية فكانت الحاجة إلى الضوء مختلفة عما هي عليه اليوم، وحين كسب الجائزة ثانية في العام الماضي صور نيويورك من زاوية لم يعرفها مصور غيره في فيلم «بيردمان». واليوم في فيلم «العائد» تركض الكاميرا خلف الأبطال وبين الأشجار فتهرب الشمس مرة عما يحجبها لتظهر بكل فتنتها فتتضخم الصورة، وكذلك تفعل السحب التي يصورها في أعين بطل الفيلم فينقل المشاهد إلى قلب الحدث. أن تفوز مرة بالأوسكار عن أفضل تصوير سينمائي يعني بلا شك أن قيمتك السينمائية باتت معلنة على الملأ، لكن فوزك بالجائزة ذاتها ثلاث مرات وعن ثلاثة أفلام مختلفة تماماً من حيث موقع التصوير، يعني فقط أنك الأفضل بين زملائك، وأن حضورك ضمن طاقم عمل هو إشارة للجميع بضرورة ترقب الصورة الناجمة عن وقوفك خلفها.