تأتي تيمة «المقاومة الثقافية» في مهرجان السودان للسينما المستقلة في نسخته الثالثة الممتدة بين 21- 27 كانون الثاني (يناير)، وكأنها محاولة جديدة لاختراق الحصار الأميركي بكل ما ينطوي عليه من حظر اقتصادي وعقوبات مفروضة والتي تعتبر من أكبر الأزمات الاقتصادية التي واجهت السودان منذ فُرضت عليه عام 1997 والتي عزلته تجارياً عن العالم، وتسببت بأضرار بالغة بالمواطن السوداني في معاشه ودوائه. هذه العقوبات التي تعتبر أكبر تهديد للأمن الاجتماعي تهدف إلى إبقاء السودان في دائرة الفقر والتخلف، لذلك تعتبر الدورة الثالثة من مهرجان السودان للسينما المستقلة محاولة ذكية وليس فقط، لأنه من خلالها يسعى المنظمون إلى كسر هذا الحصار الجائر الذي أرهق كاهل المواطن وأجبره على دفع فاتورة باهظة الثمن، ولكن أيضاً لأنها محاولة لمد جسور العلاقات الوثيقة مع الشعوب من خلال فن السينما والفنون المجاورة. انطلقت فعاليات الدورة الجديدة من جزيرة توتي - على ضفاف النيل الأزرق - والتي تسلمت أخيراً جائزة الأممالمتحدة لأفضل ثماني مجتمعات درأت الكوارث، واختير للافتتاح الفيلم الوثائقي «المطلوبون ال 18» من فلسطين الدولة ضيف الشرف لهذا العام. واستطاع المخرج السوداني طلال عفيفي - الأب الروحي للسينما المستقلة في السودان - وفريق عمله تحت مظلة مؤسسة «سودان فيلم فاكتوري» استحضار ما يزيد على تسعين فيلماً من 35 دولة منها دول أوروبية من المفترض أنها منضمة إلى الحصار الأميركي. واللافت أن بعض المؤسسات والمعاهد التابعة لعدد من تلك البلدان الأوروبية في السودان شاركت بوسائل متنوعة لدعم جهود الشباب والشابات المنظمين للمهرجان ومنها مثلاً معهد غوته والمعهد البريطاني والمركز الإيطالي وغيرها من الجهات الراعية للمهرجان والتي عملت بقوة لإنجاز تلك الدورة. من دون أن ننسى الدعم السويسري المتمثل في حضور عدد من المخرجين والمنتجين وصناع الأفلام لتدريب السينمائيين الشباب في السودان، إلى جانب المبادرة السويسرية - المقدمة من اللجنة السويسرية في منظمة اليونسكو والتي تعتبر قبلة حياة للسينما في السودان - والمستمرة حتى عام 2018 وتتعهد بإنتاج ثمانية أفلام روائية طويلة لمخرجين سودانيين وإعادة فتح دور السينما القديمة التي لها تاريخ بالسودان وذلك بعد ترميمها وإمدادها بالأجهزة التكنولوجية اللازمة. شيء من النشاط العملي وهذا كله إلى جانب إقامة العديد من ورش العمل اللازمة لتأهيل الشباب وتدريبهم وتزويدهم بالخبرات والمعارف السينمائية، وإقامة مهرجانات سينمائية ومسرحية أدبية بمدينة «كرماكول» التي بدأت في التجهيز لمهرجان ثقافي سنوي سيحولها قريباً إلى ستوديو ضخم لتصوير الفيلم الروائي الطويل المقتبس عن رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» وذلك بإنتاج مشترك وسيحمل الفيلم توقيع المخرج المصري السوداني أحمد عبدالمحسن. يُذكر أنه طوال فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان السودان للسينما المستقلة - وإلى جانب العروض السينمائية - كانت هناك ورش العمل والمحاضرات المتخصصة في الإخراج والتصوير والمؤثرات الصوتية والإنتاج والكتابة وتصميم أزياء الأفلام، وكذلك محاضرة خاصة بضرورة التنسيق بين مديري الأقسام في الشريط الفيلمي والتي من أجلها تمت استضافة أكثر من 20 ضيفاً من سويسرا وإيطاليا وعدد من المتخصصين السودانيين المقيمين في الخارج. هذا و توزعت عروض أفلام الدورة الثالثة من المهرجان بين ثلاثة مدن ففي بحري أقيمت العروض في منتدى دال الثقافي، وفي الخرطوم تمت العروض بالتعاون مع المعهد الألماني «غوته» والمركز الثقافي البريطاني وكذلك في مكتبة وقاعة مطالعة دافينشي بجامعة الخرطوم، إضافة إلى مركز أم درمان الثقافي الذي أقيمت به ورش العمل والمحاضرات وكل العروض الصباحية. وإلى جانب ستة عروض متنوعة لسينما المقاومة منها «3000 ليلة» لمي مصري، وروشميا لسليم أبو جبل و»يوميات شهر زاد» لزينا دكاش، تضمن المهرجان كذلك ثلاثة أقسام رئيسية هي: السينما العربية، السينما الإفريقية، وسينما العالم. أما المسابقة الرسمية والتي استحدثت هذه الدورة فاقتصرت على الأفلام السودانية فقط وأطلق عليها اسم جائزة «حسين شريف لأفضل فيلم سوداني» والجائزة عبارة عن مجسم «الفيل الأسود» - وهو نفسه شعار المهرجان - وقد حصل على الجائزة الفيلم الوثائقي «من الداخل للخارج» inside out للمخرجين سلوى الخليفة، وفهد العبيدلي، وتكونت لجنة تحكيم الجائزة من كل من المخرجين السودانيين سليمان محمد إبراهيم وسارة جاد الله جبارة ومحمد حنفي، وكاتبة هذه السطور، والمنتج السويسري كود ماير. لماذا حسين شريف؟ اختار منظمو المهرجان أن يكون يوم 21 كانون الثاني (يناير) موعداً ثابتاً لافتتاح دورات المهرجان السابقة والمقبلة لأنه يوافق يوم رحيل حسين شريف والذي تمنح الجائزة باسمه. فهو إلى جانب كونه فناناً تشكيلياً له مساهمات مميزة في هذا المجال يعتبر أيضاً الأب الروحي لرئيس المهرجان - طلال عفيفي - والذي يعتبره أحد أهم الرواد في الحركة السينمائية السودانية وله مجموعة من الأفلام التي شاركت في مهرجانات دولية مختلفة وحققت نجاحاً واضحاً من بينها فلم «انتزاع الكهرمان» 1975. أما عن سر اختيار الفيل فلأنه وفق تصريح عفيفي «كائن يقاوم القتل والتصحر، والأسود إشارة للنقاء والقوة والأناقة... وبالعلاقة مع إفريقيا فإن الفيل يعبر في شكل أصيل عن روح المقاومة الثقافية التي اتّخذت شعاراً لدورة هذا العام». أما عن أهداف المهرجان فيُضيف عفيفي: «نحاول من خلاله تحقيق حلمنا المنشود والممثل في عودة دور السينما والثقافة السينمائية للسودان، وأن نعيد ترتيب البينية بين المجتمع الفني والثقافي من جهة والدولة والمؤسسات من جهة أخرى، لنحاول المساهمة في إيجاد مساحات مشتركة للعمل، وترتيب الأوليات الإستراتيجية، وتعزيز الثقة والكفاءة في التعامل».